وصية للوالدين


الحلقة مفرغة

الحمد لله الحليم الغفور يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تنفع قائلها يوم البعث والنشور، يوم يُبَعْثَر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:11] وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث بالهدى والنور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا في الحق نِعْم الشموس ونعم البدور، وعلى جميع من سار على نهجهم إلى يوم الهول والبعث والنشور.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إخواني في الله: هذه وصيةٌ إلى والدَين؛ إلى أبوَين حليمَين كريمَين.

إلى أبٍ يخاف الله ويتقيه، ويعلم أنه مسئول بين يديه وملاقيه.

وإلى أمٍ تخاف ربها، وترعى صغيرها، وتكرم بعلها.

إلى أم صالحة مصلحة، هادية مهدية، ما أمست ولا أصبحت إلا هدت ودلت وأرشدت!

وصيةٌ إلى الوالدَين.

إلى القلبَين الغافلَين النائمَين السادرَين.

إلى من أضاع حقوق الأبناء والبنات، وترك لهم الحبل على الغارب في الملهيات والمغريات.

إلى من ترك القلوب البريئة ترتع في المعاصي والشهوات، فذاقت جحيم المعاصي والمنكرات، ورتعت في الحدود والمحرمات، وبُليت بجحيم المسكرات والمخدرات.

إلى من أضاع حقوقها، ولم يرحم صغيرها، ولم يكرم كبيرها.

إلى من أبكى الصغير، وأهان الكبير.

إلى من حَمَّل الأبناء والبنات العناء، وخلَّفهم وراء ظهره في تضرع واستكانة وبكاء.

إلى من لا يخاف الله ولا يتقيه، ولا يعلم أنه ملاقيه.

إلى تلك القلوب القاسية.

إلى تلك النفوس الظالمة الناسية.

إلى من أضاع حقوق الأبناء والبنات، فتركهم يرتعون في الملهيات والمغريات، وحَمَل بين يدي الله المسئوليات والتبِعات، يوم ينصب للآخرة موازينها، وينشر لها دواوينها، يوم يجادلُ الأمَّ رضيعُها، يوم يجادل الأمَّ جنينُها!

وصيةٌ للآباء والأمهات عن حقوق الأبناء والبنات، وهل قامت بيوت المسلمين إلا على رعاية الحقوق والذمة والدين؟! وهل قامت بيوت المسلمين إلا على التنشئة الصالحة التي ترضي الله رب العالمين؟!

وصيةٌ بحقوق الأبناء والبنات، قبل أن يَدْهَمَ الممات، وقبل أن يصير العبد إلى الرفات، وقبل أن يحمل بين يدي الله المسئوليات والتبِعات!

ألا وإن من أجلِّ الوصايا، وأعظم الحقوق التي تُدفع بها الهموم والغموم والرزايا: أن تعلم أن الله أنْعَمَ وتَفَضَّلَ عليك بالولد وتَكَرَّم، فكان من أحق الحقوق عليك أن تشكره ولا تكفره، وألاَّ تنساه وأن تذكره، وأن تَحْمَدَ نعمة الله ومنته إذ متع عينيك، وجمَّل الولد في ناظرَيك يوم صاحت صيحتُه، يوم رأيتَه بشراً سوياً يدب على وجه الأرض مرضياً.

أيها الأحبة في الله: إن من آكد الحقوق والواجبات وأعظم الأمانات والمسئوليات التي يحملها الآباء، وتحملها الأمهات عن الأبناء والبنات: تنشئتهم على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: لا خير في الأبناء ولا في البنات، ولا خير في الأولاد ولا في الأحفاد إلا إذا أقمتَهم على محبة الله رب العباد، فلن تجني منهم مالاً ولا حالاً، لن تجني منهم إلا صلاحاً يرضي الله عنهم، أقِمْهم على محبة الله ومرضاتهِ، عوِّدهم على العبودية والطاعة، ومرهم بالصلاة والزكاة، ونشِّئهم على خوف الله وتقواه؛ فإن ذلك من أعظم ما تثقَّل به الموازين، وتبيَّض به الصحائف والدواوين.

