قيام رمضان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعــد:

فإن من أجل الطاعات وأفضل القربات التي يحبها الله عز وجل قيام الليل، فقيام الليل دأب الصالحين وشأن عباد الله المتقين كما أثنى الله عليه في كتابه المبين، وهذا الشهر -أعني: شهر الصيام- فرض الله عز وجل على عباده المؤمنين صيامه، وندب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إلى قيامه، فحري بالمسلم أن يشحذ همته لقيام هذا الشهر المبارك، اقتداءً وامتثالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

وقيام الليل فضيلة من الفضائل ونعمة من أجل نعم الله على عباده، فالله إذا أحب عبداً من عباده فتح له أبواب رحمته ويسر له سبيل طاعته، فينشرح صدره للخير، وقد امتن الله بهذه النعمة على نبيه فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] فإذا أراد الله بعبده خيراً شرح صدره لهذه الطاعة وسهلها عليه، ولا يزال المؤمن يحفظ قيامه من الليل حتى يكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، بل وتجده يضجر ويسأم ويتألم إذا حُرِم ذلك القيام، إذا حُرِم مناجات الله جل جلاله والوقوف بين يديه في ساعة هدأت فيها العيون وسكنت فيها الجفون وهو ينادي الحي القيوم.

وقد أثنى الله عز وجل على أقوام أحبوا الآخرة فجدوا في ليلهم في القيام، فقال سبحانه وتعالى عنهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] وقال سبحانه وتعالى شاهداً بفضل هؤلاء وأنهم أهل خوف ورجاء: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].

فمن يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه يحيي ليله بذكر الله جل جلاله؛ لعلمه بفضيلة هذه المنـزلة، وبعلو درجة هذه القربة عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضائل الأعمال قال: (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر) أي: ومن أحب الطاعات إلى الله ركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر في ساعة يكون فيها الدعاء أسمع، والإجابة أرجى من الله جل جلاله.

قيام رمضان السنة فيه أن يهتدي المسلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فكان صلوات الله وسلامه عليه قوام لليل في رمضان وغير رمضان، وكانت سنة ماضية في سائر العام لكنه إذا دخل عليه رمضان ودخلت عليه العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله صلى الله عليه وسلم وأيقظ أهله؛ كل ذلك لكي تنتبه الأمة لفضل هذا الشهر عموماً ولفضيلة العشر الأواخر فيه خصوصاً، ففيها ليلة هي أفضل من ألف شهر يقومه العبد لله جل جلاله، وهي الليلة التي يقول العلماء: إن الله اختارها من العام كله، فأفضل ليلة في العام كله بل في الدهر كله هي ليلة القدر، ولذلك اختارها الله لنـزول القرآن كما أخبر سبحانه وتعالى في سورة أنزلها للدلالة على شرفها وفضلها.

وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل أكمل الهدي وأجمله وأحسنه وأفضله، ما كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل فيبالغ في قيامه، ولا كان على منهج الرهبانية والغلو في العبادة، برئت سنته صلوات الله وسلامه عليه من الغلو والتشدد، ولذلك كان ينام ويقوم عليه أفضل الصلاة والسلام.

قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ولما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أن يواصل قيام الليل منعه، فكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أحيا الليل على أجزائه الثلاثة، فقام أول الليل وقام أوسط الليل وقام آخر الليل وانتهى وتره وقيامه عليه الصلاة والسلام إلى آخر الليل.

ولذلك قال العلماء: السنة ألا يكون القيام لليل كاملاً، واستثنى بعض العلماء ليالي العشر الأواخر فقالوا: الأفضل أن يجتهد في قيامها ولو استغرق الليل كاملاً بالقيام فلا بأس؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (وأحيا ليله) فدل على أنه لم يكن ينام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.

كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يقوم آخر الليل ولذلك قال العلماء: الأفضل أن ينام المسلم أول الليل ويكون قيامه آخر الليل لعدة أمور:

أولها: أن هذا الوقت هو أفضل الأوقات وأشرفها بالليل؛ لأن الله أختاره بنـزوله فينـزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته وكماله، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، نزولاً حقيقياً يليق بجلاله سبحانه وكماله، فينادي: هل من تائب فأتوب عليه، هل من داعٍ فأستجيب دعاءه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، فهذا يدل على فضل آخر الليل.

