نحو ترشيد الصحوة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد:

فيعلم الله كم كنت أريد أن يستمر الشيخ حفظه الله ووفقه وزاده علماً وحلماً وسداداً ورشاداً، فما أحوجنا إلى أن يذكر بعضنا بعضاً بهذه الأمور التي يكمل بها نقص الإنسان، ويدل بها على صدق العبودية لله العظيم الرحمن، فلا خير في الأخيار إذا لم يتناصحوا، ولا خير في المؤمنين على الكمال إذا لم يتواصوا.

المؤمن يحتاج من أخيه إلى كلمة تدله، ونصيحة على الخير ترشده، وعلى طاعة الله ومحبة الله تثبته، وإذا أراد الله بالعبد خيراً رزقه القرين الصالح الذي يبصره بعيوبه، ويذكره بخطاياه وذنوبه، حتى يسلم له أعز شيء في الحياة وهو دينه، فلا سلامة للدين إلا بتوفيق الله ثم بالوصية من الإخوان الصادقين، ولذلك شهد الله جل وعلا أنه لا نجاة من الخسارة إلا بالنصيحة التي تدل على طاعة الله ومحبة الله، وتحذر من معصية الله وحدود الله، كما قال في السورة العظيمة التي قال عنها الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه: لو لم ينزل الله في القرآن إلا سورة العصر لكفت الخلق، وفيها قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

وإذا بُصر الإنسان في وصية خالصة صادقة، بُصر بعيوبه وذُكر بزلاته وذنوبه احتقر نفسه ودعاها إلى الكمالات وذكرها برفعة الدرجات، فسمت إلى محبة الله فاطر الأرض والسماوات، النصيحة غالية، النصيحة لا تصدر إلا من أخٍ صالح، وإذا نظرت في إخوانك فوجدت أخاً يتعاهدك بالنصيحة، فاعلم أنه يحب الخير لك.

ولذلك أثر عن عمر ويؤثر عن غيره أنه قال: [رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا]. فإذا أهديت العيوب، عرف الإنسان قدر نفسه، ودل على طاعة ربه ومع هذا كله أيها الأحبة! إذا كان هذا هو الداء؛ فإنه تثور في النفس أشجان وأحزان، إنا لمقصرون وعندنا عيوب وذنوب، فكيف المخرج من التقصير؟ وكيف السلامة من العيوب والذنوب؟

الوصية الأولى: دعاء الله الصادق بالسلامة من العيوب

والوصية الأولى: أن تسأل الله جل وعلا الذي يلطف بمن شاء من عباده، ويرحم من شاء من خلقه، أن يرحمك فيسلمك من عيوبك، ويغفر لك ما بدر من خطاياك وذنوبك، سل الله أن يلطف بك، فإنه لا يلطف بالعبد في هدايته وصلاحه إلا ربه، وهو الذي بيده القلوب يقلبها كيف شاء سبحانه وتعالى، وكم من عبدٍ كثير الزلات كثير الخطايا والهنات، ضرع إلى الله بدعوة صالحة فاستجيبت من بين الدعوات ونظر الله إلى قلبه أنه يريد وجهه، صادقاً في سؤاله، فقلب الله قلبه بين العشية والضحى عبداً صالحاً كاملاً، سلوا الله أن يعافيكم وأن يسلمنا ويسلمكم من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال.

الوصية الثانية: الاهتداء بهدي السلف الصالح

ثم الأمر الثاني: الأخذ بالأسباب: أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي تعينه على ترك مثل هذه المآخذ والمخالفات والأمور التي لا تليق به وهو منتسب إلى خير ما ينتسب إليه وهو الدين والاستقامة، ومن أعظم هذه الأسباب: الاهتداء بهدي السلف الصالح ؛ فإذا وفق الله جل وعلا العبد رزقه السير على منهج السلف الصالح ؛ فتشبه بالأخيار حتى صار منهم، واهتدى بهديهم حتى حُشر معهم، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا أخبر أن قصص الأنبياء تثبت القلوب على طاعة الله: وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] يثبته على ماذا؟ على الهدى، على المحبة والرضا، على الطاعة التي تُرضي الله جل وعلا.

