وقفات للمحاسبة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.

وبعد:

فهذه مجموعة من الأسئلة تقدم لفضيلة الشيخ محمد الشنقيطي ، تختص ببعض المسائل التي تهم الدعوة والدعاة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكلماته وتوجيهه، وما يعطيه لشباب الدعوة وشباب الصحوة من نصائح، نسأل الله عز وجل أن يعم بها النفع.

السؤال: الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى الترشيد والنقد، وإلى معالجة العيوب وتصحيح المسار، وتشتكي الصحوة الإسلامية اليوم داءً عضالاً، يعاني منه كثيرٌ ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله، فضلاً عن الصالحين وطلبة العلم، وهذا الداء هو: عدم الإحساس بالمسئولية تجاه الدعوة، وعدم تحملها والقيام بأعبائها وواجباتها، فتجد لدى كثير من الدعاة طاقة طيبة، وأعطاهم الله عز وجل من المواهب ما قد حُرم منه الكثيرون، وبالرغم من ذلك تجد مساهمتهم في الدعوة إلى الله عز وجل لا تكاد تذكر مع أنهم يسمعون ويعلمون عن واجبهم تجاه هذه الدعوة، ومع أن الواقع حولهم مهيأ لاستماع كلمتهم ولمشاركتهم الفعالة، وكما أننا ننظر إلى الصحوة الإسلامية اليوم بشكل عام فنجد أن حجم هذه الصحوة وهذه الجموع الغفيرة من شباب الإسلام لا يتناسب أبداً مع الواقع السيئ للأمة والمنكرات المتفشية فيها، فإننا كذلك بنظرتنا إلى الدعاة الأفراد نجد أنهم كذلك ينقصهم القيام بواجبهم، وأن ما يؤدونه على الساحة لا يتناسب أبداً مع ما أعطاهم الله عز وجل من العلم وكثير من القضايا التي يحتاج إليها الدعاة، فما هي توجيهاتكم لشباب الصحوة وللدعاة في هذه القضية؟

الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة عباد الله المؤمنين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فالحمد لله الذي جمعنا بكم في هذه الليلة المباركة، وأسأل الله أن يجزي الذين تسببوا في هذا اللقاء كل خير، وأن يجعل ذلك في ميزانهم، ثم أقول: إن هذا السؤال مهم جداً، ويحتاج إلى التفصيل فيه الدعاة بصفة خاصة، ويحتاجه كل من له علاقة بدين الله عز وجل على وجه العموم؛ فالاهتمام بأمور الدين، والدعوة إلى رب العالمين أمر واجب على كل منا، فعلى كل مسلم أن يهتم بهذه الأمانة؛ لأن هذا الدين منوط بكل منا، ولا يمكن لهذه الأمة أن تصلح ولا أن تسعد ولا أن تبلغ درجة الكمال والفضل إلا بما كان عليه سلفها، وبفضل وتوفيق من الله سبحانه وتعالى.

إذا أردت أن ترى التوفيق على كمال وصلاح أمور هذه الأمة فانظر إلى تلك الساعة التي يقوم فيها كل فرد وكل إنسان بواجبه، فالدين أمانة في عنق كل واحد منا، ورسالة الله عز وجل التي أوحى بها إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل بها كتاباً مبيناً وأرسل بها رسولاً أميناً.

هذه الأمانة العظيمة تنتظر منا أمرين:

الأمر الأول: العمل والتطبيق.

الأمر الثاني: الدعوة إلى هذا الطريق.

العمل والتطبيق أمر يختص بك، فكون الإنسان يلتزم ويسير على طاعة الله ومنهج الله، فهذه رحمة من الله تبارك وتعالى، لكن تأتي الثمرة الثانية وهي ثمرة الدعوة إلى طاعة الله والهداية إلى سبيل الله عز وجل، وإذا أراد الإنسان أن يعرف قدره عند الله عز وجل ومكانته عنده، فلينظر إلى قدر الدين في قلبه، فإن وجد أن هذه الرسالة لها مكانة في قلبه ولها مكانة في فؤاده، وأنه يتمعر وجهه لله عز وجل ويحترق من داخله إذا انتهكت حدود الله، وتُعدِّيت محارم الله فليعلم أن قلبه بخير، وأن نور الإيمان لا زال أثره في فؤاده، وأن الله تعالى يجله ويكرمه على قدر إجلال الدين، والله ما من إنسان يعظم هذا الدين ويحرص على تبليغه للأمة والدلالة عليه والهداية بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا وجدته موفقاً أينما كان، ومسدداً أينما كان، وملهماً الخير أينما كان.

فالواجب على كل واحد منا أن يعلم هذه القضية الأساسية، وهي: أن قيمتك ومكانتك عند الله على قدر الدين، ولذلك جرب يوماً من الأيام أن تجلس فيه مع أهلك وتذكرهم بالله، وتجلس مع زوجتك فتذكرها بالله، ومع أبنائك فتعلمهم شرع الله عز وجل، ثم انظر إلى هيبة أهلك لك، والله يضع الله لك الهيبة على قدر ما وضعت للدين من هيبة، بل ويزيدك، فمن عامل الله فهو الرابح، وليس بيننا وبين الله إلا هذا الدين؛ تحقيقاً ودعوة إليه ودلالة عليه.

فإذا كان كل واحد منا استشعر أن مكانته عند الله على قدر إجلاله لهذا الدين، فحينئذٍ الفوز الفوز، كل واحد منا يرشح نفسه أن يكون أسعد العباد برحمة الله بتبليغ رسالة الله، وليس المطلوب أن الشخص يجلس مثلاً في المساجد وينصح ويذكر ويفعل ما يفعله العلماء إذا لم يكن عنده حصيلة علمية كاملة تؤهله لذلك، فهذا ليس بالمطلوب؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يتحمل هذه الأمانة التي فوق طاقته، إنما المطلوب الشيء الذي بين يديك فتبدأ أولاً بدعوة الأقرب إليك، كأهلك وأبنائك وبناتك وإخوانك؛ لقوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].

المرحلة الثانية: أن تتوسع قليلاً، فتبدأ بدعوة زملائك في العمل، كذلك أيضاً تحرص على جيرانك، وأي خطأ تراه فاعلم علماً مؤكداً أن الله يبتليك بهذا الخطأ الذي رأيته؛ يبتلي إيمانك، يبتليك لكي يعلم وهو علام الغيوب كيف منزلة هذا الدين عندك، الساعة التي ترى فيها المنكر أو ترى فيها أمراً يحتاج إلى نصيحة، يحتاج إلى كلمة طيبة، اعلم أن الله يختبرك فيها، هي ليست محض صدفة كما يقولون، ولم تأت هكذا عبثاً، لا، بل هي ابتلاء واختبار، يقول الله تعالى : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7] ، فالعمل لا يحسن إلا بالصدق مع الله، وأصدق عمل تصدق فيه مع الله عز وجل الدعوة إلى الله عز وجل.

والدعوة إلى الله تبارك وتعالى تكون لكل إنسان بحسبه، ممكن أن تدعو وأنت في وظيفتك، ممكن أن تدعو وأنت في بيتك، ممكن أن تدعو وأنت في مجلس مع إخوانك وزملائك، وليس المراد أن تجلس أربعاً وعشرين ساعة في الدعوة، لا، المراد أن تعطي هذا الدين ما تستطيع، فالله لا يريد منك أن تتحمل ما لا طاقة لك عليه، وأوصيك أن تقرن مع الدعوة الجد والصدق، واعلم أن الأجر والثواب على قدر إخلاصك.

نركز هنا على عدة قضايا:

القضية الأولى: إجلال هذا الدين.

والله لا تُجل هذا الدين إلا كان على قدر ذلك الإجلال يجلك الناس، ولذلك انظر إلى هيبة العلماء عند الناس، ومحبة الناس للعلماء، لماذا؟ هل لأحسابهم؟ لا والله، لأنسابهم؟ لا والله، لألوانهم؟ لا والله، لمالهم؟ لا والله، لجاههم؟ لا والله، وإنما لشيء واحد وهو الدين، فقد صغت قلوبهم لله، وأذعنت لله وغارت له؛ لأنهم أعرف الناس بالله، فلما عظموا الله، جعل الله لهم القبول في العباد، هذه حقيقة مدركة بالدليل النقلي والدليل الحسي المشاهد، لا تُجل ولا تكرم إلا بقدر إجلالك للدين.

فإذاً إذا ثبتت هذه القضية الأولى والركيزة الأولى، وهي: أن مكانتك عند الله على قدر إجلالك للدين، فما عليك إلا أن تؤهل نفسك للدرجات، فتحاول أن تجند نفسك على قدر ما عندك، فإذا رأيت شخصاً تائهاً، فهل من الصعب أن تجلس معه خمس دقائق، وتكلمه كلمتين ربما أنت ما تلقي لها بالاً، يكتب الله لك بها رضا لا سخط بعده؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، هل من الصعب عليك إذا رأيت شاباً حائراً تاركاً للصلاة أن تستوقفه خمس دقائق، فتجلس معه تقول له: هذا الطعام الذي تطعمه لمن؟ والشراب الذي تشربه لمن؟ هذه الروح التي تسري في جسدك فيتحرك بها كل شيءٍ بإذن الله لمن؟ وتقول له: أما تستحي من الله، وأنت ترفل في نعمه ولا تجيب داعي الله في بيت من بيوت الله؟ ثم كلمة بعد كلمة علَّ الله أن يهديه، فوالله ما ركع ركعة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا سجد سجدة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا دمعت عينه من خشية الله إلا كان لك مثل أجره، نعمة وفوز وفضل من الله عز وجل.