وقال بعض العلماء: إن الأفضل للإنسان أن يقوم الثلث الأخير إذا كان واثقاً من القيام، أما إذا غلب على ظنه أنه سينام وأنه لا يتمكن من القيام في آخر الليل فالأفضل أن يؤخر إلى نصف الليل؛ وذلك لأن نصف الليل أقرب إلى الثلث الآخر، وكلما كان القيام قريباً من وقت الفضيلة كلما كان له حظ من الأجر، قالوا: فيؤخر قيامه إلى الثلث الأوسط من الليل؛ لأنه سيتعب في الانتظار ويجد المشقة والجهد وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ثوابك على قدر نصبك) فدل على أن النصب والتعب يزيد في أجر العبادة وأجر القربة، فقالوا: يفضل ألا يقوم من أول الليل وإنما يتأخر إلى قدر نصف الليل ويحيي هذا القدر.

وقال بعض العلماء: إذا كان يتأخر إلى نصف الليل ويؤدي ذلك إلى ضياع صلاة الفجر عليه أو أنه يصلي وهو مجهد منهك لا يفقه القرآن ولا يتفهمه فالأفضل أن يصلي عقب العشاء؛ لأنه أقدر على فهم وتدبر القرآن وأكمل في خشوعه وهو يناجي ربه.

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه ينام أول الليل، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات مع النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة، وهذا يدل على فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحبهم للخير، هذا الغلام صغير السن ولكنه كبير بعلمه وفضله ونبله وحبه لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحث عن هديه حتى نام معه عليه الصلاة والسلام لكي يرقب وينظر ماذا يكون من هديه وسنته إذا قام من الليل، فبات في عرض الوسادة كما في الصحيحين، قال: نام عليه الصلاة والسلام حتى نفخ وابن عباس رضي الله عنه يراقب رسول الله صلى الله عليه وسلم مراقبة دقيقة لكي يحفظ للأمة هذا الهدي وهذه السنة؛ فنسأل الله العظيم أن يعظم أجره وثوابه بما حفظ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: (فقام أي: قام رسول صلى الله عليه وسلم -هذا بعد شطر الليل- فأول ما كان من قيامه عليه الصلاة والسلام أن مسح النوم من على عينيه ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] ثم لما ختمها قال صلوات الله وسلامه عليه: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن) لأنهن آيات عظيمة تدل على عظمة الله جل جلاله فقلب لا يخشع لها ولا يتأثر بها فويل له، ويل له إن لم يتداركه الله برحمته.

كان بعض العلماء يقول: من أحب أن يعرف مقدار خشوعه وتأثره فليقرأ هذه الآية، ولينظر هل هو متعظ بما فيها ومتأثر بها أم لا حتى يعرف مقدار منـزلته من الخشوع وتأثره بكلام الله جل جلاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختارها ورتب الوعيد على عدم التأثر بها؛ فدل على أنها آيات عظيمة، قال: (فلما فرغ منها قام عليه الصلاة والسلام فأفرغ من شنٍ -يعني: من قربة- فتوضأ فأسبغ الوضوء) وللوضوء في ظلمة الليل خاصة في ليالي الشتاء لذة يعرفها من يعرفها وحلاوة لو ذاقها المؤمن قل أن يتركها، ففيها غفران الذنوب ورفعة الدرجات: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره).

قال بعض العلماء: إسباغ الوضوء في جوف الليل الأظلم في شدة الليلة الباردة الشاتية.

تقوم من مضجعك ومن مكان سكونك وراحتك لكي تناجي الله جل جلاله فتصب الماء على أعضائك، فإذا وجدت شدة البرد وأذى البرد على جوارحك وجدت لذة العبودية والطاعة والقربة لله سبحانه.

ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نام مع حبه وزوجه وقام من الليل لكي يتهجد قال الله تعالى: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وأهله؟ قالوا: إلهنا يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله تعالى: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي) .. (فقام صلى الله عليه وسلم فأفرغ الماء فتوضأ فأسبغ الوضوء) قال ابن عباس: فأسبغ الوضوء ولها معنى؛ لأن هذا الوقت وهو الوضوء في الليل كما ذكرنا غالباً يكون فيه الماء بارداً فمن فقه ابن عباس قال: فأسبغ الوضوء، أي: في وضوئه عليه الصلاة والسلام كان على الكمال وذلك بأن يكون ثلاثاً، قال: (ثم قام فقمت فصنعت مثلما صنع).

