أرشيف المقالات

(ملخص) مآلات الخطاب المدني - إبراهيم السكران

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
مدخل:
بعد أحداث سبتمبر 2001م بدأت نغمة الخطاب التجديدي تتغير حميميتها وإن بقيت تدور ضمن شروط الداخل الإسلامي، ولم يعلن سقوط بغداد مطلع العام 2003م إلا وقد سقطت كثير من رايات الانتماء وانسحبت كثير من تلك الأصوات التجديدية من الداخل الإسلامي إلى معسكر مختلف تمامًا.
إننا يجب أن نعترف وبكل وضوح أنه قد تطور الأمر بكثير من أقلام الخطاب المدني إلى مآلات مؤلمة.
 
كثير من تلك الطاقات الشبابية المفعمة التي بدأت مشوارها بلغة دعوية دافئة أصبحت اليوم -ويا لشديد الأسف- تتبنى مواقف علمانية صريحة، وتمارس التحييد العملي لدور النص في الحياة العامة، وانهمكت في مناهضة الفتاوى الدينية والتشغيب عليها، وانجرت إلى لعب دور كتاب البلاط فأراقت كرامتها ودبجت المديح، وأصبحت تتبرم باللغة الإيمانية وتستسذجها وتتحاشى البعد الغيبي في تفسير الأحداث، بل وصل بعضهم إلى التصريح باعتراضات تعكس قلقًا عميقًا حول أسئلة وجودية كبرى، واستبدلت هذه الشريحة بمرجعية (الدليل) مرجعية (الرخصة) أينما وجدت بغض النظر هل تحقق المراد الإلهي أم لا؟ وتحولت من كونها مهمومة بتنمية الخطاب الإسلامي إلى الوشاية السياسية ضده، والتعليق خلف كل حدث أمني بلغة تحريضية ضد كل ما هو (إسلامي)، وغدت مولعة بالربط الجائر بين أحداث العنف والمؤسسات الدعوية، وبالغت في الاستخفاف بكل منجز تراثي، وتحتفي بالأدبيات الفرانكفونية في إعادة التفسير السياسي للتراث وأنه حصيلة صراعات المصالح وتوازنات القوى وليس مدفوعًا بأية دوافع أخلاقية أو دينية، بل ووصل بعضهم إلى اعتياد اللمز في مرويات السنة النبوية وخصوصًا مصادرها ذات الوزن التاريخي واعتبارها مصدر التشوش الاجتماعي المعاصر.

وفي مقابل كل هذا الإجحاف في طرف النص والتراث والمؤسسات الإسلامية تجد اللغةَ الناعمةَ البشوشة في التعامل مع خصوم الحل الإسلامي، وحقهم في الحرية والتعبير، والتفهم الودود للدراسات التجديفية والروايات العبثية، والتصفيق المستمر لكل ما هو (غربي) بطريقة لا يفعلها الغربي ذاته، وعرضَ الأعلام الغربية بلغة تفخيمية وقورة، وإسقاط التجارب العلمانية في التاريخ الأوروبي على مجتمعنا بشكل لا يليق بشاب مسلم -كصراع الكنيسة مع العلم والثورة الفرنسية وعصر الأنوار ونحوها- والتركيز على أخطاء المقاومة أكثر من أخطاء المحتل، والمطالبة المستمرة بمواجهة المشروع العسكري الغربي بورود السلام الغاندية..
إلى آخر سلسلة التطورات الموجعة.


