الوحدة والاتفاق


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد:

فإننا نحمد الله تبارك وتعالى على أن هدانا لما اختلف فيه الناس من الحق بإذنه سبحانه وتعالى، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، هدانا إلى أن نتبنى الكتاب والسنة عقيدة لنا ومنهجاً في حياتنا، بينما نجد المسلمين الآخرين قد رضيت كل طائفة منهم بمذهب يلتزمونه التزام المسلم للكتاب والسنة، فهذه نعمة ليس بعدها نعمة؛ ذلك لأن التمسك بالكتاب والسنة هو الضمان الوحيد الذي يعصم الإنسان من أن يقع في ضلال مبين، كما جاء في الحديث الصحيح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض).

التمسك بالكتاب والسنة هو السلوك على الطريق المستقيم، الذي أخبرنا به رب العالمين في كتابه الكريم حين قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] وقد أخرج أبو عبد الله الحاكم في مستدركه بإسنادٍ جيد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً على الأرض مستقيماً، ثم خط خطوطاً أخرى على جنبتي الخط الأول -خط خطوطاً قصيرة حوالي الخط المستقيم- ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ثم زاد بياناً لهذه الصورة البديعة الجميلة التي صورها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده الكريمة على الأرض؛ لينطبع في أذهان السامعين لكلامه والرائين لصورته أثرها في قلوبهم فقال: هذا صراط الله، وهذه طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه).

ولقد كانت هذه الصورة من بالغ حجة الله على لسان نبيه على أولئك المسلمين الذين انحرفوا عن صراط ربهم المستقيم؛ لأن هذه الصورة توضح وتؤكد ما جاء في الآية السابقة، أن الطريق الموصل إلى الله تبارك وتعالى ليس إلا طريقاً واحداً، وأن الطرق الأخرى -التي تخرج من الطريق المستقيم وتبعد عنه- كلما سار السائر فيها ابتعد عن الصراط المستقيم وضل ضلالاً مبيناً.

وإني لأرى في هذه الصورة تنبيهاً لطيفاً ناعماً جداً، إلى ما يقع فيه كثير من الناس من الانحراف عن الخط المستقيم، بدعوى أن هذا الطريق بعيد المدى، نحن نسمع هذا الكلام في هذه الأيام، ونجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وكأنما أوحى الله تبارك وتعالى إليه بما سيقع وبما سيأتي من الزمان؛ فأشار إليه بهذه الصورة البديعة الجميلة.. نحن حينما نتحاجج مع بعض المخالفين للنهج السلفي، وحينما ندعو الناس إلى هذا النهج السوي وهو اتباع الكتاب والسنة، ونفصل لهم شيئاً من التفصيل، ونقول لهم: لا بد من تعليم الناس دينهم على الوجه الصحيح المطابق للكتاب والسنة، والموافق لما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم؛ نجد كثيرين من هؤلاء يعترفون بأن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه؛ ولكن يقولون: يا أخي! هذه شغلة طويلة، وهي تحتاج إلى مدى طويل، ونحن نريد أن نقيم الدولة المسلمة بأقرب طريق. فنقول لهم: إن هذا الطريق قد صوره الرسول عليه السلام فعلاً أنه طريق ممتد وطويل؛ ولكنه مستقيم.

ومن لطائف هذه الصورة البديعة الجميلة: أنه صور الطرق المنعرجة المنبعثة منه والخارجة عنه طرقاً قصيرة، وذلك من تمام ما يسوله الشيطان لبني الإنسان بأن يقول لهم: إلى متى تمشون؟ ومتى تصلون؟ اذهبوا من هذا الطريق، انظروا ما أقربه وما أيسر الوصول إلى منتهاه!

وهذا هو ما غر الناس اليوم، وهو واقع الطوائف الإسلامية الذين يريدون العمل للإسلام، ويريدون خدمة الإسلام وإقامة الدولة المسلمة، تجدهم يتحمسون لإقامة الدولة المسلمة ولكن بغير علم، وإن كان هناك علم ما فليس هو العلم النافع؛ لأن العلم النافع إنما هو ما كان كتاباً وسنة، ثم ما كان من عمل السلف الصالح من عمل الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان، هذا هو العلم النافع، وإلى هذا أشار ابن القيم بقوله:

العلم قال الله قال رسوله     قال الصحابة ليس بالتمويه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة     بين الرسول وبين رأي فقيه

كلا ولا جحد الصفات ونفيها     حذراً من التعطيل والتشبيه

فـابن القيم يشير إلى هذه الحقيقة: أن العلم النافع إنما هو قول الله وقول رسول الله، بفهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فهؤلاء الدعاة الذين يريدون الوصول إلى تحقيق الغاية العظمى، وهي إقامة حكم الله في الأرض، وإيجاد الخلافة الراشدة بعد تلك الخلافة الماضية، التي يتفق جميع المسلمين على وجوب تحقيقها، ولكنهم يختلفون في الوسيلة وفي الطريق، ونحن السلفيين معهم في هذه الغاية، لكننا لسنا معهم في الوسيلة، نحن وسيلتنا أنه لا بد من العلم النافع والعمل الصالح، والعلم النافع هو ما كان مبنياً على كتاب الله وحديث رسول الله، الحديث الصحيح فقط، وعلى فهم السلف الصالح، والعمل بهذا العلم.