الهدي النبوي في استفتاح قيام الليل

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام إذا استفتح قيام الليل يستفتحه بركعتين خفيفتين لا يطول فيهما القراءة، وقال العلماء: إن هذا من أكمل الهدي؛ لأن المسلم إذا قام من الليل أو الإنسان إذا قام من الليل فإنه يقوم وقد تعلقت نفسه بالراحة والدعة والسكون فإذا هجم على العبادة وأطال القيام فإنه قد يمل وقد يسأم؛ ولذلك ابتدأ عليه الصلاة والسلام بالشيء الخفيف حتى تألفه النفس ويستطيع بعدها أن يطول ما شاء.

قالوا: ومن الفوائد والحكم التي شرع الله بها السنن الرواتب قبل الصلاة أنها تعين على الخشوع أكثر؛ فإنه إذا دخل بركعتين نافلة قبل الفريضة فإن هذا يعين على الخشوع أكثر، وهذا مجرب، فأنت إذا تأملت إلى الناس ونظرت إلى المبكرين إلى المساجد والذين يحرصون على حضور الصلاة إما قبل الأذان أو لا يؤذن إلا وهم في المسجد تجدهم أخشع الناس قلباً في الصلاة، ومن تجده يتأخر ويتقاعس ولا يأتي إلا على الإقامة تجد خشوعه أقل وتأثره بالقرآن أقل، بل تجد ذلك في نفسك جلياً ظاهراً فإنك ما حرصت على التبكير وابتدأت العبادة بالنافلة قبل الفريضة إلا قويت على الفريضة أكثر.

ولذلك قالوا: استفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين فإنه أدعى لتدبر القرآن وأدعى أيضاً للأعضاء أن تقبل على حركات العبادة وقد استجمت وهيئت بهاتين الركعتين الخفيفتين.

كان صلى الله عليه وسلم يستفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين واستحب العلماء أن يكون دعاء الاستفتاح في قيام الليل من طوال الأدعية؛ لأن أدعية الاستفتاح تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: دعاء محض.

الثاني: تمجيد محض.

الثالث: ما اشتمل على الدعاء والتمجيد معاً.

فقالوا: يفضل أن يكون استفتاحه بالدعاء الطويل كما في حديث علي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح الصلاة بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنوبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت...) إلى آخر الدعاء الطويل.

قالوا: إن الأفضل أن يبدأ به؛ لأنه أدعى لتهيئ النفس لصلاة الليل أكثر.

فلما فرغ عليه الصلاة والسلام وكان إذا فرغ من الركعتين صلى ثمان ركعات، يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، وكان يصليها عليه الصلاة والسلام فلا يجلس للتشهد إلا في آخر الأربع الركعات، أي: يصليها أربع متصلة وهذا جائز في النوافل، فأنت إذا أردت أن تصلي أربع ركعات إن شئت وصلت وإن شئت فصلت، إلا أن السنة في الوصل ألا تجلس للتشهد بينهما بين كل اثنتين من الركعات.

ثم قال: (فإذا انتهى عليه الصلاة والسلام من الأربع الأولى صلى بعدها أربعاً ثم أوتر عليه الصلاة والسلام).

وكان قيامه صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة وهي الثابتة في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة -ثم فصلت ذلك وقالت:- يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن) وهذا يدل على طول القيام، واختلف العلماء رحمة الله عليهم في مسألة طول القيام وعدد الركعات.

فقال جمع من أهل العلم: الأفضل في صلاة الليل طول القيام مع قلة العدد بحيث لا يزيد على إحدى عشرة ركعة من ناحية الفضيلة لا سبيل الوجوب واللزوم، وهذا مذهب الجمهور: أن الأفضل في قيام الليل طول التلاوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فكان يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن.

ومما يدل على رجحان هذا القول: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل صلاة الليل. فقال: (طول القنوت) أي: الأفضل فيها طول القنوت، يعني: القيام، ولذلك استدل به جمهور العلماء على أن الأفضل لك أن تطيل القراءة ويكون العدد بهذا الحساب الذي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً لا فرضاً؛ أي: أنه على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إنه على سبيل الفضيلة -كما نص عليه في المجموع- وأنه لا يقصد منه أن من زاد عليه أو انتقص منه أنه لا يجوز؛ فنص على أنه ليس على سبيل اللزوم وإنما هو على سبيل الفضيلة.