إن أكثر هذه التورمات تضخمت داخل هذا الخطاب في سياق التفاعلات الحادة والاستفزاز المتبادل مع المنتديات الإنترنتية المتخصصة في الإسفاف والتجني والمتقنعة بلبوس الاحتساب الفكري، بحيث صار الخطاب المدني الجديد تدفعه مشاعر النكاية والعناد ضد البغي الإلكتروني إلى الإمعان في مناقضة الرؤية الإسلامية، ولا أظن عاقلًا ينتقم من ربِّ خصمه لكن هذا ما جرى للأسف!
هذا الخطاب الجديد خطاب نشط ومتنامٍ في أوساط الشباب المولعين بالثقافة وذوي المنزع الفكري، ويحظى بحفاوة المؤسسات الإعلامية من صحف وفضائيات وغيرها، حيث ستظل فرص الشاشة والعمود الصحفي مشهدًا خلابًا لا تقاومه غريزة تحقيق الذات المتوقدة بداية العمر فيرضخ المثقف الشاب لشروطها ليحتفظ بها.

قسمات الانقلاب المعياري:
 
بتنا اليوم وكأننا نشهد (إعادة تقييم) جذرية وشاملة تمس العناصر الجوهرية لرؤيتنا الفكرية، فأمامنا اليوم حالة انقلاب حاد في (جدول القيم)، حتى أصبح (هرم الأولويات) يقف مقلوبًا على رأسه!
لقد طالت هذه الانقلابات المفاهيمية: الموقف من التراث، والموقف من الغرب، والموقف من المؤسسات الدعوية، والموقف من خصوم الحل الإسلامي، والموقف من واقع مجتمعنا المعاصر، والموقف من الدولة العربية الحديثة...
يدعو كثير من منتجي هذا الخطاب إلى قراءة (نصوص الوحي) ونصوص (التراث الإسلامي) قراءة مدنية، بمعنى قراءة (موجهة) تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم (المدنية) ثم تؤوِّل ما يتعارض معها، وتصبح فرادة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته في توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج، بدل أن تكون الدعوة إلى قراءة الوحي قراءة (صادقة) تتجرد للبحث الدقيق عن المراد الإلهي!
 
بمعنى آخر: تحويل الوحي من (حاكم على الحضارة) إلى مجرد (محام عن منتجاتها) يبررها ويدافع عنها ولا يُقبَل منه دور غير ذلك! وليس يخفى أن الحُكم نوع من السيادة، أما المحاماة عن الغير فحالة تبع يقاس نجاحها بإمكانيات التبرير والتسويغ.
والسؤال المؤلم الذي يفرض نفسه هاهنا: ما هي المساهمة الحقيقية التي يمكن أن نقدمها للعالم إذا كان قصارى ما نقوله للغرب هو إن ممارساتكم وسلوكياتكم يمكن تخريجها على بعض الأقوال الفقهية لدينا، أو يحتمل أن تدل عليها بعض الأدلة؟ هم يمارسون هذه الممارسات قبل أن يعرفونا أصلًا.
 
النماذج التفسيرية للظاهرة:
 
الواقع أن المراقبين والنقاد طرحوا تفسيرات كثيرة لظاهرة الانقلاب المعياري هذه التي أشرنا إليها، ومحاولات متعددة لاستكشاف النواة الجوهرية التي انبثقت عنها تطبيقات ومواقف وإحداثيات هذا الخطاب المدني المتطرف، فبعض النقاد يرى أن السبب هو (الانبهار بالغرب)، والواقع أن الانبهار بالغرب أحد النتائج وليس العامل الحاسم كما سيأتي توضيح ذلك.
وبعض النقاد اعتقد أن الجذر الدفين في هذه الظاهرة هو (العقلانية)، والواقع أن هذه الظاهرة ليس لديها نظرية فعلية في (مصادر المعرفة) بحيث تقدم ما دلّ عليه العقل وترد ما عارضه، بل هي تارة مع العقل، وتارة مع النص، وتارة مع الذوق الشخصي، وتارة مع المألوف، وتارة ضد هذه كلها، فهي تدور مع المنتج الحضاري الجديد بغض النظر عن علاقته بمصادر المعرفة.
 