ولو اجتمع المسلمون اليوم جميعاً على العلم النافع ثم لم يعملوا بذلك؛ فلن يصلوا إلى هدفهم المنشود وهو إقامة حكم الله في الأرض؛ ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فنحن مع كل الذين يدعون إلى إقامة حكم الله في الأرض، وتحقيق -ما يسمونه اليوم- الحاكمية لله عز وجل وحده لا شريك له، ولكننا نختلف عنهم كل الاختلاف في الطريق، طريقنا طويل ومديد، وطريقهم قصير ولكنه منحرف عن الصراط المستقيم، وذلك ما أشار إليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه في هذه الصورة الجميلة البديعة، حينما خط الصراط المستقيم خطاً طويلاً مستقيماً، وخط الطرق المتعرجة عنه طرقاً قصيرة؛ إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الطرق الشيطانية، والتي يزعم دعاتها أنها تؤدي بهم إلى تحقيق الإسلام وإقامة حكمه في الأرض، أنها ليست من الطرق التي تؤدي إلى الخير؛ ذلك لأن الطريق المؤدي إلى الخير هو طريق واحد يجوز لي أن أقول: لا شريك له؛ لأنه وحي السماء، وحي من الله على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لا يقبل التعدد كالموحي به وهو الله تبارك وتعالى.

من عجائب ما انحرف به المسلمون عن نصوص الكتاب والسنة، وخاصة هذا الحديث؛ أنهم يصدمونه صدماً، فهو مع تصريحه بأن الطريق واحد يقولون: الطرق الموصلة إلى الله بعدد أنفاس الخلائق!!

الواجب على من وفقه الله لسلوك الطريق المستقيم

فإذا كان ربنا عز وجل قد تفضل علينا وهدانا إلى أن وفقنا للسلوك في هذا الطريق المستقيم؛ فيجب علينا أمران اثنان:

الأمر الأول: أن نقدر هذه النعمة، وأن نقوم بشكرها لربنا تبارك وتعالى، فأنتم تعلمون قوله عز وجل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] فإننا إذا شكرنا ربنا عز وجل على ما هدانا إلى هذا الطريق المستقيم؛ زادنا هدى وبصيرة في السير في هذا الطريق، وصبَّرنا أمام المشاق التي تعترض سبيلنا من الدعاة إلى هذه الطرق المنحرفة عن الصراط المستقيم، ويجعلنا من أولئك الغرباء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (فطوبى للغرباء ) وذلك في قوله : (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء).

وقد جاء في تفسير الغرباء روايات؛ وكلها تنطبق على كثير من الدعاة إلى اتباع الكتاب والسنة، وذلك من فضل الله، من تلك الروايات: (قيل: يا رسول الله! من هم الغرباء؟ قال: هم ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وهذا هو الواقع كما تشهدون، وما لـه من دافع، ولذلك كانوا غرباء حتى بين أقاربهم، وحتى بين آبائهم وأمهاتهم؛ ذلك لأن القرابة الدينية هي أقوى صلة وربطاً من القرابة النسبية، فهؤلاء الغرباء الصالحون إنما هم غرباء من ناحية العقيدة، ومن ناحية اتباع الكتاب والسنة، ولو كانوا يعيشون بين أقاربهم وقبيلتهم فهم مع ذلك غرباء؛ لأنهم صالحون والذين حولهم طالحون.

والرواية الأخرى، وهي أبدع وأحفز لنا في أن نثابر على طريقنا وأن نصبر في ذلك، هي قوله عليه الصلاة والسلام: (الغرباء هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي) فهذه الصفة هي صفة الدعاة إلى الكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح جعلنا الله تبارك وتعالى منهم.

فإذا كان ربنا عز وجل قد تفضل علينا وهدانا إلى أن وفقنا للسلوك في هذا الطريق المستقيم؛ فيجب علينا أمران اثنان:

الأمر الأول: أن نقدر هذه النعمة، وأن نقوم بشكرها لربنا تبارك وتعالى، فأنتم تعلمون قوله عز وجل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] فإننا إذا شكرنا ربنا عز وجل على ما هدانا إلى هذا الطريق المستقيم؛ زادنا هدى وبصيرة في السير في هذا الطريق، وصبَّرنا أمام المشاق التي تعترض سبيلنا من الدعاة إلى هذه الطرق المنحرفة عن الصراط المستقيم، ويجعلنا من أولئك الغرباء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (فطوبى للغرباء ) وذلك في قوله : (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء).