وقال بعض العلماء: الأفضل أن يكثر من عدد الركعات ولو قل قيامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة مرافقته في الجنة قال: (أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل في صلاة الليل أن يكثر من السجود، وإذا أكثر السجود لا شك أنه سيخفف من قيامه حتى يكون العدد أكثر.

والذي يترجح هو القول الأول: أن الأفضل طول القنوت، ولذلك ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه (أنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم فأطال عليه الصلاة والسلام القراءة حتى هم عبد الله بأمر سوء قيل له: وما هممت؟ قال: هممت أن أتركه وأذهب) وهذا من طول قراءته عليه الصلاة والسلام.

الهدي النبوي في مقاربة الركوع والسجود في القيام

كان من هديه عليه الصلاة والسلام مقاربة ركوعه وسجوده لقيامه، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، وما ألذ القيام إذا كان بهذه المثابة، أن يكون ركوع الإنسان قريب من قيامه وسجوده فهذا من أفضل ما يكون فإنه يجمع بين الفضائل كلها، فيجمع بين فضيلة تلاوة القرآن وفضيلة التسبيح وذكر الله جل جلاله وفضيلة الدعاء في السجود، فيصيب الفضائل على أتم الوجوه وأكملها، ولذلك استحب العلماء أن يكون في الصلاة اتزان من حيث طول الركوع وطول السجود وهذا كله إذا صلى الإنسان لوحده.

أما إذا صلى بالناس ووراءه الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة وحطمة الناس فإنه يرفق بهم ويحاول إصابة السنة قدر استطاعته، ولكن لا يشق على الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أشياء شرعها للأمة وكذلك نص على أشياء بقوله تشريعاً للأمة فقال: (إذا صلى أحدكم بالناس -وفي رواية- إذا أم أحدكم بالناس فليخفف) فنص على أنه ينبغي له أن يراعي أحوال الناس، فقال: (فإن وراءه السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة) وإذا صلى لوحده فليطول ما شاء .

فلما ثبت قيامه بالليل لوحده صلى الله عليه وسلم وطول قالوا: إذا كان الإنسان إماماً في صلاة التراويح يراعي أحوال الناس، فلا يخفف تخفيفاً يفوت به الفضل على الناس ولا يطول بهم إطالة يملون بها كتاب الله عز وجل أو الوقوف بين يديه، وهذا أمر يرجع إلى نظر الإمام وتوفيق الله عز وجل له، فالله تعالى إذا أراد للإمام الخير وضع له القبول بين الناس، فإن الإمام إذا راعى أحوال الناس ورفق بهم ووسع عليهم في الحدود الشرعية وجعلهم يحبون الصلاة وراءه ويرتاحون لذكر الله وراءه فإن هذه غنيمة عظيمة وخير كثير، ولا شك أن الناس يحبون الخير ويقبلون عليه ويزدادون رغبة فيه وهذا أفضل مما لو طول وفوت على الناس حب الخير وفوت عليهم الحرص على شهوده، فلا شك أن الأفضل والأكمل إذا كان هناك رفق أن يراعي من يحتاج إلى الرفق من المأمومين.

من الهدي النبوي: تعظيم الله في الركوع

كان من هديه عليه الصلاة والسلام: تعظيم الله في الركوع، يركع فيطيل في ركوعه ويعظم الله ويكثر من الثناء عليه، ففي الحديث الصحيح أنه كان من تعظيمه وتمجيده لربه قوله: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو في سجوده في قيام الليل ويختار الأدعية العظيمة التي فيها سلامة العبد في دينه، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم فجالت يدي فوقعت على قدمه ساجداً يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه.

فانظر إلى حكمته وعلمه بربه وبصيرته صلوات الله وسلامه عليه كيف اختار هذا الدعاء الذي فيه سعادة الدين والدنيا والآخرة وفلاحهما فقال: (ثبت قلبي على دينك) قال العلماء: يستحب أن يختار الداعي في قيام الليل أفضل الدعاء وأجمعه، وليس هناك أفضل ولا أجمع من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كهذا الدعاء العظيم ونحوه من الأدعية المأثورة.

الهدي النبوي في صلاة الوتر

كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصل وتره فيكون بالخمس ويكون بالسبع ويكون بالتسع متصلة ويكون بالإحدى عشرة متصلة، ولا حرج أن يوتر بالواحدة منفصلة، وأن يوتر بالثلاث متصلة وأن يوتر بالخمس متصلة وبالسبع وبالتسع كل ذلك جائز ومشروع، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام الإذن بالفصل وكذلك فعله بالوصل، ومن إذنه بالفصل قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) قال بعض العلماء: أنه قال (فليوتر بواحدة) فاستوى أن يكون فصلاً أو يكون وصلاً.

والسنة في قيام الليل أن يكون وتراً بهذه الركعة التي ذكرنا وهذه الركعة هي الوتر وهي فضيلة وليست بفريضة على أصح قولي العلماء، وهو قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث أن الوتر سنة وليست بفريضة، والأصل في سنيته قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لما سئل عما فرض الله من الصلوات؟ قال: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فلو كانت الوتر واجباً لكانت الصلوات ستاً.

وكذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث طلحة بن عبيد الله : (أنه لما سأله الرجل: ما الذي فرض الله من الصلوات؟ قال: خمس، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع) فدل على أن الوتر فضيلة وليس بفريضة، وقال بعض العلماء بفرضيته كما هو مذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر) والذي يظهر أن هذا الحديث المراد به في الفضيلة وليس الفريضة، ولذلك جاء بمثل سياقه في ركعتي الفجر فدل على أنها فضيلة وليس بفريضة، فيحمل على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب.

والسنة في الوتر أن يكون مرة واحدة، أي: يوتر في ليله كله مرة واحدة ولا يكرر الوتر لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة) كما رواه الترمذي في سننه.

قال العلماء: نهي عن الوترين في ليلة؛ لأنه إذا صلى الوتر مرتين أصبح العدد شفعياً، والمقصود في قيام الإنسان بالنافلة في الليل أن يكون العدد وترياً لا شفعياً، وأخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على أن من أوتر في أول الليل وقام في آخر الليل أنه يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول، لأن قوله: (لا وتران في ليلة) يدل أن الوتر ينقض الوتر وإذا ثبت هذا فإنه ينقض الوتر الأول بالوتر الثاني، ثم يصلي شفعاً ما شاء ثم يوتر لكي يحصل الفضيلة في قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) إذا صلى في أول الليل وأوتر ثم أراد الله أن يقوم في آخر الليل فأحب أن يصلي فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء:

الحالة الأولى: إما أن ينقض الوتر الأول بركعة ثم يصلي ما شاء ثم يوتر، وهذا هو المأثور عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ويدل عليه حديث الترمذي: (لا وتران في ليلة) حيث دل على أن الوتر ناقض للوتر.

الحالة الثانية: أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يوتر؛ لأن الوتر الأول أجزأه، ويدل على هذه الحالة ما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد الوتر).

قال العلماء: صلاهما لبيان الجواز وأنه لا حرج على المسلم أن يصلي الشفع بعد الوتر، ولكن هذه الصورة الثانية يشكل عليها أنه يفوت على نفسه الأفضل والأكمل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهذا يدل على أن المستحب والمرغب فيه أن يكون دعاء الوتر في آخر الليل، فإذا كان سيصلي ركعتين ركعتين يكون وتره لأول الليل لا لآخر الليل.

الحالة الثالثة: وهو ضعيف ومرجوح يعارض حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو أن يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر ثانية، وهذا قول مرجوح والصحيح أنه يقتصر إما على نقض الوتر أو يصلي شفعاً بعد وتره على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام إذا استفتح قيام الليل يستفتحه بركعتين خفيفتين لا يطول فيهما القراءة، وقال العلماء: إن هذا من أكمل الهدي؛ لأن المسلم إذا قام من الليل أو الإنسان إذا قام من الليل فإنه يقوم وقد تعلقت نفسه بالراحة والدعة والسكون فإذا هجم على العبادة وأطال القيام فإنه قد يمل وقد يسأم؛ ولذلك ابتدأ عليه الصلاة والسلام بالشيء الخفيف حتى تألفه النفس ويستطيع بعدها أن يطول ما شاء.

قالوا: ومن الفوائد والحكم التي شرع الله بها السنن الرواتب قبل الصلاة أنها تعين على الخشوع أكثر؛ فإنه إذا دخل بركعتين نافلة قبل الفريضة فإن هذا يعين على الخشوع أكثر، وهذا مجرب، فأنت إذا تأملت إلى الناس ونظرت إلى المبكرين إلى المساجد والذين يحرصون على حضور الصلاة إما قبل الأذان أو لا يؤذن إلا وهم في المسجد تجدهم أخشع الناس قلباً في الصلاة، ومن تجده يتأخر ويتقاعس ولا يأتي إلا على الإقامة تجد خشوعه أقل وتأثره بالقرآن أقل، بل تجد ذلك في نفسك جلياً ظاهراً فإنك ما حرصت على التبكير وابتدأت العبادة بالنافلة قبل الفريضة إلا قويت على الفريضة أكثر.

ولذلك قالوا: استفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين فإنه أدعى لتدبر القرآن وأدعى أيضاً للأعضاء أن تقبل على حركات العبادة وقد استجمت وهيئت بهاتين الركعتين الخفيفتين.

كان صلى الله عليه وسلم يستفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين واستحب العلماء أن يكون دعاء الاستفتاح في قيام الليل من طوال الأدعية؛ لأن أدعية الاستفتاح تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: دعاء محض.

الثاني: تمجيد محض.

الثالث: ما اشتمل على الدعاء والتمجيد معاً.

فقالوا: يفضل أن يكون استفتاحه بالدعاء الطويل كما في حديث علي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح الصلاة بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنوبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت...) إلى آخر الدعاء الطويل.

قالوا: إن الأفضل أن يبدأ به؛ لأنه أدعى لتهيئ النفس لصلاة الليل أكثر.

فلما فرغ عليه الصلاة والسلام وكان إذا فرغ من الركعتين صلى ثمان ركعات، يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، وكان يصليها عليه الصلاة والسلام فلا يجلس للتشهد إلا في آخر الأربع الركعات، أي: يصليها أربع متصلة وهذا جائز في النوافل، فأنت إذا أردت أن تصلي أربع ركعات إن شئت وصلت وإن شئت فصلت، إلا أن السنة في الوصل ألا تجلس للتشهد بينهما بين كل اثنتين من الركعات.

ثم قال: (فإذا انتهى عليه الصلاة والسلام من الأربع الأولى صلى بعدها أربعاً ثم أوتر عليه الصلاة والسلام).

وكان قيامه صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة وهي الثابتة في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة -ثم فصلت ذلك وقالت:- يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن) وهذا يدل على طول القيام، واختلف العلماء رحمة الله عليهم في مسألة طول القيام وعدد الركعات.

فقال جمع من أهل العلم: الأفضل في صلاة الليل طول القيام مع قلة العدد بحيث لا يزيد على إحدى عشرة ركعة من ناحية الفضيلة لا سبيل الوجوب واللزوم، وهذا مذهب الجمهور: أن الأفضل في قيام الليل طول التلاوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فكان يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن.

ومما يدل على رجحان هذا القول: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل صلاة الليل. فقال: (طول القنوت) أي: الأفضل فيها طول القنوت، يعني: القيام، ولذلك استدل به جمهور العلماء على أن الأفضل لك أن تطيل القراءة ويكون العدد بهذا الحساب الذي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً لا فرضاً؛ أي: أنه على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إنه على سبيل الفضيلة -كما نص عليه في المجموع- وأنه لا يقصد منه أن من زاد عليه أو انتقص منه أنه لا يجوز؛ فنص على أنه ليس على سبيل اللزوم وإنما هو على سبيل الفضيلة.

وقال بعض العلماء: الأفضل أن يكثر من عدد الركعات ولو قل قيامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة مرافقته في الجنة قال: (أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل في صلاة الليل أن يكثر من السجود، وإذا أكثر السجود لا شك أنه سيخفف من قيامه حتى يكون العدد أكثر.

والذي يترجح هو القول الأول: أن الأفضل طول القنوت، ولذلك ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه (أنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم فأطال عليه الصلاة والسلام القراءة حتى هم عبد الله بأمر سوء قيل له: وما هممت؟ قال: هممت أن أتركه وأذهب) وهذا من طول قراءته عليه الصلاة والسلام.

كان من هديه عليه الصلاة والسلام مقاربة ركوعه وسجوده لقيامه، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، وما ألذ القيام إذا كان بهذه المثابة، أن يكون ركوع الإنسان قريب من قيامه وسجوده فهذا من أفضل ما يكون فإنه يجمع بين الفضائل كلها، فيجمع بين فضيلة تلاوة القرآن وفضيلة التسبيح وذكر الله جل جلاله وفضيلة الدعاء في السجود، فيصيب الفضائل على أتم الوجوه وأكملها، ولذلك استحب العلماء أن يكون في الصلاة اتزان من حيث طول الركوع وطول السجود وهذا كله إذا صلى الإنسان لوحده.

أما إذا صلى بالناس ووراءه الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة وحطمة الناس فإنه يرفق بهم ويحاول إصابة السنة قدر استطاعته، ولكن لا يشق على الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أشياء شرعها للأمة وكذلك نص على أشياء بقوله تشريعاً للأمة فقال: (إذا صلى أحدكم بالناس -وفي رواية- إذا أم أحدكم بالناس فليخفف) فنص على أنه ينبغي له أن يراعي أحوال الناس، فقال: (فإن وراءه السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة) وإذا صلى لوحده فليطول ما شاء .

فلما ثبت قيامه بالليل لوحده صلى الله عليه وسلم وطول قالوا: إذا كان الإنسان إماماً في صلاة التراويح يراعي أحوال الناس، فلا يخفف تخفيفاً يفوت به الفضل على الناس ولا يطول بهم إطالة يملون بها كتاب الله عز وجل أو الوقوف بين يديه، وهذا أمر يرجع إلى نظر الإمام وتوفيق الله عز وجل له، فالله تعالى إذا أراد للإمام الخير وضع له القبول بين الناس، فإن الإمام إذا راعى أحوال الناس ورفق بهم ووسع عليهم في الحدود الشرعية وجعلهم يحبون الصلاة وراءه ويرتاحون لذكر الله وراءه فإن هذه غنيمة عظيمة وخير كثير، ولا شك أن الناس يحبون الخير ويقبلون عليه ويزدادون رغبة فيه وهذا أفضل مما لو طول وفوت على الناس حب الخير وفوت عليهم الحرص على شهوده، فلا شك أن الأفضل والأكمل إذا كان هناك رفق أن يراعي من يحتاج إلى الرفق من المأمومين.

كان من هديه عليه الصلاة والسلام: تعظيم الله في الركوع، يركع فيطيل في ركوعه ويعظم الله ويكثر من الثناء عليه، ففي الحديث الصحيح أنه كان من تعظيمه وتمجيده لربه قوله: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو في سجوده في قيام الليل ويختار الأدعية العظيمة التي فيها سلامة العبد في دينه، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم فجالت يدي فوقعت على قدمه ساجداً يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه.

فانظر إلى حكمته وعلمه بربه وبصيرته صلوات الله وسلامه عليه كيف اختار هذا الدعاء الذي فيه سعادة الدين والدنيا والآخرة وفلاحهما فقال: (ثبت قلبي على دينك) قال العلماء: يستحب أن يختار الداعي في قيام الليل أفضل الدعاء وأجمعه، وليس هناك أفضل ولا أجمع من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كهذا الدعاء العظيم ونحوه من الأدعية المأثورة.

كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصل وتره فيكون بالخمس ويكون بالسبع ويكون بالتسع متصلة ويكون بالإحدى عشرة متصلة، ولا حرج أن يوتر بالواحدة منفصلة، وأن يوتر بالثلاث متصلة وأن يوتر بالخمس متصلة وبالسبع وبالتسع كل ذلك جائز ومشروع، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام الإذن بالفصل وكذلك فعله بالوصل، ومن إذنه بالفصل قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) قال بعض العلماء: أنه قال (فليوتر بواحدة) فاستوى أن يكون فصلاً أو يكون وصلاً.