وبعض النقاد اعتقد أن هذه الظاهرة هي امتداد تاريخي لمدرسة (المعتزلة)، والواقع أن هذا التفسير قد أبعد النجعة كثيرًا، فمدرسة المعتزلة هي مدرسة دينية متزمتة أخرجت الفساق من الإسلام، وشرعت للمنابذة المسلحة لأئمة الجور، فالمعتزلة مدرسة غلو لا مدرسة تساهل، بل إن المعتزلة أشرف بكثير من الخطاب الفرانكفوني المعاصر الذي يحاول الوصول إلى تناقضات داخلية في التراث الإسلامي بهدف تحييد الوحي جملةً عن الحياة العامة.
في تقديري أن النواة الخفية التي انطلقت منها كل هذه التحولات الجذرية والحادة في المواقف والرؤى هي (المغالاة في قيمة المدنية والحضارة)، فالغلو في الحضارة والمدنية الدنيوية وتحويلها إلى القضية الأولوية وغاية الغايات، هو الجذر الرئيسي التي ابتدأت منه كل هذه الانقلابات المفاهيمية، بمعنى أن النموذج التفسيري الذي يقدم إجابة دقيقة حول تطبيقات هذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته (غائية الحضارة) و(مركزية المدنية).
 
فنحن إذا تتبعنا تطبيقات هذا الخطاب الجديد ومواقفه وآراءه وصيغ علاقاته وإحداثيات مواقعه التي اختارها على الخريطة الفكرية فسنتوصل حتمًا -كما سبقت الإشارة لذلك- إلى أن القيمة المركزية التي تسيطر عليه وتجعله يدعم موقفًا ما أو يعارضه، أو يثمن قضية ما أو يحط منها، فسنجدها بكل تأكيد (مركزية المدنية)، وبناءً على مركزية المدنية فقد تحددت صيغ العلاقات مع المجتمع والتراث والغرب والدولة العربية الحديثة على أساس القرب والبعد من (التمدن المادي).
 
ينابيع الغلو المدني:
 
هذا الخطاب الذي تطور بطريقة مؤلمة ووصل إلى حالة (غلو مدني) تتعارض مع أصول الوحي، اكتنفته أربعة ظروف رئيسية شكلت أضلاع الوعاء الجوهري لتناميه، ألا وهي:
مناخ سبتمبر.
والضخ الفرانكفوني.
وحفاوة وسائل الإعلام.
ورد الفعل تجاه البغي الإلكتروني.
فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعرض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدت من انسيابه ودويّه، وتراجعت معها شعبيته الاجتماعية بشكل ملموس.
وفي ظل هذا الفراغ الجزئي الذي خلفه انكماش الحالة الإسلامية، برزت أبحاث المدرسة الفرانكفونية المغاربية كإجابة جديدة نجحت في استغلال الظرف الأمني الحالي وحققت اكتساحًا استثنائيًا في فترة قصيرة.
ويبدوا أن هذا الرواج السريع سيكون مؤقتًا ريثما يستعيد الاتجاه الإسلامي عافيته الأمنية، إذ لو كانت (المدرسة الفرانكفونية) تتكئ على عبقرية طروحاتها الخاصة لكان متحفها عامرًا منذ الثمانينات وليس بعد العام 2001م! وإنما رواجها بعد كسادها كان تبعًا لزلزال الظرف السياسي السبتمبري الذي قلب توازنات القوى رأسًا على عقب، وسمح لكثير من الأفكار السياسية المتشنجة أن تبتسم فوق الطاولات المستديرة.
هذه الشريحة من الشباب الإسلامي اصطدمت في مقاعد المدرسة الفرانكفونية المغاربية بـ (سؤال الحضارة)، فحاولت بادئ الأمر أن تقدم إجابة ترضي الطرفين فتتلافى الاصطدام بانتمائها العميق الذي يشدها، وتتودد للذوق الفكري الذي تقرأ له.
هذه الشريحة الشبابية لم تستوعب أبدًا -حتى هذه اللحظة- أن المدرسة الفرانكفونية المغاربية أعادت تشكيل منطقها تمامًا، وأعادت صياغة نمط تفكيرها وطريقة تعاطيها للأمور، وأسلوب نظرها للوقائع، وتقييمها للأحداث، من خلال امتصاص أدواتها الخاصة للقراءة والتفسير والملاحظة، وإعادة ترتيب الهرم الداخلي للقيم، وإعادة رسم الجدول الذهني للأولويات.
 