فمن أعظم الأسباب بعد الدعاء: أن يحاول الإنسان قدر استطاعته أن يأخذ بالقدوة الصالحة من السلف الصالح الذين تمسكوا بهدي الكتاب والسنة، وقلّ أن يقرأ الإنسان سيرة من سير العلماء، أو يتدبر قدوة صالحة من الأخيار الصلحاء الفضلاء من سلف هذه الأمة إلا دمعت عيناه، وخشع قلبه، وأخذ في كمال نفسه وحملها على طاعة الله ربه، ولذلك قال الله تعالى لنبيه: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الأخيار الذين هدى الله فبهداهم اقتده، فالذي يريد أن يكون على أكمل المناهج، وأقوم السبل بعيداً عن الزلات والهنات؛ يهتدي بالأخيار من سلف هذه الأمة الصالحين من العلماء العاملين، الأئمة المهديين، الذين عضوا على كتاب الله رب العالمين، وسنة خير الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد أشار الصحابي الجليل أبو حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه إلى هذا العلاج الكريم حينما قال: [لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها].

فقراءة سيرة السلف الصالح تغسل عن القلوب كثيراً من الأدران، وتجعل الإنسان دائماً يتفقد نفسه، ويحاول أن يكمل نقصه، وأن يترك خلله، وأن يُصلح خطأه؛ وهذه نعمة يوفق الله إليها من شاء من عباده، وكان الوالد رحمة الله عليه يقول: يا بني لا أوصيك بشيء بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مثل قراءة تراجم العلماء والسلف الصالح. لها أثر عظيم في القلوب، ولها أثر عظيم في النفوس، تحبب الخير إلى القلوب، وتنفر المعاصي إلى الطباع، وتجعل الإنسان دائماً يبحث عن خصلة من الخصال، أو طاعة من الطاعات حتى يدرك ما أدركوا من الخير، أو يكون قريباً مما نالوه من الفضل، ونسأل الله بعظمته وجلاله أن يبلغنا ما بلغوه، وأن يكرمنا كما أكرمهم، وإن كنا لسنا أهلاً لذلك؛ فهو أهل الفضل وأهل الرحمة والعطاء والنول، سبحانه لا إله إلا هو.

الوصية الثالثة:ترك الغفلة

أما الوصية الثالثة التي تعين على ترك مثل هذه الأمور: ترك الغفلة؛ فإن الإنسان إذا أخطأ وهو غافل عن خطئه؛ قل أن يتبصر بعيبه إلى أن يلقى الله جل وعلا، إذا رأيت الإنسان يخطئ وهو غافل عن عيوبه، غافل عن ذنوبه؛ فاعلم أنه مستدرج من الله، نسأل الله السلامة والعافية.

فلا ينبغي للشاب أن يغتر بحاله وسمته، وما يكون منه من بعض الصالحات، فلذلك ينبغي ألا يغفل عن الأخطاء والعيوب؛ دائماً يحاسب نفسه كما قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال المؤمن يتهم نفسه يقول: ما أردت بهذا وجه الله] أي: إني لست مخلصاً، أو لست أريد به وجه الله خالصاً. هكذا المؤمن دائماً يتفقد نفسه بالاحتقار الذي يدعوه إلى الكمال، أما إذا كان الاحتقار كما سبق في كلام الشيخ حفظه الله يدعو إلى النقص، كون الإنسان يحتقر نفسه ويمتنع من الكمالات لا، لكن احتقاراً يدعو إلى الكمال فنعم هذا الاحتقار، كون الإنسان يحتقر نفسه، ويتهم نفسه دائماً؛ لكي يسمو إلى معالي الأمور فهذا فضل، قال بعض السلف : والله ما جلست مجلساً وأرى نفسي أصغر القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم، ولا دخلت مجلساً وأرى نفسي أني أعلاهم إلا خرجت وأنا أدناهم.