ألا وإن للأولاد على الآباء والأمهات حقوقاً:

حسن الاختيار لبعضهما

أول هذه الحقوق: أن يُحْسِن الأبُ وتُحْسِن الأمُّ الاختيار :-

إن للولد عليكما -أيها الوالدان- حقاً عظيماً:

أن تختار -أيها الأب- أمَّه ذات الدين الكريمة الأمينة التي تخاف الله وتتقيه، وتعلم علم اليقين أن العبد ملاقيه.

أن تختار له أمَّاً كريمة، لا خَبَّةً ولا لئيمة؛ تختارها لا لجمالها، ولا لمالها، ولا لحسبها، ولا لنسبها؛ ولكن لطاعةِ اللهِ ربِّها.

أن تختار للولد تلك اليد الأمينة التي إن غِبْتَ عنها حفظتك، وإن نظرتَ إليها سرَّتك، وإن أمرتها أطاعتك.

أن تختار الصالحة المصلحة، الهادية المهدية، التي تسير على السيرة المرضية.

وأن تختاري -أيتها الأمُّ- لابنكِ ذلك الأبَ الكريم، فاختاريه دَيِّناً، لا صعباً ولا ليناً، واختاريه عبداً مطيعاً مستجيباً لله سميعاً، واختاريه على حب الله وغشيان مراضيه.

فإذا اختارت الأم بعلها، واختار الزوج زوجته، فإن الله سائلهما.

فأول حقوق الولد عليك -أيها الأب-: أن تحسن الاختيار لأمه، فكم من أم نشَّأت وربَّت وأصلحت لَمَّا أحسن البَعْل اختيارها! وكم من أم أفسدت وأشقت وأضلت حينما أساء الزوج اختيارها!

فالله.. الله.. في اختيار الأزواج والزوجات.

إن اختيار الآباء والأمهات مسئولية عظيمة على الأزواج والزوجات؛ فليتق العبد بارئه، وليعلم أنه ملاقيه وسائله عن اختياره لزوجه وولده.

الدعاء له بالصلاح

الوصية الثانية: إذا أنعم الله عليكَ بالولد، وصاح صيحته فاحمَد الله جل جلاله، واشكره على نعمه وآلائه:-

إذ متع الله ناظريك؛ وأخْرَجَ لك بشراً سوياً، فاضرع إلى الله بصالح الدعوات، وصادق المناجاة والابتهالات، أن يجعله عبداً مطيعاً، وقل: ربِّ أسألك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].

فلقد ابتهل المتقون، ونادى العباد الصالحون إلهَ الكون أن يرزقهم الذرية الطيبة، فذكر الله عن نبيٍّ من أنبيائه، وحبيبٍ من أحبابه وأصفيائه أنـه سألـه الولـد الصـالح: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].

فسَلِ اللهَ خيرَ الولد، فكم من ولدٍ أنعم الله به الوالدين! وكم من ولدٍ أشقى الله به الوالدين!

فاسأل الله خيرَه، واستعذ به من شره، واسأله أن يكون نعم الخليفة لك على طاعة الله ومحبته، كما قال الله عن حبيبه: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً [مريم:6].

تنشئتهم تنشئة صحيحة والقيام على حقوقهم وواجباتهم

أحبتي في الله: الوصية الثالثة: تنشئة الأبناء، والقيام على حقوقهم وواجباتهم على الوجه الذي يرضي الله.

إن للأولاد على الآباء والأمهات حقوقاً، فالله سائل الآباء والأمهات عن حقوق الأبناء والبنات.