السؤال الذي يملي نفسه في هذا الموضع: ما الفرق بين العلمانية العربية ما قبل 1984م والعلمانية العربية ما بعد 1984م؟ (هو العام الذي احتضن واقعة صدور أول حلقة من سلسلة (نقد العقل العربي) للمفكر المغربي ذائع الصيت محمد عابد الجابري والذي دشن العهد الجديد لتلمود العلمانية العربية التوفيقية).
بمعنى: ما سر الجاذبية في دراسات العلمانية العربية الحديثة التي خلبت أذهان الشباب الإسلامي وجعلته يُقبِل بينهم على هذا اللون من الدراسات والأبحاث؟
 
الحقيقة أن الفرق الأساسي هو التحول من (الاستهداف المباشر للشريعة) إلى (إعادة تفسير التراث) من خلال الأدوات التي تطرحها العلوم الإنسانية الحديثة، أو بشكل آخر القفز من الإشكالية الأنطولوجية إلى الإشكالية الإبستمولوجية.
هذا الفارق هو بالضبط مصدر الجاذبية والإثارة لدى القارئ الإسلامي، وهي اللغة التي يفهمها جيدًا، لقد امتص وتشرب هؤلاء الشباب بصورة ضمنية كثيرًا من المفاهيم المشبعة ببنية علمانية مضمرة، أو التي تدفع باتجاه تعزيز التصورات العلمانية، مثل مفهوم: عصر التدوين، والتنصيص السياسي، والعقل المستقيل، والأرثوذكسية الإسلامية، والنص كمنتج ثقافي، وميثية القرآن، وغيرها من أدوات التفكير العلماني.
على أية حال تظل المدرسة الفرانكفونية المغاربية المعاصرة هي الأكثر تعبيرًا عن هذا الشكل من الخطاب، واهتمامها بموضوعيها الرئيسين -إعادة تأويل التراث والتحليل الأنثروبولوجي للحركة الإسلامية- كان مصدر الجاذبية والإغراء الذي حقق لها النفاذ إلى أسوار الداخل الإسلامي، لتنتهي بحالة استعمار ثقافي.
 
والحقيقة أن لحظة انتقال هذه الشريحة الشبابية بين المدرستين لم تكن مجرد لحظة تفاعل طبيعي مع رافد ثقافي معين، بل شهدت ارتجاجات فكرية مذهلة كانت نتيجة لصدمة انقلاب السؤال المركزي بين المدرستين.
فالسؤال المركزي في مدرسة الفكر الإسلامي كان سؤال (انتصار الإسلام) ويدخل في ذلك سائر ما تم تطويره من (مفاهيم دعوية) تشكل نسيج هذا الفكر: كمفهوم الحل الإسلامي، وتحكيم الشريعة ، والتزكية الإيمانية، والعمل الجماعي، وفقه الواقع، والتعدد التنظيمي، والعمل التربوي، وإنكار المنكرات، وتوعية الجاليات، وتفعيل المساجد، والأمن الفكري، وحراسة الفضيلة، والإعلام الإسلامي، وتضميد جراحات المسلمين، وإعداد القوة، ونحوها من المفاهيم الإسلامية وصيغ العلاقات العريقة في هذا الخطاب.
أما السؤال المركزي للمدرسة الفرانكفونية فقد كان (سؤال الحضارة) ومن ثم محاسبة التراث، والاتجاه الإسلامي، والمجتمع العربي، والدولة العربية الحديثة: على أساس الاقتراب والابتعاد عن (النموذج الغربي الحديث)، حيث كان النموذج الغربي الحديث هو المعيار الضمني غير المعلن، وإن كان النص المغاربي في كثير من الأحيان يتظاهر بخلاف ذلك.
 