فالاحتقار للنفس نعمة كبيرة، قال مطرف بن عبد الله الشخير : [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً] فالذي ضرنا العجب، ننظر إلى من هو دوننا ولا ننظر إلى من هو فوقنا، فلا ينظر الإنسان إلى الشباب الذين ابتعدوا عن طاعة الله أصلحهم الله لكي يقول: أنا الشاب الصالح الذي أغشى حلق الذكر وأسمع الندوات والمحاضرات؛ ولكن يقول: أنا المذنب، أنا المقصر، أنا المسيء، أنا الخطاء، أنا الذي عندي الذنوب التي لا أعرف أحداً أكثر ذنباً مني، يتهم نفسه وهو في عداد الصالحين وإلا فقد يكون الكفار أكثر ذنوباً منا، ولذلك قال بعض السلف وهو واقف بـعرفة : لو نادى منادٍ من الله: غُفر لأهل هذا الموقف إلا واحداً لعددت نفسي ذلك الرجل. الإنسان إذا احتقر نفسه سما إلى الكمالات.

الوصية الرابعة: القرب من العلماء الصالحين

الوصية الرابعة التي تعين على البعد من هذه الآفات: القرب من العلماء الصالحين، فكلما وجدت الشاب الصالح اهتدى؛ ثم اقترب من العلماء فاعلم أن الله قبل هدايته، لكن يقترب الإنسان من العلماء بالمحبة والمودة والتوقير والإجلال وذكرهم بالجميل وتعطير المجالس بذكرهم الحسن وأخلاقهم وآدابهم؛ حتى ينتفع الناس ويكون قرب الإنسان منهم رحمة له ولغيره، لا يقترب مغتراً كما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن كثيراً من أهل الفسوق اغتروا بصحبة الصالحين؛ فهلكوا بتلك الصحبة.

فالقرب من العلماء والصالحين، ينبغي على الإنسان أن يحذر فيه وأن يكون هذا القرب بالمحبة والمودة الصادقة التي عله أن ينال بها ذلك الشرف الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه في حديث أنس في الصحيحين، حديث الأعرابي الذي جاء -أعرابي عامي ليس عنده كثير صلاةٍ ولا صيام- إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك القلب المنكسر والنفس المتعطشة المتلهفة؛ يشكو إليه ذلك الشجن في قلبه فقال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم ولما يعمل بعملهم، فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب).

فالذي يحب العلماء ويبادل العلماء المحبة والمودة والتقدير والتوقير والإجلال، يغفر زلاتهم وينشر خيراتهم ولا يتتبع عثراتهم، ولا يشهر في المجالس بأخطائهم، يبادلهم المحبة الصادقة؛ فإن الله ينفع بذلك، ولذلك أقرب الناس من الخير بعد العلماء هم طلاب العلم، ومثل العلماء لذلك بالعين؛ فإن أخصب مكانٍ في أرض الله جل وعلا منفعة بتلك العين ما كان قريباً منها، ولذلك قلَّ أن تجد عيناً للماء إلا وجانباها قد اعشوشب من ذلك الماء، فتجد أكمل خضرة وأجمل خضرة على الأرض من ماء تلك العين ما كان قريباً من العين، وكذلك ينبغي لطالب العلم أن يقترب ويكون تحت كرسي العالم، ويتقرب إلى الله والله يشهد أنه ما اقترب إلا لوجهه؛ وما اقترب إلا لرحمته؛ فلعله إذا اقترب أن يجلس ذلك المجلس الذي تبدل فيه سيئاته حسنات، وما من أحد إلا وعنده زلات وهلات، فإذا أصبح حريصاً على مجالس العلماء يغفر له في كل مجلس يجلسه، قالوا: (يا ربنا إن فيهم فلاناً عبد خطاء كثير الذنوب مر وجلس معهم، قال: وله قد غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فإذا كان هذا مر وجلس؛ فكيف بمن لزم ذلك المكان تحت قدم العالم يتقرب إلى الله جل وعلا دون غلوٍ ولا تنطع؛ هذه نعمة كبيرة وفضل عظيم؛ ولذلك تجد أقرب الناس إلى الخير طلاب العلم الأخيار.

وينبغي أن يقترب الإنسان من العلماء بقلب صافٍ من ناحية الغل والبعد عن العجب، يقترب وهو يتذلل لله تعالى بهذا القرب علَّ الله أن يرفع درجته، وأن يعظم أجره وأن يضاعف حسنته، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

الوصية الخامسة: عدم السأم والملل من الطاعة

كذلك أيضاً من الأمور التي تعين على ترك هذه الأخطاء وهذه الزلات التي لا منجى ولا ملجأ فيها من الله إلا إلى الله: كون الإنسان كثير الخير بمعنى: ألا تسأم من طاعة، إن كثيراً من الشباب قد تجده في بداية الأمر حريصاً على الصلوات، حريصاً على الطاعات، حريصاً على الخيرات، ثم يخف قليلاً قليلاً حتى -والعياذ بالله- ينتكس، والسبب في هذا السآمة من الطاعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) فالإنسان إذا ملَّ الطاعة -نسأل الله السلامة والعافية- حُرم الخير، بعض الإخوان أصلحهم الله تجده في بداية الهداية لو قيل له: هناك محاضرة فلا يمكن أن تفوته، أي مجلس خير لا يمكن أن يفوته، فما أن يمضي الشهر والشهران عليه؛ فيعتاد العلماء ويعتاد مجالسهم، لو قيل له يوماً من الأيام: تعال إلى محاضرة تتحدث عن رمضان، يقول: يا أخي هذا موضوع واضح، لا ينظر إلى أن خطواته في سبيل الله، ولا ينظر أنه يحضر مجلساً من مجالس الخير والرحمات، لولا الله ثم هذه المجالس لما نال كثير من الشباب هذه الروحانية واللذة التي يجدها مع ما فيها من علم وميراث نبوة وتوجيه وإرشاد؛ لا تسأم ولو قيل لك محاضرة عن الصبر، ولو قيل لك محاضرة من أوضح الواضحات فاذهب إليها واشتر رحمة الله بخطوة تمشيها، وبمزاحمة الناس على الخير أن يُقسم ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ولا تشهده!! أتقسم الدرجات والحسنات ولا تكون في ذلك المكان الطيب المبارك؟! وما يدريك لعل هذا الشيخ غير المشهور الذي يحضر له الصف والصفان مقبول عند الله جل وعلا، ما يدريك فليست العبرة بالكثرة، ولا بالمشهورين، ولا بالسمعة، ولكن العبرة بالقلوب (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

كثير من الشباب الآن بدأ يألف الخير لقلة حضور المحاضرات، لقلة غشيان حلق الذكر، لقلة غشيان مجالس العلماء، أي شاب تجده يجد في نفسه الضيق بعد السعة، فاسأله قل له: أناشدك الله أما كنت تحضر المحاضرات وتقاعست عنها؟ قال لك: نعم، أما كنت تحضر حِلق العلم وتقاعست عنها؟ قال لك: نعم، إذن: لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] إن الله يحب من العبد الجد والاجتهاد في طاعته: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] فالله ندبنا إلى استباق الخيرات، والسلف الصالح رحمة الله عليهم كانوا يجلسون في مجالس من هو دونهم في العلم والفضل، حتى أذكر من علمائنا ومشايخنا سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز -رحمه الله- كان عندنا في المدينة بمرأى من عيني وأشهد له بذلك يصلي في الصفوف الأول في الحرم النبوي، ثم يرجع خارجاً من المسجد يكون مثلاً ما عنده درس، قلَّ أن توجد حلقة عالم إلا جلس فيها ما شاء الله، وقد يكون ذلك العالم من طلابه، هل قال: أنا الشيخ عبد العزيز أو اغتر؟

