أرشيف المقالات

أثر الدعوة المستجابة في الكون!

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
أثر الدعوة المستجابة في الكون!


تأمَّلت قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((أنا دعوةُ أبي إبراهيم))؛[1] فرأيتُ أن الدعوةَ المستجابة لها آثارٌ عظيمة في الكون، ولها امتداداتٌ عبر الزمان والمكان، وبيانُ ذلك:
أن إبراهيمَ عليه السلام كان شديدَ الاهتمام بذريّته، كثيرَ الدعاء لهم، فدعا ربَّه بقوله كما أخبر الله عنه: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]، فاستُجيبَتْ هذه الدعوة بعد أكثر من (2500) سنة تقريبًا، عندما بعث الله رسوله محمدًا في مكة؛ ليُزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، وعمَّ النور أرجاء الدنيا، قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2]، فكلُّ خيرٍ جاء به هذا النبي صلى الله عليه وسلم هو أثرٌ من آثار هذه الدعوة المباركة التي دعا بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
 
ولكن قد يقال:
وكيف نُوفِّق بين ظاهرِ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((أنا دعوةُ أبي إبراهيم))، وبين ما جاء عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسولَ اللَّه، متى وجبَتْ لك النُّبوَّة؟ قال: ((وآدمُ بينَ الرُّوح والجسد))[2]، وظاهرُه أن نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سابقةً على دعوة إبراهيم عليه السلام؟
 
والجواب أن يقال: لعلَّ الحكمة من ذلك:
1- أن هذه الدعوةَ وافقت قدرَ اللهِ السابق من أن محمدًا نبيٌّ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/ 324): "يقول تعالى إخبارًا عن تمام دعوة إبراهيم لأهلِ الحرمِ؛ أن يبعثَ اللهُ فيهم رسولًا منهم؛ أي: من ذريَّة إبراهيم، وقد وافقَتْ هذه الدعوة المُستجابةُ قدرَ الله السابق في تعيين محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه رسولًا في الأمِّيِّين إليهم إلى سائر الأعجمين من الإنس والجن".
 
2- وقال ابن رجب: المقصودُ من هذا الحديث: أن نبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانت مذكورةً معروفةً من قبل أن يخلقَه اللهُ ويُخرِجَه إلى دار الدنيا حيًّا، وأن ذلك كان مكتوبًا في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام.
وفسَّر أم الكتاب بـ(اللوح المحفوظ)، وبـ(الذِّكر) في قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39].
 
3- أن الله سبحانه ألهم إبراهيمَ عليه السلام أن يدعوَ بهذه الدعوة زيادةً في شرف النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتنويهًا برِفْعةِ منزلته.
4- وفيه إعلانُ الارتباط بأبي اﻷنبياء إبراهيم عليه السلام.
5- أنه كان نبيًّا في ذلك الوقت، ثم أعاد اكتتابَه نبيًّا استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام.
 
وقد قال الطحاويُّ كلامًا قريبًا من ذلك في كتابه شرح مشكل الآثار (5977):
"وأما قولُه صلى الله عليه وسلم: ((كنت نبيًّا وآدمُ بينَ الرُّوح والجسدِ))، فإنه وإن كان حينئذ نبيًّا، فقد كان اللهُ تعالى كتبَه في اللوح المحفوظ نبيًّا، ثم أعاد اكتتابَه إيَّاه في الوقت المذكور في هذا الحديث، كما قال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105]، وكان عزَّ وجل قد كتب ذلك في اللَّوْح المحفوظ، ثم أعاد اكتتابَه في الزَّبُور المُحزَّبة بعد ذلك، فمثلُ ذلك اكتتابُه عز وجل النبيَّ عليه السلام وآدم بين الروح والجسد، بعد اكتتابِه إيَّاه قبل ذلك في اللَّوْح المحفوظ أنه كذلك، وبالله التوفيق".
 
ومن اﻷمثلة على ذلك: دعوةُ امرأةِ عمران، قال الله تعالى مخبرًا عنها: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35].
وكانت تريدُه ذكرًا ليقومَ بالخدمة، فاستجاب الله تعالى لها بخيرٍ مما طلبت؛ إذ رزقها بمولودٍ أنثى لتكونَ أمَّ الولد الذي تريدُه، وقد أكرمها بعيسى عليه السلام نبيًّا رسولًا من أُوِلي العزم.
 
واقرأ قولَه تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾} [آل عمران: 37].
 
واﻷمثلةُ في كتاب الله تعالى كثيرة جدًّا.

[1] أخرجه أحمد في مسنده (4/ 127 ) (16700)، وابن حبَّان (6404)، والحاكم في المستدرك (2/ 600) عن العِرباضِ بنِ ساريةَ، وقال الحاكم: "حديثٌ صحيح الإسنادِ"، وأقرَّه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 222): "رواه أحمدُ بإسناد حسن، وله شواهدُ تُقوِّيه، ورواه الطبرانيُّ".
ولفظه: ((إني عبدُ اللهِ لخاتمُ النبيِّين، وإن آدمَ عليه السلام لمنجدلٌ في طينتِه، وسأنبِّئكم بأول ذلك دعوةُ أبي إبراهيم ...)).
وله لفظ آخرُ من حديث خالدِ بنِ معدان عن نفرٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند ابن إسحاقَ في "السيرة" 1/ 175- ومن طريقه أخرجه الطبريُّ (2070)، والحاكم 2/ 600، بلفظ: ((أنا دعوةُ أبي إبراهيم ...))، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبيُّ.
وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ قال: قلتُ: يا نبيَّ الله، ما كان أول بدْءِ أمرِك؟ قال: ((دعوةُ أبي إبراهيم، وبُشْرى عيسى، ورَأَتْ أمي أنه يخرجُ منها نورٌ أضاءت منه قصورُ الشام))؛ أخرجه أحمد في مسنده 5/ 262.

[2] أخرجه الترمذيُّ في جامعه (3609)، وقال: "هذا حديثٌ حسن غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفُه إلا من هذا الوجهِ".
وعن ميسرة الفجر قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، متى كُتِبْتَ نبيًّا؟ قال: ((وآدمُ بينَ الروح والجسدِ))؛ أخرجَه أحمدُ في مسنده (20596)، والحاكم في مستدركه (4209)، وقال: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يُخرِّجاه، وشاهدُه حديث الأوزاعي"، ووافقه الذهبيُّ.
وقال الهيثميُّ في مجمع الزوائد (13848): "رواه أحمدُ والطبراني، ورجاله رجالُ الصحيح".

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