هذه الصدمة بخطاب المدرسة الفرانكفونية، وسطوة جهازها المفاهيمي، واكتظاظ لغتها الباذخة، وترسانة شواهدها التراثية، وما يتناثر على جنبات نصوصها من أعلام أوروبية رنانة، وما تحيل إليه من تجربة غربية منتصرة، وما تنطوي عليه بعض فقراتها من هالة الغموض المبهر، وشحنها المستمر والمضمر ضد كل ما هو (لا غربي): نجحت في اختطاف التفكير المتوازن، وتصديع الانتماء الدعوي، وإخضاع القارئ لمنطلقاتها الضمنية، والاستسلام لزواياها الخاصة في النظر والقراءة وتقييم الأمور، والتفكير في العالم من خلال شبكتها المفاهيمية ذاتها.
مما جعل انتقال هذه الشريحة الشبابية -موضع الدراسة- بين المدرستين ليس انتقالًا خطيًا تراكميًا من مدرسة إلى التي تليها، بقدر ما كان استقالة فكرية غير ودية من معسكر سابق وتسجيل لعضوية جديدة في المعسكر المقابل.
ويجب أن نعترف أن نزول الخطاب الإسلامي من (أعواد المنبر) فترة التسعينات إلى (قفص الاتهام) بعد سبتمبر بدد شيئًا من جاذبيته الاجتماعية، وفتح المجال لتسويق خطابات أخرى لا تتكئ على نجاحها الخاص، بقدر ما تتكئ على غياب منافسها العنيد.
وهذا يعني -كما سبق- أن الخطاب الإسلامي المعاصر سيسترد عافيته وموقعه الاجتماعي الريادي بمجرد تجاوز هذه الأزمة والتخلص من الآثار الأمنية الحادة لحادثة سبتمبر.
 
قانون المتوالية الفكرية:
 
الواقع أن (قانون المتوالية الفكرية) كنموذج تفسيري سيساعدنا كثيرًا في فهم تطورات ظاهرة الخطاب المدني وكيف بدأت بإشكاليات تجديدية اجتهادية مشكورة ثم انتهى كثير من كتابها إلى مآلات مؤلمة مذمومة، فجمهور هؤلاء الشباب حين بدأ في قراءة إنتاجات المدرسة الفرانكفونية كان مدفوعًا في البداية بمقصد حسن نبيل، وهو تنمية إمكانياته التحليلية وامتلاك الأدوات الفكرية بهدف تعزيز الخطاب الإسلامي ودعم حجيته، ولم يفرغ كثير منهم من ازدراد هذه الأبحاث إلا وقد انقسموا فريقين:
فأما الأول فتيقظ لبطلان الأساس الضمني الذي انبنت عليه هذه الأبحاث وهو غائية الحضارة أو مركزية المدنية، فانبنى على ذلك بطلان أكثر النتائج التي تضمنتها هذه الأبحاث من تبخيس التراث وتوقير الغرب، ومن ثم التنبه للأداتين الأثيرتين في هذه المدرسة لتهشيم التراث وهما أداتي (التسييس والمديونية).
أما أداة (التسييس) فتعني إعادة التفسير السياسي للنظريات الشرعية وتحركات أعلام التراث ومحاولة ربطها بصراعات سياسية تحت شعار الأنسنة.
أما أداة (المديونية) فتعني محاولة ربط سائر المفاهيم والأصول الشرعية التي صاغها فقهاء التراث بالثقافات السابقة للإسلام وتصويرها كمجرد اقتراض ثقافي من الثقافة الهرمسية أو الغنوصية أو الفارسية أو اليونانية.
أما الفريق الآخر -وهم الأكثر- فقد استسلم لا شعوريًا للأساس الضمني في هذه الأبحاث وهو مركزية المدنية لكنه حاول -بحسن نية أيضًا- أن يذب عن دينه وتراثه وأمته بإثبات أن الوحي والتراث يتضمنان أولوية المدنية والحضارة أصلًا، ومن ثم تحول إلى هاجس التفسير المدني للتراث فأخذ يبحث داخل مضامين الوحي والتراث عن أية مشاهد تتوافق مع المدنية الحديثة، وانساق في نقد كل ما لا يتوافق معها داخل التراث.
 