فعلى الأم حق عظيم: أن تربي الابن بعد أن أنعم الله عليها بوجوده، وأن تطعمه، وتسقيه، وتتفقَّده في حوائجه حتى يبلغ السن التي يعي فيها أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أيتها الأم المؤمنة: إن الله يسألكِ عن هذا الابن عن طعامه وشرابه، وسقائه ودوائه وكسائه، حتى إن الأم لو فرَّطت في طعام صبيها وتأخرت، فالله سائلها يوم القيامة: لِمَ ضيعت؟

وأن تعلم الأم أن هذا الجنين وأن هذا الرضيع سيكون لها خصماً بين يدي الله عز وجل حتى عن طعامه وشرابه، وحتى عن الإناء لو فرطت وتساهلت فيه فتسبَّب في سقمه ومرضه، أو تسبب في وفاته وموته، فحملت بين يدي الله إثماً.

فينبغي على المؤمنة أن تعلم أن الله حمَّلها أمانة عظيمة، فكما أنها مطالبة بالتنشئة على الدِّين، كذلك هي مطالبة بأداء حقوق الدنيا على الوجه الذي يرضي الله، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك) فكان هذا من كبائر الذنوب، وقد عرض الله مشاهدَ الآخرة، فأخبر عن الشمس إذا كورت، وعن الموءودة أنها تُسأل لماذا قُتِلَت؟! وبأي ذنب وُئِدَت؟!

فينبغي على الأم الصالحة أن تعلم أن الله يسألها عن طعام صبيها وشرابه، إنَّ تساهُل الأمهات عن الصراخ والصيحات من تلك النفوس البريئات، يوم جاعت وظمئت وهنَّ مشتغلات بفضول الحديث والترهات، كل ذلك مسئولة عنه بين يدي الله فاطر الأرض والسماوات.

وأن تحفظ للصبي طعامه، وسقاءه وشرابه، وكساءه، ودواءه.

وأن تترسم في ذلك حب الله ومرضاته، فترفع الكف لسقائه، وترفع الكف لطعامه، وتحتسب الأجر عند الله، قال صلى الله عليه وسلم يبين لنا عظيم الأجور عند الله لنا: (حتى اللقمة يضعها الرجل في فيّ امرأته يكون له بها أجر).

فاتقي الله في هذا الطفل الضعيف، فإنها ذرية ضعيفة، ولقد وصفها الله جل وعلا بالضعف حتى تعطف عليها قلوب المؤمنين والمؤمنات.

بذل الحنان والمودة لهم

ألا وإن من حقوقهم في التربية: بذل الحنان، والمودة، والإحسان :-

فـإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] أحسني -أيتها الأم- إلى ذلك الصبي، وأنعمي عينَه بكلمة طيبة، وحنانٍ وبِر، وأدخلي السرور عليه، فمن سرَّه سرَّه الله يوم المساءة، فأنعمي عينه بالإحسان لا بالإساءة.

تعليمهم الصلاة

ألا وإن من حقوق الأبناء والبنات إذا بلغوا وَعْيَ الخطاب عن الله جل وعلا أن يؤمروا بالصلاة :-

قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) إذا بلغ الصبي سبع سنين، فأمُرْه -أيها الأب- بالصلاة، وطاعة الله رب العالمين؛ فذلك من حقوق الله في البنات والبنين.

مُرْهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم بالاستجابة لله جل في علاه، وخذهم إلى المساجد، وتَرْجِم ذلك الأمر بالعمل، فكن أسبقهم إلى تلك الطاعة بكل خوفٍ من الله ووجل.

فادعُ الأبناء والبنات إلى الصلاة وكن لهم القدوة الصالحة في ذلك، فحينما تأمرهم بطاعة الله أتْبِعِ القولَ العمل؛ فإن الله يمقت مَن خالف قولُه عملَه.

فإياك ثم إياك وإضاعة الصلاة، وإضاعة الحقوق والزكاة! فإن ذلك من أعظم المسئولية بين يدي الله، فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن أول ما يُنْظَر من أمر العبد: الصلاة، فإن صلحت نُظِر في سائر عمله، وإن فسدت وضيَّعها فهو لِمَا سواها أضيع).

فطوبى لمن رَبَّى على هذا الحق العظيم، ونشَّأ الأبناء والبنات على المحافظة على الصلاة لله رب العالمين.

مُرْهم بالصلاة في أول أوقاتها بشرائطها،وبيِّن لهم أركانها، وبيِّن لهم أحكامها، فوالله ما من صبي ولا صبية علمته شيئاً من كتاب الله أو الطهارة للطاعة والصلاة إلا أُجِرْتَ على ذلك، ولو علَّمته الوضوء فوالله ما أصاب ذلك العضو ماءٌ من الوضوء إلا أُجِرْتَ عليه الدهر كله، ولا علَّمته كتاب الله ولا الفاتحة يقرؤها في الصلاة فلَفَظَها لسانه إلا أُجِرْتَ مثل أجره من الله.

فأنْعَمْ بذلك عيناً حينما يَعْظُمُ أجرك بأمرهم بطاعة الله ومحبته.

أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتنشئتهم على ذلك

ألا وإن من الحقوق والواجبات التي تجب على الآباء والأمهات تجاه الأبناء والبنات: تنشئتهم على رعاية حدود الله، والبعد عن الفواحش والمنكرات :-

إن قلوب الأبناء والبنات قلوب بريئة، ينبغي أن تُغَذَّى بخوف الله وخشيته، حتى يكون العبد أعف ما يكون عن حدود الله ومحارمه.

عوِّدهم -أيها الأب- على العفة والحياء، والخوف من الله فاطر الأرض والسماء.

عوِّدهم على البعد عن الفواحش والمنكرات، وعلى العفة عن المعاصي والسيئات، فإن ذلك من أعظم وأجلِّ القُرُبات يوم تخلِّف وراء ظهرك ابْناً يخاف حدود الله ومحارمه.

واعلم أنك لا تفتح على الابن والبنت باب شهوة أو باب فتنة إلا حُمِّلْتَ وزرها بين يدي الله، واللهِ ما من ساعة ولا لحظة تَمَتَّع فيها الأبناء والبنات بملهيات أو مغريات إلا حُمِّلْتَ بين يدي الله ذنوبَها، وعُرضْتَ بين يدي الله بأوزارها.

فاتقِ الله عز وجل في تلك القلوب البريئة، خاصةً قلوب الصغار التي هي أوعى ما تكون للخير والشر، اتقِ الله في تلك القلوب البريئة أن تفتح عليها أبواب الملهيات والمغريات، فتجتالهم عن طاعة الله ومرضاته، فتكون بذلك قد فتحت لهم سبيل الحرب والعدوان على حدود الله ومعاصيه، اتقِ الله في كلِّ ما تجلبه، وكلِّ ما تُمَكِّن منه الأبناء والبنات، فإن الله سائلك ومحاسبك عن كل ما تسبَّبْتَه فيما يجلب عليهم من السوء والشر في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

تربيتهم على أداء الحقوق والواجبات

ألا وإن من حقوق الأبناء والبنات: تعويدهم وتربيتهم وتنشئتهم على أداء الحقوق والواجبات :-

عوِّدهم -أيها الأب- على صلة الأرحام، عوِّدهم على صلة الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وخذهم إلى ذلك، فإنه من أجلِّ الطاعات والقُرُبات، فما ربيتَ صبياً على صلة القرابة إلا كَتَب الله لك أجره، فلا رَفَع قدماً يَصِلها، ولا تكلم بكلمة يبرها إلا أُجِرْتَ عليها.

عوِّدهم على خصال الخير، وطاعة الله، والبر: مِن إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وغير ذلك من موجبات دار السلام.

عوِّدهم على الخصال الكريمة حينما تنشئهم على توقير الصغير وإجلال الكبير، فليس منا من لم يوقر كبيرنا، ولم يرحم صغيرنا، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا -أي: ليس على هدينا ولا على شريعتنا الكاملة- مَن لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا).

عوِّدهم على حب المساكين، والإحسان إلى الأيتام والأرامل والمحتاجين، فوالله ما مَدَّ كفاً يحسن إليهم بها إلا أُجِرْت عليها، وكان لك مثل أجرها.

عوِّدهم على الخيرات، وحسن الظن بالمسلمين والمسلمات، فإن ذلك من أجلِّ القربات والطاعات، فلا يَسْمع الصبي منك كلمة تغتاب بها مسلماً، أو تنتهك بها عرض مسلم؛ فإن الله يسألك عن تلك القدوة السيئة إذ تَبِعَك في ذلك مما لا يرضي الله جل جلاله.

ردعهم عن حدود الله

ألا وإن من أجلِّ الحقوق والواجبات التي تجب على الآباء والأمهات: ردعهم عن حدود الله والفواحش والمنكرات :-

يوم أن يزل الابن، وتزل البنت في كلامها أو مشيها أو سلوكها، فإن الله سائلك -أيها الأب- عن حقها، فأقم حق الله عليها.

إن بيوت المسلمين لا تقوم على الاستهتار والاستخفاف بحدود الله الواحد القهار، فهي تحتاج أباً يحفظ حدود الله، ويردع من يجاوزها إلى محارم الله.

فخذهم -أيها الأب- بما أمر الله حينما تردعهم عن حدود الله ومحارمه، وإياك والعواطف التي تمنعك من أن تقول كلمة الحق لهم، إياك -والعواطف- أن تحول بينك وبين أمرهم بما أمر الله، ونهيهم عما نهى الله.

العفو عن التقصير وذلك في حدود

ألا وإن من الحقوق والواجبات على الآباء والأمهات، ومن الوصايا للوالدين: أنه إذا قصر الأبناء والبنات أن يعفوا ويصفحوا؛ فإن الله جل جلاله قد وصَّى من فوق سبع سماواتٍ بالعفو والصفح عن الأبناء والبنات.

إن لهم الزلة والهفوة والخطيئة؛ فطوبى لمن قابل الإساءة بالإحسان، وطوبى لمن قابل السيئة بالعفو والغفران؛ فإن الله وعد على ذلك بالأجر العظيم، والثواب الكريم، ما لم يكن عفوك حاملاً لهم على الجرأة في حدود الله ومحارمه.

كن ليناً بدون ضعف، وشديداً بدون عنف، ربِّهم على طاعة الله ومحبته، فإن أساءوا وظلموا واحتَمَلَتِ الإساءةُ العفوَ فاشْتَرِ رحمة الله بالعفو عنهم، فهم أحق الناس بعفوك، وهم أحق الناس بحِلمك ورحمتك، يوم ينظر إليك الصبي وتنظر إليك الصبية بعطف الحنان، ينتظران منك الصفح والغفران؛ فبادرهما بذلك؛ فإنه مما يثقُل به الميزان؛ فإن الله يرحم من يرحم عباده.

وإياك والسطوات، والشدة على الأبناء والبنات، فلأن دعتك قدرتك على الإساءة إليهم، فإن الله قادر عليك يوم تظلمهم.

اعلم أن عافيتك من الله، وأن حولك وقوتك بين يدي الله، فالله.. الله.. في زلات لسانك، والله.. الله.. في زلات جوارحك وأركانك يوم تُرْسِل لليد عنانَها، فتضرب الصبي والصبية دون خوف من الله أو مراعاة للحقوق الشرعية؛ فإن الله يسألك عن ضربهم.

ولئن كفَأَتِ الأمُّ صبيَّها فرَبَّتَتْ على ظهره، فإن الله يسألها يوم القيامة عن تربيتها؛ فاتقِ الله في الأبناء والبنات، إن ضعفهم لا يدعوك إلى القوة عليهم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أمراً من أموره، ويبث إليه حزناً وشجناً من أحزانه وأشجانه فقال: (يا رسول الله! إن لي أرقاء أو لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأضربهم وأشتمهم وألعنهم، فما تأمرني فيهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة نُظِر في أمرك لهم وعصيانهم لك، ثم أُخِذْتَ بذلك، فتولَّى الرجل يبكي وقال: أشهدك أنهم أحرار لله جل جلاله).