القضية الثانية: إذا ثبت أنه ينبغي للإنسان أن يجلَّ دين الله وشرعه، فمن إجلالك لدين الله وشرعه: أن نحب لكل إنسان ما نحب لأنفسنا، وأن نسعى أن يكون هذا الدين وهذه الرسالة عند كل أحد، وأن يظفر بها كل أحد، كل ذلك طمعاً في رحمة الله، والتماساً لرضوان الله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك بأسلوب التشويق، فقال صلوات الله وسلامه عليه حينما بعث علياً رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فهذا يدل على أنه ينبغي بعد إجلال الدين: الانطلاقة للدعوة إليه، قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف:29]، لاحظوا يا إخوان .. مجلس واحد فقط، سمعوا آيات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلاها ذلك اللسان الصادق (فلمّا حضروه قالوا: أنصتوا)، هذه مرحلة الإجلال للدين، حتى في مجلس العلم، قال تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29]، (ولوا): انظر حتى أسلوب القرآن، يقال: ولَّى هارباً، يعني: فزع مباشرة، هذا دليل كمال التأثر بالقرآن، فكل من أجلَّ دين الله لا ينتظر، بل مباشرة ينطلق داعية إلى الله، وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29-30]، إذا كان الإنسان تعلق بهذا الدين وعظم هذا الدين ما يتحمّل، ويتمنى هداية الأمة كلها فليس المهم أن نجلس المجالس ونتأثر ويكون تأثرنا وقتياً، هذا شيء فيه خير وبركة، ولكن الأهم أن ننتقل برسالة الله، فوراءنا أمة تنتظر الآن مثلاً بعض الإخوان قد يجلسون كل أسبوع مرة، يجلسون في حلقة ويتذاكرون، ويتحمسون للدعوة، فيقول أحدهم: الناس بحاجة إلى كذا، ويذكر الآخر بحال الناس، ثم يتفقون مثلاً على شخص يقول كلمة في مسجده على قدر علمه، لا أقول بجهل، وإنما على قدر علمه، فينطلق، وإذا به بعد الانطلاق يحصل ماذا؟ التثبيط، ما السبب في ذلك؟ ما هو السبب الذي يجعلنا نتحمس ويكون حماسنا وقتياً؟ نحن لا نطالب أن الشخص يخرج عن طوره، أو أن الشخص يتعدى مكانه، لا، نحن نطالب أن يكون المبني على أساس وركيزة، عندنا أناس تائهون عن الصلوات، مقصرون، مرتكبون للفواحش والمنكرات، والله إن بعض هؤلاء الفسقة الذين نراهم ويسبهم بعضنا -سامحهم الله- ويشتمهم والله ينتظر من يهديه، وينتظر كلمة تذكره بالله عز وجل، وبمجرد ما يرى إنساناً صالحاً أمامه يقول: يا ليتني كنت مثله فإذا ذكرته بالله يقول: يا ليت الله يجعلني مثلك، وهذا يدل على خيريته وأنه يحب أن يهتدي، لكن ينتظر من يذكره.

يقول الله تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] ، نحن لا نريد الحماس الوقتي؛ كثرة المحاضرات، وكثرة الجلسات، وكثرة القيل والقال، وإنما نريد الثمرة؟ فأين العمل؟ وأين التطبيق؟ نجلس فنتذاكر هموم الأمة وغمومها، لكن ما الذي نفعله نحن؟ الداء معروف، والبلاء معروف، لكن ما الذي تقدمه أنت وأقدمه أنا؟ ونحن لا نريد أن الإنسان يخرج عن الحدود المعتبرة، لا، نحن نقول: يا أخي! اعمل في حدود استطاعتك، فأنت حاول أن تهدي جارك، وأنا أحاول أن يهدي الله عز وجل بي جاري، والثاني والثالث... فكيف سيكون حال الأمة؟ ستكون على خير، لكن ما الذي أوقع الأمة في هذه الحيرة؟ أوقعها تقصيرنا نحن.

ولذلك أذكر قصة لبعض الإخوة، وقد كان من الإخوة الذين نحسبهم فيهم صلاح وفيهم خير، يقول هذا الرجل: كنت أمر كل ليلة جمعة على مجموعة من الشباب ساهرين، فأمر عليهم فألعنهم في نفسي ويتمعر وجهي لله وأتأثر لرؤيتهم، وأبغضهم في الله، يقول: ولا تحدثني نفسي كلما رأيتهم أن أقترب منهم وأنصحهم وأقول: براءة من الله لا أقربهم ولا آتيهم، يقول: وفي يوم من الأيام تشجعت، قلت: لماذا لا أذهب إليهم وأذكرهم بالله، يقول: فذهبت إليهم وإذا بهم مجموعة من الشباب وعليهم شخص رئيس عليهم، يقول: فقلت ما شاء الله أن أقول، وما فتح الله عز وجل عليَّ به، وبعد أن انتهيت، تصوروا ماذا قال الرجل الذي هو رئيسهم؟ يقول: التفت إليَّ وقال: اسمح لي أن أقول لك: إنك حمار، يقول: فلما قال هذه الكلمة، كدت أن أتجاوز حدي، أو ربما أضربه أو أرد عليه، لكن الله ألهمني أن أثبت، وإذا به بعدها مباشرة يقول: عندك هذا الخير كله وكل أسبوع تمر علينا ما وما ذكرتنا إلا الآن، تصوروا كيف قال: عندك هذا الخير كله! لاحظ!! سبحان الله! شاب ضائع تائه، يقول له: عندك هذا الخير كله وكل أسبوع تذهب أمامنا، تذهب وتأتي وما تذكرنا بالله، كل أسبوع أجمعهم لك وتأتي فما تذكرهم بلله وفي الله، وننقلب رأساً على عقب.

الناس ينتظرون منا أن ننصحهم، والخير يا إخوان مقبول، لكن يريد من يحرك الخيرية، ولذلك قد نرى إنساناً يحلق لحيته، أو يسبل ثوبه، أو يشرب الدخان، لكن هل فكر أحد أن يمسك بيده ويذكره، فيقول له: إني لك من الناصحين، وهذا المال الذي تنفقه في الدخان ألا تعلم أنك محاسب عليه، وأن الله سيسألك عنه، وتقول له: يا أخي! أنت في عنفوان شبابك، في زهرة أيامك، أليس حرام أن تعذبها بالدخان؟

ذات مرة كنت أذكر مجموعة من الشباب كانوا يجلسون في حديقة يسهرون، وكانت أمام البيت، وفي يوم من الأيام، خرجت إلى صلاة الفجر، فرأيتهم اليوم الأول، ثم رأيتهم اليوم الثاني، فقلت: الظاهر أنه شيء عارض، وفي اليوم الثالث رأيتهم يجلسون إلى أن يؤذن الفجر ثم يقومون، هل يذهبون إلى المسجد؟ لا، يذهبون إلى بيوتهم، وفي اليوم الثالث أمسكت بأحدهم بين الأذان والإقامة، فذكرته بالله عز وجل، وكنت أتوقع أن يجاملني أو شيئاً من ذلك، والله يا إخوان! إذا بعينه ترسل دموعها، فشددت على يده، فقلت فرصة ما دام أن الله عز وجل فتح عليَّ، فاستمريت بالكلام، وإذا به ينحني ويقبل يدي ورأسي ويبكي، فقلت له: أتمنى أن أراك في المسجد، وما شاء الله إلى يومنا هذا والحمد لله وأنا أراه في المسجد.

قد ترى موظفاً معك مثلاً يسيء الأدب والأخلاق، فلا تجابهه مباشرة، وإنما ادعه للزيارة عندك يأتيك في البيت، فإذا كسرت عينه بالمعروف كلمة على كلمة تذكره بالله عز وجل، تقول له: أتمنى يا فلان أن أراك في المسجد؛ لأني أعيش في سعادة وأحب أنك تشاركني هذه السعادة، كلمات تقرب القلوب إلى الله عز وجل، ثم تقول: هناك بشارة أنك ما سلكت سبيلاً إلى الله إلا وفقك الله، فإن الظهير الذي معك نعم الظهير والنصير نعم المولى ونعم النصير، إياه يُعبد وإياه يستعان، أنت مع الله، ومن كان مع الله كان الله معه.

لمن تدعو؟ تدعو لله، وبمن تذكر؟ تذكر بالله. وأنا قد أسهبت في الإجابة عن هذا السؤال؛ لأن السؤال مهم جداً، ونحن نحتاج إلى عمل، وكثرت المحاضرات وكثرت الكلمات، ولا تريد أن يكون الحماس وقتياً والصلاح محدود، نريد هذا الخير أن ينتشر للغير، نريد الأمة التائهة الغارقة في الشهوات والملهيات أن تتذكر بكلمة طيبة منك، أو تبصر بعبارة منك علَّ الله عز وجل أن يفتح بها قلباً طالما كان مغلقاً، أو ينور بها بصراً طالما كان أعمى، أو يشق بها سمعاً طالما كان أصم، ولا تزهد، والله يا إخوان كلمات أحياناً ما تبالي بها -تتكلم بها- لكن يجعل الله فيها من الخير ما الله به عليم، (فلا تحقرن من المعروف شيئاً).

ولذلك أوصي إخواني ونفسي بالاجتهاد قدر ما نستطيع؛ لأننا لا ندري -والله- أيعيش أحدنا أسبوعاً أو شهراً أو سنة، هذا إذا مد الله في العمر، فما دام الله عز وجل شرح صدرك، فلماذا لا يراك تحمل رسالته إلى عباده، كيف بك عندما يراك الله يوماً من الأيام وأنت جالس في مجلس تشهد الله وملائكته على أنك تريد أن تهدي إلى سبيله، علك تتشرف بالوصف الذي وصف الله به الأخيار فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا [فصلت:33] (من) بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً: مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33]، فكن ولو يوماً من الأيام من أهل هذه الآية، وأرجو من الله أن نكون جميعاً من أهل هذه الآية في كل يوم، والله إنه لشرف، والله ليس بعار أن تحمل رسالة الله، وليس بعار أن تبلغ رسالة الله، وليس بعار أن تدل على الله، ولكن العار أن نأكل من طعامه ونشرب من شرابه وأن نتغذى بنعمه، ثم نستحي أن نبلغ رسالته، سبحان الله! تجد الإنسان يكون في أي عمل من الأعمال، يضحي ويفخر بهذا العمل، ويقول: أنا أعمل كذا وكذا، ويحاول أن يبرز إدارته بأحسن صورة، فكيف بحق الله عز وجل الذي هو أعظم الحقوق.

فلذلك أوصيكم ونفسي بهذا الأمر، ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينور بصائرنا وبصائركم ويهدينا وإياكم إلى سواء السبيل.

ونقطة أخيرة في السؤال وهي: قضية المقارنة بين الدعاة وبين كثرة الأمة.

أقول: الخير موجود والحمد لله، والدين هذا كلمة الله التي ستمضي، يشاء من يشاء ويأبى من يأبى كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]، ووصف نفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21] لا أحد يستطيع أن يغالب الله، إذا غالبه أحد فلا يستطيع أن يقف أمامه، يقولون في أمثال العرب: من عز بز، بمعنى: غلب، فطوبى لمن جنده الله لهذا المكان العالي، فجعله من أوليائه، فأقول: الدعاة إلى الله يبذلون جزاهم الله خيراً، ونسأل الله أن يبارك في أعمارهم، ولكن ما أدري نحن نريد أن نضع العبء على الناس ونتهرب من المسئولية، فنقول: نحن نبذل لكن قلَّ أن نجد من يسمع ومن يتأثر، أو نقول: إن المسئولية على الاثنين، هناك تقصير من جانب الدعاة، ما أتهم الدعاة، ولا أقصد الاتهام، وهناك تقصير أيضاً من طلاب العلم، وتقصير أيضاً من العامة، مثلاً: المحاضرات من يحضرها؟ قد يحضر بعض الناس على سمعة لإنسان، وهذا لا ينبغي، لابد أن نحضر لله وفي الله، لا لزيد ولا لعمرو، على الأقل يرانا الله عز وجل في أي حلقة، المهم أن نستغل هذا الوقت في طاعة الله.

فأقول: هناك جهد للدعاة يذكر، وحسنة لا تنكر، ونحن لا نقول هذا الكلام من باب انتقاص الدعاة ولكن من باب الزيادة، يحتاج الأمر إلى أكثر، ويحتاج أيضاً إلى العناية بالأمور المهمة التي أساسها ومنبعها الإيمان؛ لأنك إذا غرست الإيمان في قلوب الناس وأصلحت عقائدهم ووجهتهم إلى الله عز وجل جاءت الثمرات، المؤمن هو الذي يستطيع أن يقف أمام كل قضية، ويستطيع أن يقف أمام كل نازلة؛ لأن الإيمان هذا نور، وحلاوة في الصدور، فإذا دخل إلى القلب، لا يكون هناك أي عائق يحول بين العبد وربه، ولذلك في بعض الفترات يعلو منسوب الإيمان حتى إن العبد لو بيده أن يفعل كل خير في كتاب الله لفعله، وبعض الأوقات يضعف منسوب الإيمان فبالكاد يحافظ على الفرائض، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من هذه الساعة، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الساعة الأولى.

المقصود: قضية التقصير إذا قارنا بين الدعاة والكثرة، ينبغي أن ينظر إليها من عدة جوانب:

الجانب الأول: جانب التقصير في الاستجابة لما يقوله العلماء، وهذا موجود، وكيف حصل التقصير من العوام؟ يا أخي! الزمان زمان فتنة، العامي يأتي يحضر المحاضرة، لكن بمجرد أن يدخل إلى بيته يفتن في أهله، وفي أولاده، وفي جيرانه، يفتن في أصدقائه، زخم من الفتن ليس بالسهل، نحن في زمان غربة، فمن البديهي أنك تجد صحوة لكن ما تجد استجابة كما ينبغي أن تكون الاستجابة؛ لأن الزمان زمان شر، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة).

فلذلك الذي يظهر والله أعلم أن وجود هذه الأمور لعله راجع إلى فساد الزمان، ولذلك زمان السلف الصالح، إذا كانت المرأة صالحة أو الرجل صالحاً، فهذا شيء بدهي، لكن الغريب إذا فسد أحدهم؟!! من كثرة الخير، فالشاب بمجرد ما يهتدي تقوم عليه الحرب الشنعاء، من أبيه وأمه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ولا أحد يتركه، يقولون: فلان التزم، فلان مطوع، فلان كذا، ما يتركونه، فبيديهي جداً ألا تجد إقبالاً واستجابة وهداية، لأن الشاب حائر.

ثم الأمر الثاني: الحقيقة أنه ينبغي أن ينظر إلى قضية عدم التكاتف والتراحم والترابط الذي ينبغي أن يكون بين المسلمين، هذه قضية مهمة جداً، فالشاب أحياناً يحس بغربة وهو بين إخوانه من طلاب العلم، وإلا لو حصل التآلف والتكاتف لوجدت الإنسان -سبحان الله العظيم!- من أصدق ما يكون التزاماً بالدين؛ لأنه يحس بنشوة في الإيمان، الآن جرب إذا جلست مع إخوانك في الله عندما تقوم كيف يكون حالك؟ سبحان الله! تقوم وعندك نوع من النشوة والارتياح للخير والحرص عليه.

قال حنظلة رضي الله عنه: (إنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكرنا الجنة حتى نكون كأننا ننظر إليها نظر عيان)، فأنا أقول: لعل هذا السبب الأخير، وهو قضية عدم التراحم والتواد والتعاطف الموجود بيننا -نحن طلاب العلم- وبين الشباب -شباب الصحوة-

وأنا أوصيكم ونفسي: أن أي دعوة تقوم بها، وأي شباب يهديهم الله على يديك، احرص أول ما تحرص على تأليف قلوبهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما جاء إلى المدينة، آخى بين المهاجرين والأنصار، والله تعالى يقول : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، فأهم شيء ينبغي أن يُحرص عليه حتى تؤتي الدعوة ثمارها تأليف القلوب، ومحاولة أن نجتمع كما أمرنا الله أن نجتمع، أما أن يكون بعضنا يؤذي بعضاً، وبعضنا يسب بعضاً، وبعضنا يشتم بعضاً، وبعضنا يتهم بعضاً، فكيف تصلح الأحوال؟! بل قلَّ أن تجد اثنين على طريق، هذا يشرق وهذا يغرب، وهذا يتهم وهذا يتهم، والضحية؟ العوام. الناس يريدون الخير، ويريدون الدلالة إلى الخير، تريد من يذكرها بالله حتى يقوى إيمانها في القلب، ويأتي بعضهم يجلس في المجلس فيأتيه أحدهم يقول في أذنه: فلان اتركه، فلان فيه كذا، هؤلاء اتركهم .. هذا من أهم الأسباب الحقيقة التي محقت بركة الدعوة، يقول الله تعالى: وَلا تَنَازَعُوا [الأنفال:46] لماذا؟ فَتَفْشَلُوا [الأنفال:46]، إذاً: سبب الفشل؛ كثرة القيل والقال فإذا حصلت الزلة نحاول أن نحسن الظن ببعضنا، وكل واحد منا يكمل نقص أخيه، وإذا رأى عليه شيئاً يزوره، ويقول: يا فلان! أنا ألاحظ عليك كذا وكذا، بينه وبينه خفية، فالنصيحة سراً نصيحة، وعلى الملأ تشهير وفضيحة، إذا أتيت أمام الناس فلا تقول: فلان فيه كذا، أو تأتي في المجلس تقول: يا فلان فيك كذا فإن هذا يؤدي إلى التمزق، وهذا التمزق الموجود بيننا، لا أراه إلا من أهم العوامل والأسباب التي أضاعت بركة هذه الصحوة، ومزقت شملها، ولذلك أول ما نفكر فيه بعد الدعوة، العمل على وحدة القلوب وتآلفها، فأي إنسان يهديه الله على يديك تحرص على أن يكون قلبه من أنقى ما يكون على عباد الله المؤمنين، فلا يدخل في قلبه شيء، وينظر إلى إخوانه المؤمنين نظرة صادقة سليمة، تصحح مبادئه ونظرته إلى إخوانه المسلمين.

يقول تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، نعوذ بالله من طمس البصائر، فلذلك تمزيق القلوب وكثرة القيل والقال وإساءة الظن، هذه لا ينبغي أن تكون بين الإخوة في الله، وأنا أرى أن ذلك من أهم الأسباب التي أضاعت فضل هذه الصحوة ومزقتها.

وينبغي للداعية مع الداعية أن يحس أنه منه وله، وكان السلف رحمهم الله يجلس بعضهم في مجالس العلم للبعض، ويأنس بعضهم بقول البعض، ويزور بعضهم بعضاً، ويحس طلاب العلم أن بينهم تواد وتراحم وتآلف.

ولذلك أنا أقول كلمة أخيرة في هذه القضية: ما دام هذا الداء موجوداً، فأرى أن أهم شيء ينبغي على الدعاة إلى الله والعلماء أن يفكروا وأن ينظروا إلى عاقبة كثرة القيل والقال، إذا أصبح كل داعية يأتي ما يكون منه سبب في تمزيق إخوانه وشتاتهم، فأنا أرى أن هذا من إساءة الصنع، نعم .. انقد الرأي .. انقد القول كما قلنا، لكن الذات هذه لا تجرحها، إلا فيما بيَّن الشرع، وفي الحدود الشرعية، لكن الاسترسال في ذلك، وإذا هيئت طلاب العلم من أجل أن يتتبعوا عورات العلماء فغداً يتتبعون عورتك.

يذكر عن أحد الذين -نسأل الله السلام والعافية- ما أحسنوا تربية طلابهم، هو أصلاً ليس من أهل العلم، إنما -نسأل الله السلامة والعافية- تجرأ حتى أصبح يدرِّس، وكما قال الشاعر:

تصدر للتدريس كل مهوس بليد تسمَّى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس

فجمع له طلاباً وفتح له كتاباً، وعلم ما شاء الله أن يعلم، يجرح في فلان، ويثلب فلاناً، وينتقص فلاناً، ويسيء الظن في فلان، وفي يوم من الأيام تناقش مع أحد طلابه في حديث، وكان الطالب يحتج بالحديث، فما كان من الطالب -نسأل الله السلامة والعافية- إلا أن قام وصفع شيخه وضربه، فجاء الطلاب ثائرين، قالوا: ما بك كذا؟ قال: أبداً، هذا رد الحديث، ومن رد الحديث فهو كافر، فنفس البذرة التي غرسها وجد ثمرتها، (جزاءً وفاقاً)، فإذا ربينا شباب الصحوة على النقد وعلى القيل والقال فغداً يلتفتون إلينا، لكن نربيهم على أصول صحيحة في النقد، وأصول سليمة، وهناك فرق بين النقد أمام العامة والنقد في الخاصة، ونقد الرأي ونقد الذات، هذه أمور ينبغي أن نفرق فيها، وأن نعطي كل ذي حق حقه، وأن نذكر الحسنات والسيئات، ونبين ونوازن، والله عز وجل قال في اليهود والنصارى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:66]، ما قال كلهم، (منهم أمة) حتى يعلمنا الأدب في الحكم، وقال في أهل الكتاب: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ [آل عمران:113] ، الحسنات والسيئات، يعني الصالح والطالح، يبين صالحهم وطالحهم، أما أن يأتي الشخص هكذا ويكتسح كل ما أمامه، فهذا ليس من الإنصاف.

فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح الحال وأن يحسن العاقبة والمآل، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

السؤال: أثابك الله يا شيخ ونفع بعلمك، أما هذا السؤال فضيلة الشيخ، فهو من القضايا الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي العلم الصحيح وسلامة المنهج، ولكن هناك قضية يغفل عنها كثير من الدعاة، وقد لا يهتدي إليها إلا القليل، ولا يملك مفتاحها ولا يعرف أسرارها إلا الأقل، ألا وهي قضية كسب قلوب الناس ومحبتهم، فما السبيل إلى ذلك؟

الجواب: لا شك أن ما تضمنه السؤال من الحرص على قضية العلم، هي قضية أساسية، فالعلم نور، ومن جعل الله له هذا النور فقد أبصر السبيل، وكان الله له دليلاً ونعم الدليل، ولذلك العلم مفتاح كل خير ومنبع كل فضل، وللإمام ابن القيم كلام ما معناه: إن الإنسان يبصر بنورين: نور من داخله، ونور من خارجه، أما النور الداخلي فالبصر، وأما النور الخارجي فالشمس والشعلة المضاءة، فلو انطفأ أحد النورين لم يغن الآخر عنه، ولذلك -مثلاً- لو عمي الإنسان لا تنفعه الشمس، ولو وجد نور العين والشمس غير موجودة والمكان مظلم أتنفع العين؟ لا تنفع، إذاً لا بد من نورين: نور داخلي ونور خارجي، ولذلك يقولون في قوله تعالى: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35] ، نور العقل الذي جعل الله عز وجل به معرفة الخير من الشر، ونور الإيمان والعلم، فقال: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] ، جعلنا الله وإياكم ممن هداه.

فلا بد من أمرين، العالم لا شك أنه على نور من الله، ولذلك يقول بعض العلماء، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات [الأنعام:122] ، قال بعض العلماء في هذه الآية: هذا مثل للعالم والجاهل، (أومن كان ميتاً فأحييناه) أحييناه بماذا؟ بالعلم (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) سبحان الله العظيم! إذا كان الناس في مكان مظلم، وجاء شخص معه نور، فكل الناس ستتبع هذا الذي معه نور، لا يمكن لأحد أن يتركه، إلا إنساناً ليس عنده عقل.

قضية كسب القلوب، هي سر الصنعة كما يقولون، هذه أمور بيد علام الغيوب، القلوب مفاتيحها بيد الله عز وجل، فكسبها يحتاج إلى أمور:

أولها: الإخلاص؛ فالمخلص هو الذي يفتح الله له القلوب، ولذلك رب كلمة صادقة من إنسان مخلص تدخل إلى سويداء القلوب، ويحيي الله عز وجل بها قلوباً طالما ماتت، ورب كلام كثير غير يسير لا يجد الإنسان له أثراً، ولا يجد له تفاعلاً مع نفسه، وكما قال بعض السلف عن سبب تأثيره في غيره، قال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة، فالنائحة الثكلى هي التي أصيبت، أما النائحة المستأجرة فتصيح بدون صدق، تصيح من أجل الدراهم، لكن الثكلى تصيح من أجل ولدها، لذا تصيح من قلبها، فكأنه يقول: إن الكلمة لما تخرج من القلب تقع في القلب، وهذا من عدل الله عز وجل، الله عدل، ووصف نفسه بالعدل المطلق الذي هو غاية العدل، لا يمكن أن يسوي بين إنسان يرائي ويسمع، وإنسان يريد وجهه. فبينهما كما بين السماء والأرض.

ولذلك أول شيء تريد أن تكسب به القلوب في الدعوة إلى الله يا طالب العلم! يا داعياً إلى الله! أو أنت في أي مكان كنت، ولو كان الإنسان عامياً يريد أن يكسب القلوب، فأول شيء ينصح به الإخلاص.

الأمر الثاني مما يعين على كسب القلوب: التزام الشرع أو الدين؛ لأن الله عز وجل كتب المحبة لأوليائه، ما من إنسان يلتزم كتاب الله إلا قذف الله في قلوب عباده حبه، أياً كان هذا الرجل، قال تعالى مصداقاً لذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96] (وُدًّا): يعني: محبة في الصدور، قال بعض العلماء: العمل الصالح سبب لمحبة العبد.

إذاً الأمر الثاني بعد الإخلاص: قضية الالتزام بالشرع، ولذلك الداعية الذي يلتزم بما يقول ويعمل بما يقول يتأثر به الناس أكثر من الداعية الذي يقول ما لا يفعل.

الأمر الثالث مما يعين على كسب القلوب: التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من أحب العباد إلى العباد، وكانت القلوب تحبه قبل أن ينطق بمنطقه صلوات الله وسلامه عليه، فقد قذف الله المحبة فيه؛ بمنطقه ومخبره ومنظره قبل مخبره صلوات الله وسلامه عليه، فعندما تلتزم سيرته سيكون لك الأثر، لماذا قذف الله في قلوب العباد حبه؟ بسبب آدابه وأخلاقه، فطالب العلم أو الداعية أو العامي، أي إنسان إذا التزم بآداب النبي صلى الله عليه وآله وسلم -سبحان الله!- الزوجة تكرمه والابن يكرمه، فهو عندما يطبق السنة، ويحاول أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أموره العامة والخاصة، حتى في شئون الطعام والأكل والشرب والمنام، ويحتسب عند الله التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد فترة يجد المحبة ويحس بها دون أن يخسر شيئاً، فتتجه القلوب إلى محبته؛ لأن الله يحب السنة؛ لأنها هي الحكمة التي أوحاها إلى نبيه، ويحب أهلها، وإذا أحبك الله وضع لك المحبة في قلوب عباده.

الأمر الرابع الذي يعين على محبة الناس وكسب قلوبهم: المحافظة على مشاعرهم في حدود الشرع، لا يكون الإنسان فظاً غليظاً، وهذا أشار إليه الله تعالى حينما قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] إذاً لا بد أن يكون الإنسان حليماً رحيماً، المرأة التي جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرب من مزادتها، وتفجر الماء بين أصابعه، ما قال لها: أنت مشركة، أنت ضالة، أنت كذا، وإنما أحسن إليها وأرسلها، فلما ذهبت إلى قومها قالت: جئتكم من عند أسحر الخلق، إما أنه نبي أو ساحر.

عيينة بن حصن الفزاري جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما قال له أنت مشرك ضال بعيد عن الله عز وجل -جابهه مباشرة- وإنما أعطاه وادياً من النعم، فلما سرى به إلى أهله قال: يا قوم! أسلموا، فوالذي يحلف به عيينة لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر. ملك القلوب بالإحسان، والآداب والأخلاق، والإنسان عندما يكون مثلاً بين العوام، أو يريد أن يهدي أناساً ضالين، فلا يفكر أنه ركب على أكتافهم، أو أن بيده مفاتيح الجنة والنار، يدخل من شاء ويخرج من شاء، لا. فالأمر يحتاج إلى تقريب القلوب إلى الله عز وجل، ويحتاج إلى حكمة في ذلك التقريب، فإذا وفق الله عز وجل الإنسان لذلك كسب القلوب، وإذا بها بعد فترة تحبه شاء أم أبى، الناس تخسر الملايين من أجل أن يحبوا وأن يكرموا، فالتجار وأهل السمعة والفنانون وغيرهم يخسرون الملايين من أجل أن يحبوا، ولكن طالب العلم لا يخسر شيئاً، فقط يصلح ما بينه وبين الله فيجعل الله له القبول في الأرض، مجرد أن ترى الشخص من عباد الله الأخيار الملتزمين بالكتاب والسنة، تحبه بسبب ماذا؟ الدين: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] هذه من المعزة التي كتبها الله لخاصة عباده -جعلنا الله وإياكم منهم-، وعندما تذكر الناس أول شيء ذكرهم بقلب صادق، مثلاً إذا جلس إنسان مع ولده ووالده وأهله وقرابته يريد أن يذكرهم بالله، يقول بعض العلماء: انظر إلى نفسك إن كان رأى الإنسان أخاه أو أخته على معصية، فجاء من باب الغيرة، يعني كيف الأخت تفعل كذا، كيف الأخ يفعل كذا، كيف ابني يفعل كذا، أصبحت ما هي لله، بل أصبحت غيرة للناس، إذا كنت تريد أن تكسب قلبه للدعوة، فلابد أن تكون لله، وتنظر إلى بعده عن طاعة الله وبعده عن سبيل الله وتنطلق من هذا المنطلق.

نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن كتب الله له حبه ومتعه بحبه وحب خلقه. والله تعالى أعلم.

السؤال: جزاك الله خيراً، إذا تصفحنا كثيراً من كتب العلم، كتب السنة والحديث، نجد أنها ضمَّت إلى جانب أبواب الفقه والعقيدة والطهارة والسير والجهاد وما إلى ذلك، ضمَّت أيضاً باباً أو كتاباً كاملاً عن الرقائق، وقضية الرقائق والسلوك والإيمانيات أيضاً هي من القضايا التي غفل عنها كثير من الملتزمين وطلبة العلم والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، سواء من الناحية العلمية أو من الناحية العملية، فهم من الناحية العلمية -كما سبق أن ذكرنا- لا يقرءون في هذه إلا القليل، وربما تجد الواحد منهم يعرف الكثير عن العلماء الأعلام كـابن تيمية رحمه الله، فإنهم يعرفون عن علمه ومصنفاته، وعن جهاده ودوره، ولكنهم قد لا يعرفون شيئاً عن قلبه وعن مدى الإيمان العظيم الذي يضمه بين صدره، ومن الناحية العملية تجد أيضاً أن كثيراً من الناس يفتقرون إلى كثير من القضايا التي ترقق القلوب، فلا نجد زيارة للقبور، ولا حرصاً أو تواصياً على قيام الليل، ولا على كثرة الصيام، ولا غير ذلك من هذه القضايا التي ترقق القلوب وتقوي الصلة بين العبد وبين ربه، فما هو توجيهكم في هذه القضية؟

الجواب: أما جانب العناية بالقلوب ومحاولة الإنسان أن يكون قلبه ليكون قريباً من الله عز وجل، وأن يكون عنده سكينة وخشوع وانكسار، هذا أمر مهم جداً لكل طالب علم، ولكل مسلم فضلاً عن طالب علم أو عن عالم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيما صح من حديث النعمان: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) ، فالعناية بالقلب ورقته وخشوعه وانكساره أمر مطلوب، ولا ينبغي لطالب علم أن يهملها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتحلى بالخشوع ويتحلى بالرقة، (قرأ عليه عبد الله بن مسعود سورة النساء -بطلب منه عليه الصلاة والسلام- حتى بلغ قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42] فقال لي: حسبك، قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان صلوات الله وسلامه عليه)، فكان يتأثر صلوات الله وسلامه عليه، قلبه حي، يتفاعل مع القرآن.

فإذا جلس طالب العلم مثلاً يتكلم عن موضوع يحتاج إلى تأثر، وأن يكون متفاعلاً معه، يتكلم عن جانب الإخلاص، فينبغي أن يكون عنده تأثر، وأن يكون قلبه في رقة، بحيث يتمعر لله ويظهر أثناء حديثه جانباً من الروحانية، أما لو جاء يقرع جانب الإخلاص بذكر السلبيات، وأن الناس يقصرون، وأنهم يراءون، وأنهم.. وأنهم..، فما هي النتيجة، يخرج الناس ما يدرون كيف يعملون ولا ما هو الحل؟ لكن لو جاء وبيَّن فضل الله على العباد، وأن العبد ينبغي أن يستحي من الله، وأن يكون قريباً من الله، ورويداً رويداً حتى يصل إلى القضية التي يريدها، ويجمع بين المادة وبين الروح، بتهيئة النفس إلى قبول ذلك، هذا أمرٌ مهم جداً، وأصدق شاهد على قضية الترهيب والترغيب والعناية بالرقائق ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أول ما أنزل- آيات فيها ذكر الجنة وذكر النار-يا إخوان هذا الحديث مهم جداً، وينبغي أن يتنبه له- تقول فيه أم المؤمنين: (كان في أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار، ولو نزل لا تسرقوا، لا تشربوا الخمر، ما آمن أحد). من أين كانت البداية؟ من جانب الترقيق، لكن جانب الترقيق لا يغلو الإنسان فيه؛ مثلما غلا بعض المتصوفة وبعض أهل الضلالات، لا.. لا، يجب أن يكون الترقيق منضبطاً بالكتاب والسنة، وتذكر بآيات الكتاب، تذكر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم معين خصب، ورياض ناضرة لا ينضب معينها، لكن تحتاج إلى ذلك الحكيم الذي يتفاعل معها أولاً، ثم ينقلها إلى الغير.

فأنا أقول: لا بد لطالب العلم، وكل أحد أن يعتني بجانب الترقيق؛ لأن القلب يقسو بأمور الدنيا، والأخذ والعطاء فيها، فأعط لنفسك في اليوم ولو ساعة تقرأ فيها كتاب الله، مثلاً: الإنسان بعد العشاء ينتهي من أعماله، لماذا لا يتوضأ ويفتح كتاب الله إذا كان غير حافظ فيقوم ويركع ركعتين، ولا يعرف فيها شيئاً إلا كلام الله، ينسى الزوجة والأبناء، حتى يعطي كتاب الله حقه من التدبر.

يا إخوان! كل ليلة نؤجل للتي بعدها، نقرأ القرآن بقلوب فارغة، ونقول فيما بعد إن شاء الله يأتينا الخشوع، فيما بعد.. فيما بعد.. والنهاية؟ كل يوم ونحن نتدارك الذي بعده، لا، من الليلة، خذ لك ولو نصف ساعة بعد صلاة العشاء اقرأ فيها كتاب الله -سبحان الله العظيم- وحس كأنك المخاطب، إن جاء ذكر النار تصور كأنك فيها، وإن جاء ذكر الجنة تصور كأنك في نعيمها وسرورها، ما بين خوف وبين رجاء، وكما يقول بعض السلف: هما جناحا السلامة، فاقرأ، ثم بعد ذلك قرب قلبك من هذا الكتاب الذي لو نزل على الجبال لاندكت، ولو نزل على الرواسي من خشية الله لانهدت، فقرب نفسك منه، حس كأن هذا الكتاب نزل لك من أجل أن تعمل به، وتتغافل معه فإذا فعلت ذلك فإن قلبك ينشرح، ونفسك ترتاح، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وإذا بك -سبحان الله العظيم!- هاتان الركعتان أو هاتان الآيتان اللتان تلوتهما وتدبرتهما والله تجد حلاوتهما في يومك بأكمله، وتجد أثرهما في قلبك.

وكيف كان علماء السلف، كان عالم السلف لا بد أن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، الإمام الشافعي جاءته امرأة سألته عن حجية السنة، قال: أنظريني ثلاثة أيام، لماذا؟ لأنه يمر على هذا الكتاب كل ثلاثة أيام، يعني يختم القرآن كل ثلاثة أيام، فلما كانت الليلة الثالثة كبَّر في السحر؛ لأنه في الليلة الثالثة في الثلث الأخير، وفيه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ، قال: يكفي هذه الآية، فعثر على حجية السنة.

فلذلك كان السلف على صلة، العالم يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ، معنى ذلك أن أي همٍ من هموم الأمة إذا مرَّ عليه فخلال ثلاث ليالٍ يعرضه على الكتاب، ولذلك لا تجد أحداً يتكلم إلا يقول لك: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

فأنا أقول: جانب العناية بالرقائق والقلوب مهم جداً، لكن يكون أساسه الكتاب والسنة، وينبغي أن ينبه بعدم العناية كثيراً بالقصص، وترك الكتاب والسنة، لأن بعض الناس يعتني بجانب القصص، حتى أنك تسمع محاضرة، كلها قصص وأحداث وأخبار، وقد يتأثر بعض العامة بها أكثر من القرآن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما ينبغي هذا، والله بعض آيات الكتاب بل كل آيات الكتاب، لو أن الإنسان أحسن تدبرها وخشوعها وتذكرها، فإن القلوب تتفتت من خشية الله عز وجل، وإن بعض المجالس نعرفها لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم وأحسن الخاتمة لأحيائهم، والله لا زلنا نذكر آيات يسيرة ذكرونا بها ولا تزال في قلوبنا؛ لأن القرآن عجيب.

فلذلك ترقيق القلوب يكون بالقرآن، وأما الخيالات والقصص والمنامات وهذه الأمور الحقيقة يفضل تركها إلا ما وافق الكتاب والسنة يذكر بقدر حتى لا يسترسل الناس فيه، ولا مانع أن يستشهد الواعظ بشيء له أصل من الكتاب والسنة.

فالمقصود من هذا كله أن جانب الترقيق مهم جداً، ولذلك جرب الآن واجلس في حلقة فيها مثلاً جانب علمي؛ مادة علمية بحتة، تقوم من الحلقة هناك فائدة، لكن ماذا؟ القلب تجده قد يقسو، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يربط الأعمال بأثرها على القلوب، فيذكر مثلاً الوضوء، قال عليه الصلاة والسلام: من توضأ .. توضأ وضوءاً كاملاً -كما في حديث حمران عن عثمان في الصحيحين- لما انتهى من الوضوء ماذا قال؟ قال عليه الصلاة والسلام: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه) تشويق، وأسلوب جمع بين المادة وبين الأثر، كذلك إذا جئت تعلم اجمع بين المادة العلمية وبين الآثار المترتبة، أما أن تكون مادة علمية بحتة، قال فلان قال علان، هذا صعب، والإنسان ضعيف، لا يحتمل كثيراً من هذا، فأقول: جانب الإيمانيات مهم جداً، مهم للداعية، مهم لطالب العلم، مهم للعامة، العامي الآن إذا ذكرته بالله أحياناً يبكي وتجده يتأثر ويهلل ويكبر من الأثر، يمكن أن يكون هذا المجلس سبباً في صلاح سنة كاملة منه بل سنوات، بسبب ماذا؟ جانب الإيمانيات، وأهم قضية قضية الإيمان، إذا صلح للإنسان معتقده وإيمانه بالله استقام، وسار على منهج ربه وأصاب دار السلام، بماذا؟ بالإيمان.

نسأل الله عز وجل أن يكمل إيماننا وإيمانكم، وأن يشرح صدورنا وصدوركم. والله تعالى أعلم.

السؤال: أثابك الله يا شيخ ونفع بعلمك، محاسبة النفس لها أهميتها، والصالحون والدعاة هم أمس الناس حاجة إليها، وقد أقسم تبارك وتعالى في كتابه بالنفس اللوامة، ونسمع عن العلماء في وصف محاسبة النفس قولهم: أنه يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، ولكنها لكثير من الناس تظل قضايا نظرية أكثر منها عملية في هذا الزمن المادي المليء بالفتن، فكيف السبيل إلى محاسبة للنفس حقيقية عملية؟ وكيف كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يحاسبون أنفسهم؟

الجواب: الله أكبر! الله أكبر! وهذا سؤال يحتاج إلى تدبر وتأمل، ويا ليتنا نبلغ هذا المقام، الله المستعان، الله أكبر!

المحاسبة مفاعلة من الحساب، ومعنى ذلك: أن الإنسان يعيش مع نفسه في كل لحظة من لحظاته، إن خيراً حمد الله واهب الخير، وإن شراً استغفر الله عز وجل غافر الشر، فيعيش الإنسان مع نفسه في كل حركة وفي كل سكون، وهذه غاية في مراقبة الله عز وجل، ولذلك ما وفق الله عز وجل العبد لمحاسبة النفس إلا وفقه لطريق السلامة، وإذا أردت أن ترى العبد الناجي من عقوبة الله عز وجل -بإذن الله- فانظر إلى ذلك الرجل الذي لا يفتر لحظة إلا وهو يحاسب نفسه، تسره حسنته فيحمد الله، وتسوءه سيئته فيدمع من خشية الله.

والله ما وفق الإنسان لشيءٍ بعد الإيمان مثل محاسبة النفس، وتأديبها بعد الحساب لها، مرحلتان: مرحلة المحاسبة ومرحلة التأديب، لا يحاسب ويسكت، بعض الناس يقول: أنا مقصر، وكذا وكذا، ادع لي ادع لي، ما ينفع!! مقصر وبعيد عن الله، لكن العمل النجاة، محاسبة النفس هي سبيل النجاة، وكما ورد في الآية أن الله تعالى أقسم بالنفس اللوامة: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2]، هذا إثبات للقسم، ولذلك قيل: إن (لا) زائدة أي: وأقسم بالنفس اللوامة، قال بعض العلماء: أقسم الله بها؛ لكي يدل على عظيم مكانها وجليل منزلتها، فهو الذي يهب هذه النفس.

والنفس اللوامة يهيئوها الله عز وجل أولاً بالإيمان، فما تأتي الملامة إلا بالإيمان، إذا قوي اعتقاد الإنسان بالله، وقوي إيمانه بالله، وعرف الله بأسمائه وصفاته هاب الله، فلما هاب الله إذا بنفسه تناديه: ما الذي فعلته؟ من الذي عصيته؟ فتأتي ثمرة الإيمان؛ وهي محاسبة النفس.

ومحاسبة النفس تكون بالجليل والحقير، والصغير والكبير، تكون للإنسان وهو خالٍ فريد، فيجلس فيقول: يوم كامل -أربعة وعشرون ساعة- فيم قضيته؟ وما الذي كان عليَّ من نعم الله فيها؟ فيعقد موازنة بين أمرين: بين نعم الله عليه وإحسانه عليه، وإساءته في جنب الله، وفي طرفة عين تأتي الآثار المترتبة، دمعة من خشية الله، أو عبرة في جنب الله، هذا بسبب ماذا؟ بسبب المحاسبة الصادقة، ولذلك ورد في أثر عمر أنه قال مخاطباً الناس: (أيها الناس! زنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتهيئوا للعرض الأكبر، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] ).

ومحاسبة النفس نعمة من الله عز وجل، يحاسب الإنسان نفسه خالياً فريداً على ما ضيع من حقوق الله وحقوق العباد، ويحاسب نفسه وهو بين أهله، ويحاسب نفسه وهو بين أصدقائه، ويحاسب نفسه في كل حركاته وسكناته وهذا أكمل ما تكون عليه المحاسبة، يحاسب نفسه في جوارحه؛ في اللسان، كان بعض السلف يعد الكلمات التي يتكلم فيها من الجمعة إلى الجمعة، كما روى ذلك أبو نعيم في الحلية.

أُثر عن ابن دقيق العيد رحمة الله عليه، الإمام الجليل صاحب الإحكام، أنه قضى في قضية، فلما انتهى من القضية اتهمه أحد الخصمين بأنه جار في حكمه، وأنه لم يحسن القضاء، فقال له: أتتهمني؟! والله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل.

فكان السلف رحمهم الله يراقبون الله في أقوالهم، يراقبون الله في أسماعهم وأبصارهم وفي قلوبهم، محاسبة النفس تكون في القلوب، فلا يدخل في قلبه غل على مسلم، ويكون قلبه صافياً نقياً يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، يحاسب نفسه في سمعه، ويخشى أنه في يوم من الأيام ينظر الله إليه وقد أصغى إلى حرام، بمجرد إحساسه بالحرام إذا به ينفر عنه، فالحقيقة إذا أراد الله بالعبد خيراً هيأه لمحاسبة نفسه، وشرح صدره لها.

وحال السلف رحمة الله عليهم في المحاسبة حال كمال، وأخبارهم في ذلك يطول ذكرها.

بلغ بعضهم من العلم مبلغاً عظيماً، فلما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: أتبكي وقد وفقك الله لعلم وخير كثير؟! وقد كان إماماً وعالماً جليلاً من العلماء، قيل له: أتبكي وقد وفقك الله لهذا الخير الكثير؟! قال: والله الذي لا إله غيره إني لأتمنى أن أخرج من هذا العلم كفافاً لا لي ولا عليَّ . إحساس منه بالتفريط في جنب الله عز وجل.

وكانت المحاسبة في المال والأهل والولد، وكان الإنسان يحاسب نفسه في كل صغيرة وكبيرة، إذا جاء الأمر من أوامر الشرع امتثلوا وكانوا يخافون أن يقعوا في شيء من محارم الله، يحاسبون أنفسهم على أصغر شيء حتى في جانب الورع، كان الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه يبيع الخز -وكفى له بذلك فضلاً وشرفاً أن يتواضع وأن يأكل من كسب يده، فليس في ذلك منقصة له رحمة الله عليه- فجاءه رجل واستدان منه شيئاً، فأراد أن يأخذ المال من عنده، فذهب إلى الذي عليه الدين في وقت الظهر، وكانت الشمس شديدة، وكان معه أصحابه فقرعوا الباب، فجاء أصحابه تحت المظلة، مظلة بيت المدين هذا الذي عليه الدين، فقالوا: هلم يا إمام إلى الظل، فقال: أخشى أن تكون منفعة لي عليه، فتكون من جنس الربا، فأي محاسبة ومراقبة دقيقة هذه، الآن الإنسان قد يجلس في مكتبه، ويأخذ الأوراق الخاصة والأوراق العامة ويكتب عليها رسائل، ويكتب عليها محاضرات وندوات، وقد يكون من الشباب الطيبين، ولا يحاسب نفسه، وقد ينال من السيئات والأوزار ما الله به عليم؛ فقد يأخذ أشياءً هو مؤتمن عليها، وأشياء تتعلق بها مصالح .. يفعل بها ما يشاء، هذا من ضعف المحاسبة.

المحاسبة: تراقب الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وتعلم الحلال فتفعله، والحرام فتتركه.

نسأل الله عز وجل أن يحيي قلوبنا وقلوبكم لذلك. والله تعالى أعلم.

السؤال: الحقيقة الأسئلة كثيرة، والقضايا التي نريد علاجها كثيرة، الدعوة إلى الله عز وجل ليست محصورة في شكل معين ولا نمط من الأنماط ولا في جهد أو نشاط لا يتغير، ولكن يظل الداعية الناجح بحاجة إلى أن يتقن فن الكلام وفن مخاطبة الناس، وإلقاء الكلمات والمواعظ، فهذا مما لا يقدر عليه كل أحد، ولا نقصد بهذا أن يتصدر طلبة العلم المجالس وأن يتصدروا الإفتاء، وغير هذا مما لا ينبغي لهم أدباً مع العلم وعرفاناً بقدر أنفسهم، ولكن كل واحد منّا يحتاج إلى أن يكلم أهل حيّه أو أن يعظ في مسجده أو أن يبلغ جيرانه، أو أن يحدث من في مجلسه بكلمة فيها خير، أو بما يفتح الله سبحانه وتعالى عليه لعلّ الله عز وجل يهدي بكلمته وينفع، وكذلك في الحقيقة يشتكي بعض الإخوة الذين قد يقرءون في بعض الدروس وبعض الكتب ويرون أنهم يستوعبون الموضوع استيعاباً كاملاً ويفهمونه، ولكنهم إذا ما أرادوا تقديمه وإفادة الناس به وجدوا في ذلك صعوبة كبيرة، فما هو توجيهكم لعلاج هذه القضية؟

الجواب: فنّ الكلام ليس فيه مشكلة، يعني: الكلام بسيط وسهل، لكن القضية ترجع إلى الكلام الصادق، الشاب الذي يعلم أن الدعوة إلى الله أمانة ومسئولية، سيقوم والله لو كان أمام الأمة كلها، لكن البلاء جاءنا من ضعف الإيمان، يقول الشاب: أنا لماذا أقف؟ قد أخطئ في النحو أو في الصرف فيضحك عليَّ الناس، أصبحت القضية قضية شخصية، -سبحان الله!- إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] يا إخواننا! الأمر كله في القلب، فإذا أردت أن تهدي الأمة ستقوم، لا تقل: أنا لا أعرف كيف أتكلم وكيف أقوم في طلاب علم أعظهم، هذا نراه، يقوم عامي في المسجد يصيح والمسجد مليء بطلاب العلم، فيه من هو أحق بالكلام منه، لكن سبحان من أحيا قلب هذا العامي حتى يذكر بالله وأمات قلب غيره، القضية ترجع إلى القلب، والأمر محكه في القلب، إن جاء الداعية وجلس في المجلس وقال: والله أمتي بحاجة إلى الدعوة أنا أتكفل لكم بكلمة في المسجد، يذهب إلى البيت يدرس الموضوع يأتيه الشيطان من كل حدب وصوب .. جارك فلان يعرفك عندما كنت ضالاً، وجارك الثاني يضحك منك، وجارك فلان كثير الكلام في المجالس، أراك إذا قمت تتكلم سيضحك منك فلان وعلان، حتى يقتل الإيمان الذي في قلبك، ولا يزال يقل منسوب الإيمان عندك حتى يصل إلى الحضيض، فإذا وصل إلى الحضيض أسلمه الشيطان إلى الخلاصة، وهي: لا تتكلم، فيقول: سمعاً وطاعة لا أتكلم، فيأتي في المجلس يقولون له: قم تكلم، يقول: والله أنا لست بأهل، فيجعلها قضية ورع، لا، القضية قضية أن الإنسان يبذل ما عنده، يا أخي! قم وقل لهم: يا إخوة احرصوا على الصلاة، احرصوا على الزكاة، احرصوا على الخير، لا تسهروا في معصية الله.. يعني أمور واضحة لا تحتاج المسألة إلى كثير علم، قم فلعل الكلمة هذه تلامس قلباً يحييه الله عز وجل إلى لقائه.

فأنا أقول: محك القضية ليس في الكلام، محك القضية في محور الكلام، ما الذي يحرك اللسان؟ القلب. إن كنت تريد أن تقوم لله وفي الله، والله سوف تقوم، وستتكلم بكل ورع وصدق، وإن كانت القضية أن الإنسان يريد أن يقول: أنا طالب علم الآن، قد أصير أضحوكة إذا تكلمت، دعني قليلاً حتى أتعلم وأحسن العبارات الطيبة، ويشهدون بأني عالم وأني أحسن الكلام، انتبه فهذا هو الرياء بعينه -نسأل الله السلامة والعافية- يقول عليه الصلاة والسلام: (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به).

أمور الدين يجب أن تكون لله وفي الله، تأمل أنك عندما تقول: لا إله إلا الله، كم أذن ستسمعك من الجن والإنس؟ حتى لو سمعتك أذن واحدة، أي خير سيكون لك.

مرة من المرات شاء الله أني جلست مع والدي رحمة الله عليه في الحرم، أريد أن أقرأ عليه، وشاء الله بعد صلاة الفجر أن خرج كثير من الناس لا أدري لماذا، بقيت أنا والوالد في الحرم النبوي، أنا أقرأ والوالد يفسر، والله ما قطع درسه ولا امتنع من الدرس، فقلت: لا يوجد أحد!! فقال لي: اقرأ فقط، سواءً كان هناك أناس أم لا.

فالإنسان الذي يعامل الله ما عليه، حتى لو كانت أذن واحدة تصغي له، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب ولما جاءت العير انصرف الناس إلى التجارة، وتركوه قائماً صلوات الله وسلامه عليه، فما قطع خطبته، ولا قال: أين الناس؟ لأن الخطبة ليست للناس، وإنما هي لرب الناس.

فأنا أقول: إذا كان الشخص يريد أن يقف في مسجد حيه، أو مع إخوانه، أو في مجلس يذكر بالله عز وجل، إن كان لله فسيتكلم، والله أشهد لله ما تقوم لله في مجلس وتنصح لله إلا وفقك الله في مجلس بعده إذا أخلصت، وما توفق في محاضرة في جلسة إلا وفقك الله لخير منها إذا صدقت، فلذلك يحتسب طالب العلم.

أنا أقول: إذا كانت القضية قضية كلام، الكلام سهل، لكن المهم والمحور والأساس القلب، وأنا أقول: كل شخص يحس بقيمة هذا الدين الذي هو الأساس والمنطلق، إذا أحسست بقيمة هذا الدين بإذن الله ستنطلق.

وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم للقول السديد والعمل الصالح الرشيد، إنه على كل شيءٍ شهيد.

السؤال: فضيلة الشيخ حفظه الله، إنك تقول قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقد ورد عنه كذا، فما الداعي بعد ذلك أن تقول قال مالك أو غيره؟

الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

فإن هذا السؤال فيه إساءة أدب مع أهل العلم رحمهم الله، ينبغي للإنسان أن يعرف قدرهم، وأن يعرف للعالم حقه، ولا خير في إنسان لا يعرف لأهل العلم حقهم وقدرهم، قال الله عز وجل في كتابه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، يا هذا! قد قال الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس كل إنسان متأهل لفهم كلام الله، نقول: قال الله ثم نتبعه بمن هو أهل للفهم، حتى نبين مراد الله عز وجل كما بين الله، ولذلك قال تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] ، ما قال كلهم؛ فلذلك لو كانت النصوص يستوي الجاهل والعالم، ويستوي فيها الناس في فهمها، وليس هناك داعٍ للإمام فلان وعلان، فحينئذٍ ما الحاجة إلى وجود العلماء، ولماذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ حبر الأمة وترجمان القرآن: (في كتاب الله عز وجل ما لا يعذر أحد بجهله، وفي كتاب الله ما لا يعرفه إلا العرب بلسانهم، وفي كتاب الله ما لا يعلمه إلا العلماء). فقسَّم علم الكتاب إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما لا يعذر أحد بجهله: فالذي لا يعذر أحد بجهله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] هل يحتاج أحد في فهم هذه الآية؟ الآية واضحة في الدلالة على وحدانية الله، لا يعذر أحد بجهلها ألبتة، فدلالتها على الوحدانية يستوي في فهمها العالم والعامي، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، هذه يستوي في فهمها الجاهل والعالم، هذا ما لا يفضل فيه أحد على أحد.

القسم الثاني: ما لا يعرفه إلا العلماء، كمعرفة تقييد مطلق القرآن، وتخصيص عمومه، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وهذا هو الأداة التي يفسَّر بها كلام الله، ولذلك لما قام الرجل ينصح الناس في المسجد ناداه علي رضي الله عنه فقال: (أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: ويحك! هلكت وأهلكت) ؛ لأنه ربما يستدل بآية منسوخة، إذا كان لا يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه فربما يهلك بالاستدلال بنصٍ قد رفع حكمه وبقيت تلاوته، فلذلك بيّن أن في القرآن ما لا يعلمه إلا العلماء، قال تعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237] ، ما المراد بالذي بيده عقدة النكاح؛ هل هو الزوج، أو ولي المرأة؟

ما لا يعرفه إلا أهل اللسان، ولذلك كان العالم الفحل على سعة علمه وتضلعه في فهم الكتاب تمر عليه الآية مشكلة في اللغة لا يجد حلها إلا عند أهل اللسان، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما كنت أعلم قول الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1] حتى اختصم عندي رجلان من كندة؛ قال أحدهما في بئر: هي بئري أنا فطرتها، فعلمت أن معنى (فاطر): موجدها وخالقها. وكذلك في القرآن ألفاظ نزلت بلغة العرب تحتاج إلى معرفة دلالتها وتحتمل معانٍ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17] عسعس: يطلق على أول الليل ويطلق على آخر الليل، على إقبال الليل وإدبار النهار، وإقبال النهار وإدبار الليل، فما هو المراد؟

المقصود: أننا نرجع إلى العلماء لعلمنا بمنزلة العلماء، وهم ورثة الأنبياء، ولا طريق لنا بالفهم إلا طريقهم، فهم الذين أخذوا عن العلماء حتى اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خير في إنسانٍ أياً كان ينتقص من قيمة العلماء، فمن انتقص من قيمة العلماء فقال: لا حاجة إلى قول فلان أو علان، فهذا قد ضل السبيل، ولم يعرف لأهل العلم فضلهم، ولا يعرف الفضل إلا صاحب الفضل.

نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الأدب مع العلماء، وحفظ حقوق العلماء الأحياء منهم والأموات، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

هنا أنبه على أسلوب السؤال .. يا إخوان! من الأدب أن الإنسان إذا أراد أن يسأل أن يحفظ أسلوب السؤال، بدل أن يقول: ما الداعي إلى كذا وكذا، يقول: أشكل عليَّ قولك كذا وكذا، فيكون متأدباً في السؤال، وهذا أمر ينبغي أن يراعى ليس عندي فحسب، بل مع كل إنسان يسأله، كما قال العلماء: إنه ينبغي على من جلس في مجالس العلم أن يحفظ ويعلم آداب المجلس؛ لأنه لربما تحصل منه الفلتة فيخشى عليه، قال بعض العلماء: أخشى على من أساء الأدب في مجلس العلم أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قالوا: كيف ذاك؟ قالوا: لأن الله تعالى يقول: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] ، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) ، وحبوط العمل في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل النبوة، ومن الذي ورث النبوة وحفظها غير العلماء؟!

فلذلك ينبغي التأدب في السؤال، فالشخص بدلاً من أن يباشر بالنقد، أولاً ينبغي أن يكون أهلاً للنقد، فرق بين أسلوب النقد وأسلوب الاستشكال، إذا كان مثل هذا جاهل لا يفهم ولا يعرف حق العلماء يقول: أشكل عليَّ كذا وكذا، لا يقول: ما الداعي إلى كذا وكذا، يجمع بين السوءتين، حشفاً وسوء كيلة؛ سؤال عما لا خير فيه واحتقار للعلماء، وأسلوب لا ينبغي أن يلتزمه من جلس في مجالس العلماء.

إني أذكر رجالاً من أهل العلم والفضل على دراية وبصيرة بنقد العلماء، كنت أجلس معهم في مجالس بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فيجلس مع العالم، فينسى العالم دليلاً، أو ينسى حجة، أو يلتبس عليه دليل، فيقول: يا شيخ -يريد أن يذكر العالم بالدليل- يقول: يا شيخ هناك حديث أشكل عليَّ في المسألة؛ لأنه يحتمل أن الشيخ نسي الحديث، فلما يقول له هناك حديث، سرعان ما يتذكر الشيخ ويقول: نعم جزاك الله خيراً تذكرت، ولا يستطيع أن يباشره ويقول له حديث كذا وكذا.

إلى الله المشتكى، أين حالنا الآن؟ الآن بعض أهل العلم والفضل قد يقول الحديث قبل أن يقول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه ربما يسبقه طالب علم ويذكر الحديث، وهذه والله يا إخوان رزية، والله إن الأدب نعمة من الله، وجمال طالب العلم الأدب، وإذا رأيت طالب العلم قد التزم الأدب -سبحان الله العظيم!- رأيت الوقار والهيئة، فلا تدري من أي شيء تعجب منه، من حسن طلبه للعلم، أم من جماله في أدب العلم؟!

نسأل الله أن يجملنا وإياكم بذلك، فينبغي أن يفرق بين النقد وبين الأدب، النقد فتنة، وأضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً قام أمام الناس وانتقد في سؤاله، ما الذي يحصل؟ يحصل له الاحتقار والنقص من هيبته، ولكن إذا تأدب في سؤاله حصل له الإجلال والاحترام.

فالله الله في مجالس العلماء ومجالس العلم، ينبغي أن نفرق بين أسلوب النقد وأسلوب السؤال والاستشكال. والله تعالى أعلم.

السؤال: جزاك الله خيراً، والشيء بالشيء يذكر، فبمناسبة حديث فضيلتكم على هذا الموضوع، عُرِض هنا سؤال يقول صاحبه: فضيلة الشيخ محمد سلمه الله، ظهرت ظاهرة في بعض طلبة العلم وهم قلة والحمد لله، يقول: تجده يرفع من قدر نفسه ويضعها في طبقة العلماء وفي منزلتهم، فتجده يقول: أرى أنا كذا، وانقلوا عني كذا، وإذا كتب يكتب ويقول: قال مقيد حروفه كذا، ويقول نجد البعض من هذا الصنف -يشكك في العلماء- فهذا فيه كذا، وهذا ينتمي إلى كذا من غير حجة من كتاب ولا سنة، ثم نجدهم يتركون الجلوس إلى العلماء والتعلم منهم، ويجلسون إلى أحدهم ومن زمرتهم يأخذون منه العلم، فما هو توجيهكم ونصيحتكم -أثابكم الله- لهؤلاء؟ وما هي نصيحتكم لغيرهم من طلبة العلم؟

الجواب: أولاً: إذا كان المراد من هذا السؤال طائفة معينة أو أمة معينة، فأقول للسائل: اتق الله عز وجل، وينبغي أن لا تستغل مجالس العلماء لأي طرف من الأطراف، هذا أول شيء، لأن المراد الحق، والمراد النصيحة لله، الخالصة لوجه الله، هذا أول شيء، وكلنا ناقصون وعندنا أخطاء وكلنا عندنا تقصير، ولكن نسأل الله أن يكمل نقصنا ونقصكم.

ثانياً: سوء الأدب وعدم احترام العلماء، وعدم تقدير العلماء، هذا لا شك أعظم سبب فيه: عدم الإخلاص في طلب العلم، والله لو أخلص طالب العلم لبارك الله له في علمه، ولنفعه الله ونفع به.

ثالثاً: الاجتماع والقراءة والعلم ينبغي أن لا تكون إلا بين يدي أهل لذلك، والله لن تخطو خطوة إلى إنسان تعلم أنه جاهل تريد أن تكثر سواده إلا لقيت الله بوزره؛ لأنك أنت السبب، فقد غررته بنفسه.

فلذلك يا إخوان! أوصيكم بأن نتق الله في العلم، وأن لا نكثر سواد كل من هب ودب، ينبغي أن نفرق بين العلماء وبين المتعلمين الذين يريدون أن يتسلقوا إلى أمر ليسوا هم له بأهل، هذا أمر مهم جداً، ولذلك قال العلماء: لو أن شخصاً جلس مع جاهل فسأله وهو يعلم أنه غير أهل، سأله مجاملة، سأله لأجل عاطفة، بينه وبينه محبة، فأفتى بغير علم كان شريكه في الإثم والعياذ بالله، الدين ليس فيه مجاملة، الدين قيم، حجة واضحة ناصعة تؤخذ من أهلها.

رابعاً: قول القائل: الذي أراه، أو الذي يترجح في نظري، أو نحن نقول كذا وكذا، أو ينقل عني كذا وكذا، أقول: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، كلنا ناقصون، ووالله ثم والله لولا خوف الإثم ما جلست في هذا المجلس؛ لأن المقام أمام الناس أولاً يستلزم منك أن تكون أميناً، لا تغش الناس من نفسك، تدعي أنك بعالم وأنت ما أنت عالم، حرام عليك، هذه خيانة للمسلمين، وأذية لعباد الله المؤمنين، فكيف إذا كان معها انتقاص للعلماء، كقول البعض: فلان لا تجلس معه، وهنا أنبه على مسألة؛ نحن كنا قبل الصلاة، نتكلم على القذف، فيا إخوان! كنت أعجب إذا كان الشخص يقول للشخص: يا زانٍ والعياذ بالله أو يقول للمرأة: يا زانية، فإنه يُلعن في الدنيا والآخرة، وموعود بعذاب عظيم، كيف إذا طعن في عقيدته؟! تصوروا يا إخوان! كيف إذا قيل: فلان فيه نظر، عقيدته فيها كذا، وفلان ضال، وفلان صوفي، وفلان مبتدع، يا أخي! قل: فلان صوفي أو قل مبتدع لكن عن بينة، نحن لا نريد عدم الكلام، ما نريده التبين، أما الطعن في الناس وتفسير كلام الناس وتحميله ما لا يحتمل هذا وزر وبهتان، أنا لا أمنعك أن تقول: فلان صوفي أو مبتدع لكن بدليل، أما تأتي إلى كلامه وتفسر كلامه على حسب فهمك، وتحمل الكلام ما لا يحتمل، وتتبع عورة إنسان من المسلمين، فضلاً عن إنسان من علماء الدين، ويحك هلكت وأهلكت نفسك وأقمتها في مقام أنت في غنى عنه.

ثم أخي في الله! إذا كان الشخص انتقد داعية أو عالماً -لو كان هدفنا الحق- لماذا لا يأخذ كلام العالم ويذهب به إلى من هو أعلم منه، ويقول: أنا أشكل علي هذا الكلام، أو يذهب به إلى صاحب الكلام، ويقول له: أشكل علي هذا الكلام، ما مرادك به؟

شيخ الإسلام رحمة الله عليه قارع أهل البدع وأهل الأهواء، وسبحان الله العظيم! يأتي إلى كلامهم ويقول: قال منهم فلان كذا وكذا، فإن كان مراده -انظروا إلى الإنصاف، انظروا إلى الأمانة، انظروا إلى العلم، انظروا إلى التجرد لله، إنسان يريد النصيحة- فإن كان مراده كذا وكذا فهو حق، قال الله قال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان مراده كذا وكذا فهو باطل، قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا العلم، النقيصة والثلب لا تجوز إلا عند الحاجة، والتنفير من المحاضرات، والتنفير من الندوات، والتنفير من مجالس العلماء، هذا شأن أهل البدع، وشأن أهل الأهواء والضلالات.

يا أخي في الله! إذا جاءك إنسان وقال لك: لا تجلس مع فلان -وهو من أهل العلم- انظر ما الذي تستفيده من هذا الرجل وما الذي تأخذه، سبحان الله! شخص يأخذ بحجزك عن النار ويقودك إلى رحمة الحليم الغفار، ويأتيك إنسان حثالة يريد أن يجرك عن داعية إلى الله، أو مذكر بالله عز وجل وينفرك عن مجالس العلماء، لا حول ولا قوة إلا بالله! نسأل الله السلامة والعافية.

إذا كان لك مأخذ على عالم، قل: فلان قال كذا وكذا، وهذا هو مأخذي عليه، كن دقيقاً ورعاً، كن إنساناً يراقب الله عز وجل، هذا الذي أوصي به.

فوالله ثم والله ما من إنسان يتكلم بحق أو باطل إلا سيقف بين يدي الله بذلك الحق أو الباطل، سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] ، الشائعات ما تكفي، الدعايات التي تقع بين الناس ما تكفي، والله نعرف أناساً من أهل العلم والفضل والدعوة إلى الله من خيرة الأخيار اتهموا بأشياء نعلم يقيناً أنهم منها برآء، وأنهم أنصح للأمة ممن اتهم، وأنهم أصدق في عبودية الله عز وجل، ولكن هناك أناس أتباع كل زاعق وناعق.

فالله الله أن تلقى الله عز وجل بوزر ولي من أولياء الله، خاصة عالماً أو داعية إلى الله عز وجل، وأنا لا أقصد شخصاً بعينه، هذا كلام للعامة وللجميع؛ لأن هدفنا أن يتقي الله عز وجل بعضنا مع بعض.

كل الذي نريده أن تأتلف القلوب وتجتمع، كل الذي نريده أن يكون المسلم مع أخيه يشد من أزره، ويعينه على طاعة الله، ويكمل نقصه بالنصيحة الطيبة وبالموعظة الحسنة، والله أعرف طلاب علم طالما تكلموا في علماء، وطالما تكلموا في أهل الفضل، أذكر بعضهم جلست معه، كلمات يسيرة -وأعرف كثيراً منهم عندهم حسن نية ولا نزكيهم على الله- ما إن ذُكر بالله عز وجل حتى ذهب في اليوم الثاني يعتذر إليهم واحداً واحداً.

أذكر ذات مرة وفي عهد قريب شاباً جاء وتكلم كلمة قال: يقولون في العالم الفلاني كذا، قلت له: يا أخي! اتق الله اغتبت أولاً، ونقلت فرية، أنا أعرف هذا العالم أنه بريء من هذا الشيء، والله يا إخوان! دمعت عينه، ما استطاع من الخير الذي فيه أن يرد عليَّ، قال: ماذا أصنع؟ قلت: يا أخي! الآن تتصل عليه وتعتذر منه. نحن هذا الذي نريد، نريد شباباً دعاة ومشايخ، إذا جاءك طالب العلم يريد أن ينتقص أحداً من أهل العلم فذكره بالله، أذكر والدي رحمة الله عليه فقد كان لا يستطيع أحد أن ينتقص أحداً في مجلسه ولو كان من عامة الناس، والويل له لو انتقصه، فكيف بطلاب العلم؟!! ينبغي أن نكون على هذا السمت، وهذا فيه الخير كله.

يا إخوان! الدلالة على العورات وفتح باب الإشاعات والسيئات وتتبع العورات لا خير فيه، ولذلك أنا أوصيك بوصية: جرب يوماً من الأيام تتبع عثرات أحد من الناس، وانظر إلى صلاتك في ذلك اليوم، وانظر إلى عبادتك لربك، الحق واضح ليس فيه لبس.

أذكر رجلاً جاءني في خضم فتن فيها قال وقيل، قلت له: يا أخي! أسألك بالله قبل أن أجيبك، بالله عليك، كيف تقول بالأمس جلست في مجلس كذا وكان فيه كذا؟ قال: نعم، قلت: متى كان المجلس؟ قال: بعد الظهر، قلت: صليت العصر؟ قال: نعم، والمغرب والعشاء والفجر، قلت: بالله عليك، كيف كانت صلاتك؟ قال: والله ما خشعت فيها، من ألم ما سمعت، معنى ذلك ماذا؟ أن هذه فتن، والله هذا يقع؛ لأن المؤمن لا يرضى أن أحداً يتكلم في أخيه فضلاً عن عالم أو داعية لله عز وجل.

فالله الله يا إخوان! والله كثرت النصيحة، وكلنا سنلقى الله جميعاً؛ من رغب في الكلام ومن نهى عنه، وإني والله لكم من الناصحين، وأول من أنصح نفسي.. اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في إخوانكم، واتقوا الله في العلماء.

ولذلك كان سفيان الثوري يقول: (إياكم إذا سمعتم بالزلة والخطيئة أن تشيعوها، فإن إشاعتها ثلمة في الإسلام). فأنت عندما تشيع بين الناس وتقول: وقع زنا، أو وقع خمر، أو وقع كذا وكذا، فهذه ثلمة، ويقول معاذ : (إنكم تسمعون عن العالم الفلتة فلا تعجلوا عليه عله أن يراجع نفسه فيرجع عنها).

ولذلك الذي ضرنا الآن: أنه بمجرد ما يخطئ إنسان خطيئة واحدة تبلغ الآفاق، وإذا بلغت الآفاق وضعنا كل الحواجز لرجعة هذا الإنسان عن زلته.

فلذلك الله الله يا إخوان! إذا كنا نريد الحق، فسبيل الحق واضح، فما الذي يعنيني من الكلام في زيد وعمرو، الله عز وجل يقول: وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ [المطففين:33] ، إلا في حالة.

والخطأ، قل: الخطأ الفلاني لا نريده، أما زيد وعمرو وكثرة القيل والقال، أنا أنصح الجميع، ولا أريد شخصاً بعينه ولا جماعة بعينها ولا طائفة بعينها، الكلام للجميع؛ لأنه كلام الله وكلام رسوله، أنصح كل طالب علم أن يتقي الله، وليتق الله كل إنسان من عامة المسلمين فضلاً عن طلاب العلم، ونسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجيرنا وإياكم من ذلك.

أذكر قصة أختم بها هذه النصيحة: رجل أعرفه من أهل العلم والفضل يقول: جلست مع أحد العلماء، فذكر لي أن شخصاً في مجلسه نال من قاضٍ من القضاة واتهمه بالرشوة في القضاء، فلما انتهى قال له ذلك العالم الموفق: والله إني لأعلم الشيخ الذي تكلمت فيه، وأنه أبرأ مما تقول إن شاء الله، ولكن لا آمن والله عليك سوء الخاتمة، فيقسم لي بالله العظيم، يقول هذا الرجل: والله رأيته بعيني في سوء خاتمته -نسأل الله السلامة- كانت من أسوأ ما تكون.

فالله الله لينتبه الإنسان، فلا تحسب أن الأمور ذاهبة هكذا هدراً، فلذلك يا إخوان! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، كثر الكلام وكثر القيل والقال، وكثرت النصائح، ولكن أين العاملون؟ وأين الدعاة؟

ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يقبل الحق ويدعو إلى الحق ويرضى بالحق، فإن من فلاح المؤمن أن يرضى بالحق ولو كان عليه.

وأكرر على أنه ليس مرادي أن نمتنع من بيان الحق، لا، بيِّن الحق ولكن فرق بين أمرين: نقد الذات، ونقد القول، أنت هدفك الحق، فقل: هذا خطأ، أما أن نقول: فلان قال كذا، وينبني على كلامه كذا وكذا فلا؛ لأن أعراض المسلمين ليست بالهينة.