فبداية كثير من هؤلاء الكتاب -شهادةً لله- كانت بداية حسنة وهي أنهم رأوا أنه لا يمكن نشر رسالتنا الإسلامية وعزة مجتمعنا إلا بالإمكانيات والقدرات الحديثة، ثم تجارى بهم البحث في الحضارة والنهضة والإمكانيات الحديثة حتى جعلوها غاية في حد ذاتها بشكل عملي ضمني، ثم لما رأوا نقد الغرب يحُوْل كثيرًا بين الشاب وبين الحضارة الغربية ويهز مرجعيتها، بالغوا في التماس المعاذير لانحرافات الحضارة الغربية، وتلمسوا الأدلة التي توافق ما هم عليه، ثم لما انهمكوا في تكييف الأحكام وفق نتائج الغرب اصطدموا بكثير من المفاهيم الشرعية ذات المنزع الديني الغيبي كالإيمانيات والشعائر والأحكام الشرعية التفصيلية والتصورات الغيبية ونحوها، فحاول الكثير منهم جعل كل هذه الشرائع مقصودها النهائي أصلًا عمارة الأرض وإقامة الحضارة، وهكذا بدأت هذه المفاهيم الشرعية تتناقص قيمتها في ظل (وسيليتها) المحضة، وتتضخم قيمة المدنية الغربية بحكم تحقيقها للمقصد النهائي وهو الحضارة، ثم تطور الأمر من الانبهار بالحضارة الغربية المعاصرة إلى محاسبة الحركة الإسلامية والقسوة عليها طبقًا للاقتراب والابتعاد عن الحضارة الغربية المعاصرة، ونشأ عن ذلك ظواهر انفصال وانشقاق ترتب عليها الابتعاد عن مقابس الإيمان والتخول بالذكرى، فأخذت جذوة الإيمان تخبو يومًا بعد يوم، وارتخى الانقياد وفقدت العبودية معناها.
 
ثم تطور الأمر بشكل أكثر سوءً، وأصبح البعض يلتمس العوائق في مضامين الشريعة ذاتها، حتى وصل بعضهم إلى أن المشكلة في (السنة النبوية) وأنها صرفت الناس عن قضية الحضارة إلى الإغراق في التفاصيل الصغيرة، وهكذا يتسلسل الأمر من سيء إلى أسوأ.
وكنتيجة مباشرة للمظالم الإنترنتية التي واجهها هؤلاء الكتاب في بدايات كتاباتهم -كنسبة لوازم لم يلتزموها وتضليلهم بها أو ربطهم بجهات خارجية فريةً وبهتانًا- فإن كثيرًا منهم قادته مناكفة الخصوم تدريجيًا إلى الانقلاب على الرؤية الإسلامية والرغبة الدفينة الملحة في تأكيد المباينة بمناسبة وبلا مناسبة، حتى آل الأمر بكلا الفريقين المتباغيين إلى الاستقواء بأحد جناحي السلطة ضد الفريق الآخر.
والحقيقة أن وقوع بعض المنتسبين للاحتساب في بعض البغي هو مما جرت به سنة التاريخ، وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن تيمية في كثير من كتبه، ومنه قوله: "وكما قد يبغي بعض المُستنّة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة، بزيادة على ما أمر الله به، وهو الإسراف المذكور في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران من الآية:147]" (الفتاوى، [14/ 483]).
 