فالله.. الله.. في الأبناء والبنات!

إن الله يسألك عن ضربهم، إن الله يسألك عن دموعهم وعبراتهم، إن الله يسألك عن إهانتهم.

إن الله يسألك يوم يُنْشر لك الديوان بزلات اللسان، وبتلك الكلمات الجارحات، والعبارات المؤذيات القاسيات؛ يوم أطلقتها، ويوم لفظتَ بها فلم تعبأ بها، ولم تراقب الله عز وجل يوم لفظتَها.

فاتقِ الله في ضعفهم، وخذهم بالمودة والإحسان، وكن حبيباً مهاباً، ولا تكن فظاً غليظاً، فإن العبد إذا عامل الناسَ بالإحسان، وقابل الإساءة بالغفران، فإن الله يصفح عنه، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

أول هذه الحقوق: أن يُحْسِن الأبُ وتُحْسِن الأمُّ الاختيار :-

إن للولد عليكما -أيها الوالدان- حقاً عظيماً:

أن تختار -أيها الأب- أمَّه ذات الدين الكريمة الأمينة التي تخاف الله وتتقيه، وتعلم علم اليقين أن العبد ملاقيه.

أن تختار له أمَّاً كريمة، لا خَبَّةً ولا لئيمة؛ تختارها لا لجمالها، ولا لمالها، ولا لحسبها، ولا لنسبها؛ ولكن لطاعةِ اللهِ ربِّها.

أن تختار للولد تلك اليد الأمينة التي إن غِبْتَ عنها حفظتك، وإن نظرتَ إليها سرَّتك، وإن أمرتها أطاعتك.

أن تختار الصالحة المصلحة، الهادية المهدية، التي تسير على السيرة المرضية.

وأن تختاري -أيتها الأمُّ- لابنكِ ذلك الأبَ الكريم، فاختاريه دَيِّناً، لا صعباً ولا ليناً، واختاريه عبداً مطيعاً مستجيباً لله سميعاً، واختاريه على حب الله وغشيان مراضيه.

فإذا اختارت الأم بعلها، واختار الزوج زوجته، فإن الله سائلهما.

فأول حقوق الولد عليك -أيها الأب-: أن تحسن الاختيار لأمه، فكم من أم نشَّأت وربَّت وأصلحت لَمَّا أحسن البَعْل اختيارها! وكم من أم أفسدت وأشقت وأضلت حينما أساء الزوج اختيارها!

فالله.. الله.. في اختيار الأزواج والزوجات.

إن اختيار الآباء والأمهات مسئولية عظيمة على الأزواج والزوجات؛ فليتق العبد بارئه، وليعلم أنه ملاقيه وسائله عن اختياره لزوجه وولده.

الوصية الثانية: إذا أنعم الله عليكَ بالولد، وصاح صيحته فاحمَد الله جل جلاله، واشكره على نعمه وآلائه:-

إذ متع الله ناظريك؛ وأخْرَجَ لك بشراً سوياً، فاضرع إلى الله بصالح الدعوات، وصادق المناجاة والابتهالات، أن يجعله عبداً مطيعاً، وقل: ربِّ أسألك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].

فلقد ابتهل المتقون، ونادى العباد الصالحون إلهَ الكون أن يرزقهم الذرية الطيبة، فذكر الله عن نبيٍّ من أنبيائه، وحبيبٍ من أحبابه وأصفيائه أنـه سألـه الولـد الصـالح: قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].

فسَلِ اللهَ خيرَ الولد، فكم من ولدٍ أنعم الله به الوالدين! وكم من ولدٍ أشقى الله به الوالدين!

فاسأل الله خيرَه، واستعذ به من شره، واسأله أن يكون نعم الخليفة لك على طاعة الله ومحبته، كما قال الله عن حبيبه: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً [مريم:6].