الإنسان الذي يغتر بنفسه يهلك، نقصان الطاعة الموجود في الشباب من أسبابه -والعلم عند الله- الاغترار، الإنسان دائماً يسعى إلى الكمال، يحرص على طاعة الله، لا تسمع بحلقة عالم إلا حضرتها، ولا حلقة ذكر إلا جلستها، ولا مجلس علم إلا شهدته، هل ترضى أن تفتح حلقة علم في مسجد الحي، أو في مدينتك وتُرفع أسماء من حضرها في دواوين الصالحات إلى الله، تصعد الأعمال الصالحة وليس فيها اسمك؟ أترضى لنفسك بهذا؟ ولذلك الذي يحتقر العلم ويحتقر العلماء، سيصيبه السفال، والذي يعظمهم يعظم من الله ويجل ويكرم: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] هذه آفات حصلت بأسباب، تغير القلوب، حصول نقص من الإيمان عند كثير من الشباب من أسباب هذه الأمور.

الوصية السادسة: التفاعل مع حلق الذكر

كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها: التفاعل مع حلق الذكر، بعض الشباب يسمع الشريط المرة والمرتين ثم يمله، والعبد الصالح الموفق لا يسأم من خير، ولا يمل من طاعةٍ وبر، ولو كثر هذا الحديث، ولو كان من أوضح الواضحات!

وأذكر موقفاً طريفاً: ذات مرة الشيخ ناصر الألباني حفظه الله، حصلت حادثة في المدينة -حريق- بسوق بجوار المسجد وقام رجل من العوام بجوار باب السلام -لا زلت أذكر ذلك بعد صلاة الظهر- فقام يتكلم ويعظ الناس، عامي ولكنه رجل محافظ على الصف الأول وأراه صاحب سنة؛ لما ترى -سبحان الله- فيه من الوقار، وتلك اللحية البيضاء الجميلة الوقورة، والمحافظة على الصف الأول، والمحافظة على حلق العلم، شخص صالح وفيه خير، فقام هذا الرجل وأظنه كان رجلاً باكستانياً عامياً من العوام؛ فتكلم كلاماً عامياً وكنا جالسين، لكن مع أنه عامي وعادي ينفذ إلى القلوب والله أعلم بقلب الرجل، وقد تُوفي رحمة الله عليه، والله -أيها الأحبة- يكاد يكون المجلس كله بكى، تكلم كلاماً لامس شغاف القلوب، فما شعرنا فجأة إلا به يضع يديه على رأسه وقال: الشيخ ناصر -الشيخ ناصر كان موجود في الحلقة- فاستعظم أن الشيخ موجود، فقال له الشيخ وكان بعيداً عني قليلاً تكاد تكون فيه عبرة، يقول له: استمر، بالله استمر، ما قال: أنا الشيخ ناصر ، ولا افتخر، ولا قام من الحلقة، هكذا صنيع أهل الفضل؛ لأن الله عزوجل إذا رفعك بالهداية فتذلل لهذه الهداية لله جل وعلا، لا تستنكف عن مجلس خير، لا يكن جلوسك في مجالس الخير للمشهورين، ولكن اجلس لكلام الله رب العالمين، حتى ولو حلقة قرآن، وثق أنك إذا حضرت مجالس الذكر، أنك لا تجد -بإذن الله- تغيراً إلا إلى كمال، حتى ولو كان عند الإنسان نقص وعيوب لعل الله أن يسترها ويغفرها بمثل هذه المجالس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) هذه أمور مهمة جداً منها الحرص على المحاضرات.

الوصية السابعة: أن يكون للإنسان هدف سام في الحياة

كذلك أيضاً من الأمور التي تعين على التمسك بالدين والبقاء على حلاوة الالتزام والاستقامة وطاعة الله جل وعلا: أن يكون نظر الإنسان إلى ما هو أسمى وأسنى، بعض الشباب يقول: سأنتكس والعياذ بالله، ويأتيه هاجس في النفس قلّ أن يلتزم أحد إلا والشيطان يقول له: ستنتكس، فأنت اجعل الجنة والنار بين عينيك، وعد نفسك بإذن الله أنك يوماً من الأيام ستبلغ مرضاة الله العليا؛ لأن الله لما أخرج العبد من الظلمات إلى النور وهو لم يرفع كفاً له يوماً أن يهديه؛ فإن الله جلا وعلا أكرم سبحانه، من أن يضيع عبده وقد سأله الثبات والهداية.

هل أحد في الجاهلية رفع كفه وقال: اللهم اهدني؟

أعرف كثيراً ممن كانوا في الجاهلية، كثير منهم لم يسأل الله يوماً من الأيام أن يهديه، والله الذي هداه سبحانه، فإذا كان أعطاه الهداية بدون سؤال؛ فيكف إذا سأل الله وهو على استقامة وصلاح والتزام أن يثبت قلبه إلى لقائه! فمن الأمور المهمة أن الإنسان يسعى ويحرص قدر الاستطاعة على أن يجعل له هدفاً سامياً، وهذا الهدف الأسمى والأسنى، أن تحاول أن تتمثل هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تهيئ نفسك لعلم أو عمل تبلغ به معالي الأمور، مثلاً: اجعل في نفسك أن الله يجعلك يوماً من الأيام من أعلام المسلمين، وما ذلك على الله بعزيز؛ فإن الذي علم آدم وداود وفهم سليمان قادر سبحانه وتعالى على أن يعلمك أو يفهمك، وقد قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54] .. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ [يوسف:56] فإذا تذللت لله عز وجل وجعلت نفسك أنك تسمو إلى هذه الكمالات فبإذن الله سيثبت الله قلبك ويشرح صدرك.

الوصية الثامنة والأخيرة: تقوى الله

وختاماً أيها الأحبة! أحب أن أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلا وعلا التي هي مظنة الصلاح والفلاح والربح والنجاح؛ فإن الله تعالى جعل بها فرجي الدنيا والآخرة، فجعل سعادة الدين في التقوى، وأخبر أن المتقين على سدادٍ وصلاح ولو لم يكن لهم إلا محبة الله ومعيته لكفى، وأخبر سبحانه وتعالى عن صلاح دنياهم؛ أنه يجعل لهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، فإذا ضاقت النفوس وخشي الإنسان من الانتكاسة أو تغير الأحوال؛ فليتق الله فلعل ذنباً بينه وبين الله غير حاله الذي هو عليه، وذلك تقوى الله هي أزمة الأمور، ومن أعظم الأسباب التي تنشرح منها الصدور: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء.

يتفقد الإنسان نفسه فلعل ذنباً في عين أو في سمع أو في قدم أو في يد أو في فرج أو مظلمة لوالدة أو والد أو رحم؛ فإن الله عزوجل ذكر أن الذنوب من أعظم الأسباب التي تحول بين الإنسان والخير؛ فقال تعالى عن الذين قطعوا أرحامهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23] قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا قطع رحمه أصابه الصمم وعمي البصيرة، والمراد بالصمم: أنه لا تنفع فيه موعظة، ولو عرضت المواعظ التي تفتت الجبال عليه ما أثر فيه، ولو أثرت فيه تأثر بها لحظة ثم تزول نسأل الله السلامة والعافية: وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23] فلا يرى خيراً ولا يوفق لطاعة، نسأل الله السلامة والعافية، فالذنوب من أعظم الأسباب التي تحرم الإنسان من هذا الخير، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يثبت قلوبنا وقلوبكم على ما يرضيه عنا.

وختاماً والله إنها لمناسبة طيبة، أسأل الله أن يجزي الأحبة كل خير، وكان مما يبهج نفسي ويدخل السرور عليه -والله شهيد على ذلك- وجود الشيخ، ويعلم الله كم تمنيت لقائه، أسأل الله أن يجمعنا وإياكم وإياه في دار كرامته، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين في جلاله، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وآله الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المشكلات الزوجية وعلاجها 3461 استماع
رسالة إلى الدعاة 3435 استماع
وصية نبوية 3327 استماع
أهم الحقوق 3305 استماع
توجيه الدعاة إلى الله تعالى 3215 استماع
كيف نواجه الفتن؟ 3166 استماع
حقيقة الالتزام 3144 استماع
وصايا للصائمين والقائمين 3086 استماع
الوصايا الذهبية 3040 استماع
مناقشة لرسالة الدكتوراه (2) 3008 استماع