ثم إن مما زاد في تأجيج هذا الجموح الشبابي حفاوة كثير من المؤسسات الإعلامية بذلك مدفوعة بتصفية حسابات قديمة مع ما تسميه الإسلام السياسي، ومن يتصور أن المؤسسات الإعلامية مجرد مناخ معرفي بحت فهو يعيش وهمًا كبيرًا، فالمؤسسات الإعلامية كائنات سياسية لها أجندتها الخاصة وانحيازاتها العميقة، ولكن لها أدواتها الخاصة في الاستقطاب والتوظيف بما يتناغم مع بنيتها مثل: منصب كاتب عمود صحفي، أو مشرف صفحة الرأي، أو مقدم تلفزيوني، أو معد برامج، أو ضيفًا دائمًا يوضع تحت اسمه خبير في الجماعات الإسلامية، ونحوها من المناصب الإعلامية التي تخطف لب الشاب في عصر الشاشة.
 
ويمكن إجمال بعض الغايات والنتائج التي سعت إليها هذه الورقة في الخطوط التالية:

- أن العبودية هي الغاية الكبرى، أما العلوم المدنية فهي وسيلة تابعة لها.
- أن التنوير الحقيقي هو الاستنارة بالعلوم الإلهية التي تضمنها الوحي، وأن الظلامية والانحطاط الرئيسي هو الحرمان من أنوار الوحي مهما بلغت درجة العلوم المدنية.
- أن أشرف مراتب العمارة هي العمارة الإيمانية، وأن جوهر وظيفة الاستخلاف هو تمكين الدين.
- أن الغلو المدني هو ينبوع الانحراف الثقافي وجذر التخبطات الفكرية المعاصرة.
- أن الإسلاميين ليسوا ضد المثاقفة، ولكن لديهم موقف تفصيلي يفرق بين الانتفاع والانبهار، ويفرق بين مستويات الإنتاج في الحضارات الأخرى.
- أن خطاب أنسنة التراث آل إلى تغييب دور النص في تشكيل التراث، ورد العلوم الإسلامية إلى عنصرين: الثقافات السابقة وصراعات المصالح، بما ترتب عليه انفصال الشاب المسلم عن نماذجه الملهمة.
- أن المغالاة في مفهوم الإنسان آلت إلى طمس المعايير القرآنية في التمييز على أساس الهوية الدينية.
- أن التبرم بمرجعية الوحي، والإزراء بالقرون المفضلة، واللهج بتعظيم الكفار، من أكثر شعب النفاق المعاصرة التي تستدعي التحصين الإيماني.
- أن المغالاة في النسبية يقود إلى العدمية، بما يترتب عليه خسارة فضيلة اليقين ومنزلة الإحسان، والإغراق في الارتياب والحيرة واللاحسم.
- أن الغضب لله ورسوله إذا انتهكت محارمهما قيمة محمودة وليس توترًا ولا نزقًا ولا دوغمائية ولا وصاية ولا إقصاء.
- أن الاستغراق في ربط الشعائر بعلل سلوكية محضة، أو ربط التشريعات بحكم اجتماعية محضة، من أعظم أسباب توهين الانقياد وذبول الدافعية.
- أن تعظيم الكلي مع تجميد تطبيقاته يؤول إلى تعظيم شكلي نظري لا حقيقة له، لأن الجزئي معتبر في إقامة الكلي.
- أن الاستقامة الدينية ليست لمجرد السلامة من النار ، بل لها آثار دنيوية كبرى في جلب الخيرات ودفع الكوارث.
- أن الضعف البشري في تأويل النص باتجاه رضا الناس حقيقة لا يستهان بسطوتها على العامل للإسلام الشغوف باستمالة المدعوين.
- أن استفراغ الوسع والاستطاعة في إعداد القوة واتخاذ الإمكانيات من الواجبات الشرعية المحكمة.
 
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير