فقه الأسرة - الحقوق المشروطة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الله تعالى فرض على المسلم القيام بالحقوق والواجبات، والوفاء بالعهود، قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فكل ما بين المسلم والمسلم من عهدٍ وعقدٍ وشرطٍ فإنه يجب الوفاء به، إذا التزم به الطرفان أو التزم به أَحدهما، ولذلك عظّم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أمور الشروط، حتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالوفاء بها، والقيام بحقوقها، خاصةً إذا كانت هذه الشروط في عقد النكاح والزواج، فإذا وقع الزواج والنكاح، وكان هناك شروطٌ بين الزوجين، فإن الله عز وجل حمّل كل واحدٍ منهما الوفاء بما عليه من شرط.

ولا يجوز للمسلم أن ينكث العهد ويُخلِف الوعد ولا يفي بشرط إلا إذا كان مضطراً، وأذن له الطرف الثاني، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله.

فالأصل أنه ليست من شيمة المسلم أن يضيع الشروط التي التزم بها، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) أي: أن الله سبحانه وتعالى جعل على كل إنسانٍ التزم بالشرط، جعل عليه حقاً أن يوفي بذلك الشرط، فإذا وفى بالشرط فقد أدى الحق كاملاً إلى أهله، ومن عادة الناس في عقود الزواج والأنكحة، أنه تقع بينهم شروط، فيشترط ولي المرأة على الزوج شروطاً، ويشترط الزوج على زوجته شروطاً، وحينئذٍ يرد السؤال عن موقف الشرع من هذه الشروط: ما الذي أذن الله به، فيفعل ويلزم الوفاء به؟ وما الذي نهى الله عنه، فلا يجوز اشتراطه، ولا يجوز الالتزام به؟

ومن هنا كان من الأهمية بمكان أن يعتنى عند بيان حقوق الزواج، ببيان الشروط؛ لأن الشرط نوعٌ من الحق، فإذا كانت الحقوق يلزم الوفاء بها، كذلك الشروط يلزم الوفاء بها، ومن هنا قال العلماء: إن الحقوق في الزواج منها ما هو شرعي، جعله الله عز وجل في أصل العقد، ومن لوازم العقد ومقتضياته، ومنها ما هو جعلي، بمعنى: أنه جعله الزوجان أو واحد منهما، فهذا الذي جُعل من الطرفين، أو من أحدهما، هو محل حديثنا اليوم، وهو الذي سنبين موقف الشرع منه، فالشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: شروطٌ شرعية، ينبغي الوفاء بها، ويلزم الطرفان أن يقوما بحقوقها.

القسم الثاني: شروطٌ غير شرعية، وهي الشروط المحرمة.

شروط شرعية يلزم الوفاء بها

أما الشروط الشرعية: فهي تنقسم إلى أقسام، فمنها ما هو من لوازم عقد النكاح، والمراد بهذا النوع من الشروط: أن يشترط ولي المرأة أو المرأة أو الزوج، أمراً هو من لوازم عقد النكاح، ومن أشهر هذه الشروط: أن يشترط ولي المرأة على الزوج، أن يمسك بمعروف، أو يسرح بإحسان، وهذا الذي يسميه العلماء بالميثاق الغليظ، قال الحسن البصري وطاوس بن كيسان ، وقتادة والضحاك -رحمة الله على الجميع- في تفسير قوله تعالى: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، قالوا الميثاق الغليظ: إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان، فتلك هي العصمة التي أمر الله عز وجل أن يقوم النكاح بها، فهذا الشرط لو اشترطه ولي الزوجة، أو اشترطته الزوجة على زوجها، شرطٌ شرعي هو من مقتضيات عقد النكاح، قال بعض العلماء: كان السلف إذا زوجوا أو أنكحوا الغير اشترطوا عليه وقالوا: إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، وفي حكم هذا الشرط أو مثله، ما يقوله العامة اليوم، يقول ولي المرأة: زوجتك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي: زوجتك بنتي أو أختي على أن تلتزم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عِشرتها، والقيام بحقوقها، ورعايتها.

قال العلماء: إذا اشتُرط هذا الشرط؛ وجب الوفاء به، ولزم الزوج أن يقوم بتحقيقه وأدائه على وجهه، فإذا أضر بالمرأة ناله الإثم والعياذ بالله من وجهين، فلو أنه عاشر المرأة ولم يشترط وليها عليه الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان أثم من وجهٍ واحد، وهو تضييع حق الله، مع ما للمرأة من المظلمة، لكن إذا أُخذ عليه هذا العهد في عقد النكاح أثم من وجهين، والعياذ بالله:

أولاً: تضييع حق الله الذي ذكرناه.

وثانياً: أن عليه عهداً لم يوف به، ونقض العهود من شيمة أهل النفاق، ومن صنيع أهل النار -والعياذ بالله- كما ذكر الله أوصافهم في كتابه، ولذلك قال العلماء إن هذا الشرط وإن اعتاده الناس وألفوه لكنه عظيم، ولذلك وصفه الله بكونه ميثاقاً غليظاً، فإذا اشترط ولي المرأة أو اشترطت المرأة الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، فهو شرطٌ شرعي، ومن مقتضيات عقد النكاح.

كذلك أيضاً من الشروط المشروعة التي يلزم الوفاء بها: أن يتضمن الشرط جلب مصلحةٍ أو درء مفسدة، لا يعارض كل منهما شرع الله، فتشترط المرأة أو يشترط الزوج مصلحةً دينيةً أو دنيوية، ويشترط ولي المرأة مصلحةً دينية أو دنيوية، وهذه المصلحة التي يشترطها كل منهما لا تتعارض مع الشرع، بل قد تتفق معه، فالمصلحة تنقسم إلى قسمين: إما أن يشترط مصلحةً دينية، وإما أن يشترط مصلحةً دنيوية.

قد يشترط ولي المرأة مصلحةً دينية، كأن تقول موليته له: اشترط أن يكون زوجي ديناً، أو عالماً، أو طالب علمٍ، أو حافظاً لكتاب الله، أو خطيباً، أو إماماً، أو نحو ذلك من الأوصاف التي هي كمالٌ في الدين، وكمالٌ في الطاعة والالتزام، فهذا شرطٌ ديني، والرجل أيضاً يشترطه على المرأة، فيقول لوليها: أشترط أن تكون حافظة لكتاب الله، أو تكون طالبة علم، أو نحو ذلك مما هو من كمالات الدين.

هذا الشرط وهو اشتراط المصلحة الدينية الكاملة، أفضل شرط وأحب شرطٍ إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) فخاطب الزوج أن يبحث عن صاحبة الدين، وخاطب أولياء المرأة فقال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه)فهذا الشرط وهو اشتراط المصلحة الدينية الكاملة، هو أفضل الشروط، وأحبها إلى الله عز وجل.

أما المصلحة الدنيوية المحضة، مثل أن يشترط الرجل أو تشترط المرأة مالاً أو مصلحةً مالية، كأن يشترط ولي المرأة أن يكون الزوج تاجراً، أو موظفاً، أو له مهنة معينة، فهذه مصالح دنيوية.

فإذا اشترط الزوجان، أو اشترط أحدهما مثل هذه الشروط التي لا تخالف شرع الله في جلب المصالح فإنه يجب الوفاء بها، وحينئذٍ يلزم ولي المرأة ما التزمه من الشرط في العقد، وعلى هذا فلو دخل على المرأة، فلم يجدها حافظةً لكتاب الله، كان له الخيار، أي: أن له خيار الفسخ؛ لأن المسلمين على شروطهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون على شروطهم)، وفائدة الاشتراط، ثبوت الخيار.

كذلك أيضاً يشترط درء المفسدة عن نفسه، فيشترط ألا تكون فيها مفسدة دينية، كأن لا تكون فاسقة، وتشترط المرأة على وليها أن يشترط على الزوج ألا يكون فاسقاً، وقد تشترط درء مفسدةٍ دنيوية، كأن لا يكون عصبياً، أو مريضاً في نفسه، أو بدنه، أو نحو ذلك من العاهات التي تشترط عدم وجودها في الزوج، أو يشترطها الزوج ألا توجد في المرأة. مثل هذه الشروط التي تجلب بها المصالح وتدرأ بها المفاسد وتكون موافقة للشرع، يلزم الوفاء بها، وعلى ولي المرأة أن يوفي بها للزوج، وعلى الزوج أن يوفي بها لولي المرأة، لكن اختلف العلماء في شروطٍ فيها جلب مصالح أو درء مفاسد يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر، هل هي من النوع الأول، أو من النوع الثاني.

ومن أشهر ما اختلفوا فيه أن تشترط المرأة على زوجها ألا يخرجها عن والديها، ألا يخرجها من مدينتها، أو ألا يسافر بها، أو تشترط عليه ألا يتزوج عليها، أو ألا تكون عنده زوجة، فمثل هذه الشروط اختلف العلماء رحمهم الله فيها، هل هي مشروعة؟ أو ليست بمشروعة؟ وسيأتي الكلام عليها في القسم الثالث من الشروط.

شروط محرمة لا يلزم الوفاء بها

بالنسبة للقسم الثاني من الشروط، وهي الشروط المحرمة، فإن منها ما يفسد عقد النكاح، ومن أمثلته: أن يشترط الزوج تأقيت عقد النكاح، فيقول: أتزوجها شهراً، أو أتزوجها سنةً، أو أتزوجها نصف عام، فهذا نكاح المتعة، ويوجب فساد العقد من أصله.

ومما يوجب فساد العقد ويخالف الشرع أن يشترط البدل، فيقول: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، أو زوجتك أختي على أن تزوجني بنتك أو أختك، فهذا نكاح البدل والشغار، وهو نكاح فاسد.

فهذان النوعان عارضا الشرع، أما الأول فنكاح المتعة، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه نهى عن نكاح المتعة)، ونكاح المتعة: هو النكاح المؤقت بزمانٍ معين، كأن يجعله إلى سنة أو إلى شهر أو إلى شهور يحدد أمدها، واختلف العلماء لو أنه تزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها، أو جاء إلى بلدٍ ينوي الإقامة مدة، وأراد أن يتزوج ثم يسافر، وهذا كما يسميه العلماء بزواج الرّكاض، والرّكاض: هو الرجل الذي لا يستقر في أرض، كأصحاب التجارات ينزلون في الأمصار، يطلبون أرزاقاً، يتأقّت جلوسهم فيها بحسب تلك الأرزاق، فيطول مقامهم ويقصر على حسب مصالحهم، فهم غير مستقرين، فهذا النوع من النكاح وهو أن يتزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها، لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يخبر المرأة بنيته، أو يخبر ولي المرأة بالنية، ويتفقان على أنه يريدها لسنة، أو يريدها مدة دراسته، أو مدة إقامته في المدينة، ثم بعد ذلك يطلق، فهذا نكاح متعة، وهو محرم بالإجماع.

الحالة الثانية: لكن إذا لم يُخبِر، وتزوج المرأة وفي نيته أنه إذا اقتضت مصلحته خرج من المدينة، وأنه يطلق، فللعلماء فيه وجهان، أصحهما: أن النكاح صحيح، وأنه لا حرج عليه في ذلك؛ لعموم الأدلة؛ ولأن النهي عن التأقيت الظاهر، وأما الباطن فلم يرد فيه نهيٌ يدل على تحريمه؛ ولأن فعل السلف وما كانوا عليه مشهورٌ، أنهم كانوا يرتحلون لطلب العلم وللتجارة، وكان الرجل ينزل المصر والقرية مدة تجارته، فيتزوج بها، ثم يترك أهله ويسافر إلى بلدٍ آخر، فقالوا: إنه لا حرج عليه في ذلك، واختار هذا القول جمعٌ من المحققين، وأفتى به شيخ الإسلام رحمة الله عليه، وهو الصحيح كما ذكرنا، ولما فيه من درء كثيرٍ من المفاسد، فإن الرجل تكون عنده المرأة ضعيفة لا تطيق السفر، وقد لا ترضى بالخروج معه، ويسافر إلى بلادٍ عديدة، فيتعرض فيها إلى فتنة، وقد يسافر إلى بلد يلزم عليه المكوث والجلوس فيه، فإذا قلنا له: لا تتزوج وأنت عندك نية الطلاق، فإنه لا يأمن الوقوع في الحرام، ومصلحته تلزمه بالبقاء في هذا البلد، ولذلك كان من شرع الله التيسير على نحو هذا، خاصةً إذا عمّت به البلوى، كما هو الحال في زماننا، ولكن مع هذا قال العلماء: إنما أجزنا نكاح مثل هذا؛ لأنه ربما غير نيته وصلحت له المرأة فأخذها معه، وهذا لا شك أنه قولٌ وجيه، وأن عموم الأدلة الدالة على جواز النكاح تقتضي صحته؛ ولأن الحكم في الشرع على الظاهر، وهذا لم يظهر للمرأة ولا للولي ما يريده.

أما بالنسبة للنوع الثاني من الشروط التي توجب فساد العقد، فقال العلماء: أن يكون هناك شرطٌ يخالف شرع الله عز وجل من كل وجه، كأن يشترط ما ذكرناه أولاً أنه يؤقِّت بالمدة، أو يكون نكاح البدل وهو نكاح الشغار. نكاح الشغار إذا اشترط وقال: أزوجك بنتي على أن تزوجني بنتك، فهذا لا يجوز، سواءً وُجِد مهر أو لم يوجد مهر، وبعض العلماء يقول: إذا وجد مهر، جاز النكاح. وهو مرويٌ عن نافع الراوي للحديث عن ابن عمر أنه إذا كان بينهما مهرٌ فلا بأس، والصحيح أن نكاح الشغار يحرم مطلقاً، والعلة في ذلك أنه إذا تزوج المرأة في مقابل المرأة، بمجرد أن يسمع أن المرأة الثانية ظُلمت سيظلم التي تحته، فإذا ضر هذا بامرأته، ضر هذا بامرأته، وإذا آذى هذا الأخت، آذى هذا أخته، فأصبح نكاحاً مفضياً إلى الظلم، ولذلك قال العلماء: إنه تدخله المحاباة، حتى لربما زوّج البنت الصغيرة لشيخٍ كبير، أو لمن لا صلاح في دينه ولا استقامة له، ويحابيه في ذلك لمصلحة نفسه، ولذلك قالوا: لا يجوز هذا النوع من النكاح، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن نكاح الشغار.

هناك نوعٌ ثانٍ من الشروط محرم، ولكنه لا يوجب فساد النكاح، وإنما يُلغى الشرط ويصحح العقد، ومن أمثلة ذلك: إذا تزوج المرأة واشترط الزوج أو اشترطت المرأة أن يكون المهر بشيءٍ محرمٍ شرعاً، كأن يكون المهر خمراً أو لحم خنزيرٍ أو نحو ذلك من المحرمات، فإنه يُصحّح بمهر المثل، فيُنظر إلى مثل مهر المرأة، ويُصحّح العقد به؛ لأن الأصل صحة العقد وبقاؤه، ومتى ما كان ممكناً أن نصحح العقد، فإننا نصححه؛ لأن القاعدة أن الإعمال أولى من الإهمال.

عرفنا الآن أن الشروط المحرمة منها ما يوجب فساد عقد النكاح كالمتعة والشغار، ومنها ما يوجب فساد المُسمَّى وهو المهر، ويصحح بمهر المثل.

هناك نوعٌ ثالث من الشروط يسقط ويبطل، وبعض العلماء يقول: يبطل ويبطل العقد معه، وبعضهم يقول: يبطل ويبقى العقد صحيحاً، ومن أمثلة ذلك: أن يتزوج المرأة ويشترط أن لا نفقة لها وألا يسكنها، فإن النفقة حقٌ من مقتضيات عقد النكاح، فإذا قال: أتزوجك بشرط أن لا أنفق عليك، فإنه ليس من حقه ذلك، وقد عارض شرع الله عز وجل، فيفسد هذا الشرط في قول طائفة من العلماء ويُصحح العقد، وقال بعض العلماء: يفسد العقد، والصحيح أنه يفسد الشرط دون العقد، فيبقى العقد صحيحاً، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله، فهو باطل)، وهذا يدل على أنه شرطٌ باطل، والنكاح بأصله صحيح.

وهنا مسألة وهي: أنه يتزوج المرأة ويشترط أن يكون له جزء من راتبها، أو يكون له مسمَّىً من الراتب، فهذا النوع من الشروط فيه نظر، والأصل يقتضي عدم جوازه، وذلك لما يأتي:

أولاً: أنه يخالف مقتضى الفطرة، حيث أن الرجل هو الذي ينفق على المرأة، فإذا بالمرأة هي التي تنفق عليه، والله تعالى يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، ولذلك قال العلماء: الأصل أن ينفق الرجل على المرأة، فإذا اشترط عليها أنها تنفق عليه، فهذا شرطٌ فاسد، وليس له حقٌ في هذا الشرط.

ثانياً: أنه يُعتبر من الظلم، وأكل المال بالباطل، والله تعالى يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، فإن المال إذا دُفع، لا يُستحق إلا في مقابل، وكونه زوجاً للمرأة، لا يقتضي معاوضة بالمال، وكونه يقول: هي تعمل، وهي موظفة، وتضر بمصالحي، نقول: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن ترضى بالإضرار بمصالحك التي في بيتك، وتسمح لها بالعمل، وإما أن تبقيها في البيت وتترك العمل. أما أن تأخذ من مالها بدون وجه حق، فليس هناك ما يبرر هذا، ولو قيل: إن المرأة تحتاج إلى رعاية أولادها، نقول: من حقك أن تمنعها من العمل، وأن تبقى لرعاية أولادها، ونص العلماء على أن من حق الزوج أن يلزم زوجته البقاء في البيت، لأنه الأصل، وأنه إذا سمح لها بعملها فلا إشكال، فإذا لم تطب نفسه، وألزمها أن تبقى؛ فمن حقه ذلك، لكن لو كان عنده أطفال، وكانت تعمل، وأرادت العمل، فقال لها: ائتي بمن يقوم على الأطفال، من خادمةٍ أو نحوها، وتكون نفقة الخادمة عليك، فلا بأس، قالوا: لأنها في الأصل مطالبة بخدمة أولادها، فإذا كانت تريد أن توجد من يقوم مقامها في خدمة الولد، وهي الخادمة مع أمن الفتنة، والمحافظة على ما يجب أن يُحافظ عليه، فإنه حينئذٍ لا بأس، وليس الزوج آخذاً لهذا القدر من الراتب بدون حق، إنما أخذه من جهة كونها مطالبة برعاية الأولاد، وحيث أن عملها يحول بينها وبين الرعاية، فجاءت بمن يحفظ أولادها، أو يحفظ البيت من كنسٍ وتنظيفٍ وطبخ في حال غيابها، وحاجة زوجها، فحينئذٍ لا إشكال؛ لأن المعاوضة قائمة، ولا يعتبر من أكل المال بالباطل. أما أن يقول لها هكذا: لي نصف راتبك، أو لي ربع راتبك، أو نحو ذلك، فليس هناك وجه للمعاوضة، وهو داخل في أكل المال بالباطل.

يقول العلماء: أكل المال بالباطل: أن يأخذ المال وليس في مقابله ما يوجب الأخذ، فكونه زوجاً ليس مما يوجب أخذ المال، ولو قلنا: من حقه أن يأخذ من راتبها بحكم الزوجية، لكان من حقه أن يأخذ من إرثها، وما تأخذه من والدها، وما يكون لها من الهبات؛ لأن هذا كله خارج من أصلٍ واحد، وهو مقام الزوجية، ولكن إذا اعتذر بضياع حقوقه، أو ضياع حاجته في داخل بيته من رعاية لأولاده، أو رعاية لطعامه وشرابه فنقول: تُقِم المرأة من يخدم، ويقوم بتلك الرعاية، ويكون ذلك على الوجه المعروف، ولا يأخذ من الراتب أصلاً. هذا بالنسبة لمسألة اشتراط النفقة، والمقصود أنه لا يجوز أن يشترط الرجل على المرأة أن تنفق عليه، وإذا حصل هذا الشرط، فإنه باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل) وإن كان مائة شرط.

شروط اختلف فيها العلماء

القسم الثالث: فهي الشروط التي اختلف العلماء فيها: هل هي مشروعة أم ليست بمشروعة؟

قالوا: من أمثلتها أن تشترط المرأة ألا تخرج من بيتها، أو ألا تخرج من عند أهلها، أو ألا يسافر بها.

ألا تخرج من بيتها: امرأة تريد أن تبقى عند أهلها وفي بيت أبيها فتتزوج وتكون في داخل بيته، أو تشترط عليه ألا يبعدها عن والديها، كأن تشترط أن تسكن في الحي الذي فيه والداها، أو ألا يخرجها من مدينتها، كأن يكون من مدينةٍ أخرى، وتخشى أن يسافر بها إلى مدينته، فقال: أشترط أن تبقى بنتي ولا تسافر. أو تشترط ألا تسافر معه، كأن يكون رجل صاحب تجارة وتخاف من السفر معه، فقالت: اشترط ألا أخرج معك في سفر. فمثل هذه الشروط اختلف العلماء فيها، وهي تنقسم في الأصل إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون هناك مبرر للشرط، بأن توجد حاجة ضرورية أو حاجة ملحة لولي المرأة أو للمرأة لكي تشترط هذا الشرط، من أمثلة ذلك: أن يكون للمرأة والدان، وهذان الوالدان ضعيفان، أو أحدهما مريض، ويحتاجان إلى رعاية وعناية البنت، وهي تريد أن تكون بجوار أبيها وأمها من أجل البر وحفظ حقيهما، خاصةً إذا لم يوجد أحد، فهي مضطرة ومحتاجة لمثل هذا الشرط، فحينئذٍ مثل هذا الشرط ينبغي للزوج أن يعينها عليه، وهو مأجور، والله يبارك للزوج في زوجته، إذا أعانها على طاعة الله وبالأخص بر الوالدين، فحينئذٍ يحاول أن يعينها على هذا الشرط، وهو شرطٌ له وجهه.

لكن إذا اشترط ولي المرأة ألا تخرج من بيته، وألا تسافر عنه، أيضاً له حالتان: إما أن يشترط لسبب، كأن يرى البنت صغيرةً في السن أو طائشة، ويريدها أن تكون قريبة منه، ويخشى أن سافر بها الزوج والزوج متساهل أن تقع بنته في فتنة أو حرام، أو يخشى أن يسافر بها الزوج إلى أهله وبينه وبين أهله عداوة أو نحو ذلك، فإن وجد ما يُبرر ذلك من ولي المرأة، كان شرطاً شرعياً، ومن حقه أن يشترط التأقيت، فيشترط إلى سنٍ معين، وإلى حدٍ معين، فيقول: أشترط ألا تخرج بنتي من المدينة إلى أن تبلغ عشرين سنة خوفاً من الضرر عليها، فهذا شرط يقصد به دفع الضرر، قال بعض العلماء: من حق الولي أن يشترط ذلك، لأنه شرطٌ في مصلحة الزوج والزوجة، وفيه إقامةٌ لطاعة الله عز وجل، وحفظ الله عن الحرام.

القسم الثاني: إذا كان هذا الشرط فيه شيءٌُ من الفضول، كأن تشترط ألا تخرج من بيت أبيها، أو لا تخرج من جوار والديها، وليست هناك حاجة من الوالدين، أو تشترط ألا تخرج من مدينتها، وليس هناك ما يبرر هذا الشرط، أو تشترط ألا يتزوج عليها، أو ألا تكون عنده زوجة، فهذا النوع من الشروط للعلماء فيه قولان:

القول الأول يقول: إنه شرطٌ لازمٌ وصحيح، ويجب على الزوج أن يفي به، وأنها إذا قالت له: أشترط ألا تتزوج علي مثلاً، وأراد أن يتزوج عليها في أي يومٍ بعد عقد النكاح، فإن من حقها أن تطالب بشرطها، وحينئذٍ يكون الفسخ، أي: ينفسخ النكاح، هذا بناءً على أنه شرط بينه وبينها، وبهذا القول قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وسعد بن أبي وقاص ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص رضي الله عن الجميع. أربعةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يرون شرعية مثل هذا الشرط، وكان بعض التابعين يفتي به، فهو قول شريح القاضي المشهور، وقال به عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب الحنابلة أنها إذا اشترطت ألا تخرج من مدينتها، أو ألا يسافر بها، أو ألا يتزوج عليها، أو ألا تكون عنده زوجة من قبل، أن هذا الشرط صحيح، وخالف هؤلاء جمهور العلماء سلفاً وخلفاً، فقالوا: ليس من حقها هذا الشرط، وإذا وقع هذا الشرط، فإنه شرطٌ باطل، وممن قال بهذا القول: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو راويةٌ أخرى عن عمر بن الخطاب ، كانوا يقولون إذا اشترطت فإن هذا الشرط لاغٍ. رُفع إلى عمر بن الخطاب امرأة اشترطت على بعلها، واشترط أهلها ألا تخرج معه، فلما اشترطت هذا الشرط، قال عمر رضي الله عنه: (المرأة مع زوجها) أي: يخرج بها إلى حيث شاء وأثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه، أنه رفعت إليه قضيةٌ في اشترطت امرأةٍ مثل هذا الشرط، فقال رضي الله عنه: (سبق شرط الله شرطها) أي: أن الله عز وجل جعل الرجل قائماً على المرأة، وهذا الشرط جاء تبع، فلا تأثير له؛ لأن الأصل أن تكون تبعاً لبعلها وزوجها، وهكذا بالنسبة إذا اشترطت ألا يتزوج عليها، فإن الله فصّل هذا الأمر، وأحله وأباحه.

والذين قالوا: إنه يجب الوفاء بهذا الشرط، وهم أصحاب القول الأول احتجوا بأدلة، أولها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط، ما استحللتم به الفروج)، قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جعل الشرط في عقد النكاح أحق ما يفي به المسلم، فقال: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط، ما استحللتم به الفروج) وهذا قد استحل فرج امرأته بشرط، وهو أن لا يسافر بها، واستحله بشرط ألا يتزوج عليها، واستحله بشرط ألا تكون عنده امرأة، فإذا كان الأمر على خلاف ذلك؛ كان من حق المرأة أن تطالب بفسخ النكاح وتمتنع، وقالوا أيضاً: إن المرأة قد تشترط هذه الشروط، كأن تكون شديدة الغيرة، فتخشى أن تضيع حق بعلها، فمن حقها أن تشترط هذا، ويجب على الزوج أن يفي.

والذين قالوا: إن هذا الشرط باطل احتجوا بما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل)، قالوا: إن قوله: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله)، يوجب علينا في الشروط أن نعرضها على شرع الله، فما كان منها يحرم الحلال أو يحل الحرام، فإننا نرده، ولا عبرة به، وهو باطل، فنظرنا فيها وهي تقول: لا تتزوج علي، وأشترط ألا تكون عندك زوجة سابقة، فإذا بها تحرم عليه ما أحل الله، ووجدناه خلاف شرع الله عز وجل، وخلاف دين الله، فانطبق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل)، كذلك أيضاً وجدناها إذا قالت له: ألا تكون عنده زوجة، فإن الأصل أن الرجل له أن يتزوج قبل هذه المرأة وله أن يتزوج بعدها، وله أن يجمع بين أكثر من واحدة، ما دام في الحد الذي حده الشرع، فإذا جاءت تقول له: بشرط ألا تكون عندك زوجة؛ فقد منعته من زوجته الأولى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتُكفِئ ما في إنائها)، قالوا: هذا عام، فإذا قلنا بجواز الشرط، فكأنه حينئذٍ سيقدم على تطليق الأولى، وإدخال الثانية، وهذا هو الذي حرمه الله ورسوله، فنحن إذا جئنا ننظر في الشروط، ينبغي أن نتقيد فيها بما ورد في الشرع، فليس في شرع الله تحريم الزوجة الثانية، وليس في شرع الله عز وجل أن يبقى الرجل منحصراً مع زوجته في مكانٍ معين، بل إن الذي في شرع الله حِل ذلك كله وإباحته، وبناءً عليه قالوا: إن هذا الشرط باطل، ونبقى على عموم قوله: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل)، ثم قالوا: أنتم تستدلون بقوله: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط)، قوله: (أحق ) يدل على أن الشرط في ذاته حق وليس بباطل، فإذا كان الشرط في ذاته باطل فليس بحقٍ، ولا بأحق، وحينئذٍ يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط)، أي: الذي وافق شرع الله، واتفق مع هدي الإسلام في الزواج، فإذا جاءت المرأة تشترط شيئاً خلاف ذلك، فإنه يُلغى شرطها، ولا يعتد به، وهذا القول هو أولى القولين بالصواب وأنه لا عبرة بمثل هذا الشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قضاء الله أحق وشرط الله أوثق).

وعليه نرى أن عموم قوله: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله)، شاملاً لهذه المسألة التي معنا، وليس من حق المرأة أن تشترط ألا تكون هناك سابقة ولا لاحقة، بل إن أصحاب القول الأول يوافقون أصحاب القول الثاني، ويقولون: لو أراد أن يكتب العقد، أو يعقد على امرأة، فقال ولي المرأة: أشترط، وأهل الزوجة يعلمون أن عنده زوجة سابقة، فقالوا له: نشترط عليك أن تطلق الأولى، فإن هذا بالإجماع حرام ولا يجوز.

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، عند أحمد في مسنده رحمه الله: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن ينكح الرجل بطلاق الأخرى). أي: أن ينكح المرأة على أن يطلق التي قبلها، وعلى هذا فإننا نرى أن الشرع من حيث هو لا يقرُ مثل هذا ولا يجيزه، ثم انظر رحمك الله، إذا قلنا: إن من حق المرأة أن تشترط ألا تكون هناك سابقة، وألا تكون هناك لاحقة، فدخل الرجل عليها، ورضي بهذا الشرط، فإذا بالمرأة تغير جمالها، أو ذهب ما يعينه على العفة منها، إذا به يبقى وهو يخشى على نفسه الفتنة، فتنجب له الأطفال، فيبقى حائراً، إن جاء يتزوج الثانية؛ فإن الأولى ستبين منه، وإن جاء يبقى معها، لا يأمن الوقوع في الحرام، ولذلك هذا الشرط آثاره ونتائجه التي تترتب عليه فيه أضرار عظيمة، والرجل إذا لزمه هذا الشرط، معنى ذلك أن المرأة يكون لها الخيار، وحينئذٍ إذا أراد أن يتزوج عليها الثانية، يكون من حقها أن تفسخ النكاح، وتقول: أطالب بحقي، فتنفسخ بطلقة لا رجعة له عليها.

وحينئذٍ إذا كان الأمر كذلك، سيتشتت أطفاله، وقد لا يرضى بشتات أطفاله، لأن الله أخبر أن الله عز وجل علق القلوب، وجبل النفوس على حب الولد، الولد مجبنةٌ مبخلة.

كان الصحابي إذا أراد الهجرة، يريد أن يهاجر من مكة إلى المدينة، تعلق به ولده فامتنع من الهجرة، من فتنة الولد، فهذا الرجل إذا تزوج ولزمه هذا الشرط، وقلنا يلزمه، وهو يعلم أنه امرأته ستتطلّق منه، وأولاده سيضيعون، كيف سيقدم على الثانية؟ فيبقى بين نارين، وبين أمرين أحلاهما مر، فإما أن يبقى مع المرأة ويقع في الحرام، وإما أن يبين ما بينه وبينها فيتشتت أطفاله، ويكون في ذلك من المفاسد ما الله به عليم. وعلى هذا فإن أصح القولين: قول الجمهور: أن هذا الشرط لا يُعتد به، ولا يلزم الوفاء به، لأنه شرطٌ يعارض شرع الله.

هذه الشروط التي ذكرناها، الشروط المشروعة والممنوعة.. أولاً ينبغي للمسلم أن يلتزم بما أمر الله به، وألا يشترط إلا ما فيه صلاح دينه ودنياه وآخرته.

وعلى ولي المرأة أيضاً أن يشترط ما فيه صلاح امرأته في الدين والدنيا والآخرة؛ لأن الولي إنما نصِّب من أجل النظر في المصلحة، ولا ينبغي على ولي المرأة ولا على الزوج أن يتخذ من الشروط وسيلة للإضرار؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار).

فلا ينبغي أن يتخذ كلٌُ منهم الشروط وسيلة للإضرار بالآخر، بل ينبغي أن تكون الشروط معينة على طاعة الله، ومعينة على الوصول إلى ما يُرجى من النكاح على الوجه الذي أذن الله به، والله تعالى أعلم.

أما الشروط الشرعية: فهي تنقسم إلى أقسام، فمنها ما هو من لوازم عقد النكاح، والمراد بهذا النوع من الشروط: أن يشترط ولي المرأة أو المرأة أو الزوج، أمراً هو من لوازم عقد النكاح، ومن أشهر هذه الشروط: أن يشترط ولي المرأة على الزوج، أن يمسك بمعروف، أو يسرح بإحسان، وهذا الذي يسميه العلماء بالميثاق الغليظ، قال الحسن البصري وطاوس بن كيسان ، وقتادة والضحاك -رحمة الله على الجميع- في تفسير قوله تعالى: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، قالوا الميثاق الغليظ: إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان، فتلك هي العصمة التي أمر الله عز وجل أن يقوم النكاح بها، فهذا الشرط لو اشترطه ولي الزوجة، أو اشترطته الزوجة على زوجها، شرطٌ شرعي هو من مقتضيات عقد النكاح، قال بعض العلماء: كان السلف إذا زوجوا أو أنكحوا الغير اشترطوا عليه وقالوا: إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، وفي حكم هذا الشرط أو مثله، ما يقوله العامة اليوم، يقول ولي المرأة: زوجتك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي: زوجتك بنتي أو أختي على أن تلتزم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عِشرتها، والقيام بحقوقها، ورعايتها.

قال العلماء: إذا اشتُرط هذا الشرط؛ وجب الوفاء به، ولزم الزوج أن يقوم بتحقيقه وأدائه على وجهه، فإذا أضر بالمرأة ناله الإثم والعياذ بالله من وجهين، فلو أنه عاشر المرأة ولم يشترط وليها عليه الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان أثم من وجهٍ واحد، وهو تضييع حق الله، مع ما للمرأة من المظلمة، لكن إذا أُخذ عليه هذا العهد في عقد النكاح أثم من وجهين، والعياذ بالله:

أولاً: تضييع حق الله الذي ذكرناه.

وثانياً: أن عليه عهداً لم يوف به، ونقض العهود من شيمة أهل النفاق، ومن صنيع أهل النار -والعياذ بالله- كما ذكر الله أوصافهم في كتابه، ولذلك قال العلماء إن هذا الشرط وإن اعتاده الناس وألفوه لكنه عظيم، ولذلك وصفه الله بكونه ميثاقاً غليظاً، فإذا اشترط ولي المرأة أو اشترطت المرأة الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، فهو شرطٌ شرعي، ومن مقتضيات عقد النكاح.

كذلك أيضاً من الشروط المشروعة التي يلزم الوفاء بها: أن يتضمن الشرط جلب مصلحةٍ أو درء مفسدة، لا يعارض كل منهما شرع الله، فتشترط المرأة أو يشترط الزوج مصلحةً دينيةً أو دنيوية، ويشترط ولي المرأة مصلحةً دينية أو دنيوية، وهذه المصلحة التي يشترطها كل منهما لا تتعارض مع الشرع، بل قد تتفق معه، فالمصلحة تنقسم إلى قسمين: إما أن يشترط مصلحةً دينية، وإما أن يشترط مصلحةً دنيوية.

قد يشترط ولي المرأة مصلحةً دينية، كأن تقول موليته له: اشترط أن يكون زوجي ديناً، أو عالماً، أو طالب علمٍ، أو حافظاً لكتاب الله، أو خطيباً، أو إماماً، أو نحو ذلك من الأوصاف التي هي كمالٌ في الدين، وكمالٌ في الطاعة والالتزام، فهذا شرطٌ ديني، والرجل أيضاً يشترطه على المرأة، فيقول لوليها: أشترط أن تكون حافظة لكتاب الله، أو تكون طالبة علم، أو نحو ذلك مما هو من كمالات الدين.

هذا الشرط وهو اشتراط المصلحة الدينية الكاملة، أفضل شرط وأحب شرطٍ إلى الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) فخاطب الزوج أن يبحث عن صاحبة الدين، وخاطب أولياء المرأة فقال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه)فهذا الشرط وهو اشتراط المصلحة الدينية الكاملة، هو أفضل الشروط، وأحبها إلى الله عز وجل.

أما المصلحة الدنيوية المحضة، مثل أن يشترط الرجل أو تشترط المرأة مالاً أو مصلحةً مالية، كأن يشترط ولي المرأة أن يكون الزوج تاجراً، أو موظفاً، أو له مهنة معينة، فهذه مصالح دنيوية.

فإذا اشترط الزوجان، أو اشترط أحدهما مثل هذه الشروط التي لا تخالف شرع الله في جلب المصالح فإنه يجب الوفاء بها، وحينئذٍ يلزم ولي المرأة ما التزمه من الشرط في العقد، وعلى هذا فلو دخل على المرأة، فلم يجدها حافظةً لكتاب الله، كان له الخيار، أي: أن له خيار الفسخ؛ لأن المسلمين على شروطهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون على شروطهم)، وفائدة الاشتراط، ثبوت الخيار.

كذلك أيضاً يشترط درء المفسدة عن نفسه، فيشترط ألا تكون فيها مفسدة دينية، كأن لا تكون فاسقة، وتشترط المرأة على وليها أن يشترط على الزوج ألا يكون فاسقاً، وقد تشترط درء مفسدةٍ دنيوية، كأن لا يكون عصبياً، أو مريضاً في نفسه، أو بدنه، أو نحو ذلك من العاهات التي تشترط عدم وجودها في الزوج، أو يشترطها الزوج ألا توجد في المرأة. مثل هذه الشروط التي تجلب بها المصالح وتدرأ بها المفاسد وتكون موافقة للشرع، يلزم الوفاء بها، وعلى ولي المرأة أن يوفي بها للزوج، وعلى الزوج أن يوفي بها لولي المرأة، لكن اختلف العلماء في شروطٍ فيها جلب مصالح أو درء مفاسد يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر، هل هي من النوع الأول، أو من النوع الثاني.

ومن أشهر ما اختلفوا فيه أن تشترط المرأة على زوجها ألا يخرجها عن والديها، ألا يخرجها من مدينتها، أو ألا يسافر بها، أو تشترط عليه ألا يتزوج عليها، أو ألا تكون عنده زوجة، فمثل هذه الشروط اختلف العلماء رحمهم الله فيها، هل هي مشروعة؟ أو ليست بمشروعة؟ وسيأتي الكلام عليها في القسم الثالث من الشروط.