والسنة في قيام الليل أن يكون وتراً بهذه الركعة التي ذكرنا وهذه الركعة هي الوتر وهي فضيلة وليست بفريضة على أصح قولي العلماء، وهو قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث أن الوتر سنة وليست بفريضة، والأصل في سنيته قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لما سئل عما فرض الله من الصلوات؟ قال: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فلو كانت الوتر واجباً لكانت الصلوات ستاً.

وكذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث طلحة بن عبيد الله : (أنه لما سأله الرجل: ما الذي فرض الله من الصلوات؟ قال: خمس، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع) فدل على أن الوتر فضيلة وليس بفريضة، وقال بعض العلماء بفرضيته كما هو مذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر) والذي يظهر أن هذا الحديث المراد به في الفضيلة وليس الفريضة، ولذلك جاء بمثل سياقه في ركعتي الفجر فدل على أنها فضيلة وليس بفريضة، فيحمل على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب.

والسنة في الوتر أن يكون مرة واحدة، أي: يوتر في ليله كله مرة واحدة ولا يكرر الوتر لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة) كما رواه الترمذي في سننه.

قال العلماء: نهي عن الوترين في ليلة؛ لأنه إذا صلى الوتر مرتين أصبح العدد شفعياً، والمقصود في قيام الإنسان بالنافلة في الليل أن يكون العدد وترياً لا شفعياً، وأخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على أن من أوتر في أول الليل وقام في آخر الليل أنه يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول، لأن قوله: (لا وتران في ليلة) يدل أن الوتر ينقض الوتر وإذا ثبت هذا فإنه ينقض الوتر الأول بالوتر الثاني، ثم يصلي شفعاً ما شاء ثم يوتر لكي يحصل الفضيلة في قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) إذا صلى في أول الليل وأوتر ثم أراد الله أن يقوم في آخر الليل فأحب أن يصلي فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء:

الحالة الأولى: إما أن ينقض الوتر الأول بركعة ثم يصلي ما شاء ثم يوتر، وهذا هو المأثور عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ويدل عليه حديث الترمذي: (لا وتران في ليلة) حيث دل على أن الوتر ناقض للوتر.

الحالة الثانية: أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يوتر؛ لأن الوتر الأول أجزأه، ويدل على هذه الحالة ما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد الوتر).

قال العلماء: صلاهما لبيان الجواز وأنه لا حرج على المسلم أن يصلي الشفع بعد الوتر، ولكن هذه الصورة الثانية يشكل عليها أنه يفوت على نفسه الأفضل والأكمل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهذا يدل على أن المستحب والمرغب فيه أن يكون دعاء الوتر في آخر الليل، فإذا كان سيصلي ركعتين ركعتين يكون وتره لأول الليل لا لآخر الليل.

الحالة الثالثة: وهو ضعيف ومرجوح يعارض حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو أن يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر ثانية، وهذا قول مرجوح والصحيح أنه يقتصر إما على نقض الوتر أو يصلي شفعاً بعد وتره على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

يجوز في صلاة الليل في قراءتها الجهر والسر ولا حرج عليه أن يجهر ولا حرج عليه أن يسر، ولكن الأفضل أن يجهر بقدر ما يسمع نفسه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب عمر إلى أن يخفض من صوته وأبا بكر أن يرفع من صوته وهذا هو العدل والوسط الذي أمر الله به.

قال العلماء: إنه لو رفع صوته بتلاوة القرآن ذهب خشوعه وضعفت نفسه عن فضائل هي آكد وأبلغ، ولذلك قالوا: يرفع قليلاً بقدر ما يسمع نفسه فهذا هو الأفضل له والأكمل؛ لأنه يكون على نشاط؛ ولأنه إذا رفع من صوته وسمع بإذنه حصل له فضيلة التلاوة وفضيلة التأثر بصورة أبلغ مما لو قرأ في سره.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المشكلات الزوجية وعلاجها 3461 استماع
رسالة إلى الدعاة 3435 استماع
وصية نبوية 3327 استماع
أهم الحقوق 3305 استماع
توجيه الدعاة إلى الله تعالى 3215 استماع
كيف نواجه الفتن؟ 3166 استماع
حقيقة الالتزام 3144 استماع
وصايا للصائمين والقائمين 3086 استماع
الوصايا الذهبية 3040 استماع
مناقشة لرسالة الدكتوراه (2) 3008 استماع