وقد جاء في تفسير الغرباء روايات؛ وكلها تنطبق على كثير من الدعاة إلى اتباع الكتاب والسنة، وذلك من فضل الله، من تلك الروايات: (قيل: يا رسول الله! من هم الغرباء؟ قال: هم ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وهذا هو الواقع كما تشهدون، وما لـه من دافع، ولذلك كانوا غرباء حتى بين أقاربهم، وحتى بين آبائهم وأمهاتهم؛ ذلك لأن القرابة الدينية هي أقوى صلة وربطاً من القرابة النسبية، فهؤلاء الغرباء الصالحون إنما هم غرباء من ناحية العقيدة، ومن ناحية اتباع الكتاب والسنة، ولو كانوا يعيشون بين أقاربهم وقبيلتهم فهم مع ذلك غرباء؛ لأنهم صالحون والذين حولهم طالحون.

والرواية الأخرى، وهي أبدع وأحفز لنا في أن نثابر على طريقنا وأن نصبر في ذلك، هي قوله عليه الصلاة والسلام: (الغرباء هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي) فهذه الصفة هي صفة الدعاة إلى الكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح جعلنا الله تبارك وتعالى منهم.

قلت: يجب أن نشكر ربنا عز وجل على أن هدانا إلى هذا الطريق الذي لا ثاني له، ومن شُكرِه عز وجل أن نبتعد عن الاختلاف الذي يفرق الصف ويشتت الشمل؛ ذلك لأننا نعلم جميعاً أن الاختلاف في الدين ليس من شيم المسلمين، ولا من نهجهم ولا من طريقتهم، بل هو من شأن الكافرين المشركين، كما قال رب العالمين تبارك وتعالى في كتابه الكريم: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32] .

الواقع المؤسف شديد الأسف أن هذه الآية تنطبق، أو على الأقل تكاد تنطبق على كثير من المسلمين اليوم، الذين يختلفون بعضهم مع بعض أشد الاختلاف؛ بحيث أنهم انقسموا إلى مذاهب شتى وأحزاب كثيرة، وصدق فيهم قول ربنا عز وجل: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32] فيجب أن نبتعد عن الاختلاف مع بعضنا البعض خشية أن نقع في هذه الفرقة التي ليست من طبيعة المسلمين، وإنما هي من سجية الكافرين المشركين.

أقول هذا وأنا أعلم أن الخلاف أمر لا منجاة منه؛ ذلك لأن الله عز وجل خلق الناس متفاوتين في أفهامهم، وفي مداركهم، وفي قدراتهم، وفي فهم نصوص الكتاب والسنة، فلا بد من أن يقع شيء من الاختلاف بين أفراد الاتجاه الواحد والخط المستقيم، ومثاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانوا متفقين في عقائدهم وفي جميع مسائلهم الفقهية، ولكن من جهة أخرى كانوا مختلفين في بعض المسائل الفرعية؛ إلا أن هذا الاختلاف لم يؤد بهم إلى أن ينقسموا إلى أحزاب وإلى مذاهب متفرقة، وهذا التفرق هو الذي يحمل المتفرقين على أن يعادي بعضهم بعضاً، وأن يشتغل بعضهم بالجهاد في البعض الآخر، فيصرفهم ذلك عن أن يتوجهوا جميعاً صفاً واحداً إلى محاربة أعداء الله، من الكفار والمشركين والمرتدين عن الدين.

لقد كان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام يختلفون في بعض المسائل، لكن ذلك لم يوصلهم إلى التباغض وإلى التدابر الذي نهى عنه الرسول عليه السلام في الأحاديث الصحيحة.. (لا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً) هكذا كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك فلا بد أن نجعل من جملة الخط الذي نمشي عليه، هو ما يمكن التعبير عنه أن نتسامح بعضنا مع بعض فيما إذا اختلفنا في فهم نص من كتاب الله أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فينبغي أن يعذر بعضنا بعضاً في ذلك؛ لأنه من المستحيل، ويجب أن تكون هذه الفكرة قائمة في عقيدة كل فرد منا؛ لأن الإصلاح لا يقوم على تجاهل الواقع وعلى تجاهل الحقائق، يجب أن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم الذين هم خير القرون، كما قال عليه السلام في الحديث الصحيح: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لم يستطيعوا إلا أن يختلفوا في بعض المسائل، وأنتم على ذكر لكثير من هذه المسائل.

وحسبكم ما يبتلى به كثير من الناس اليوم مما يقال: إنه مفسد للوضوء أو مبطل للصلاة، وهل مس المرأة ينقض الوضوء أو لا ينقض؟ وهل خروج الدم يفسد الوضوء أو لا يفسد؟ ونحو ذلك، فهل وصل بهم الأمر إلى أن يمتنع أحدهم من الصلاة وراء أخيه المسلم لأنه يخالفه في رأيه؟!

الواجب على المسلمين أمام الاختلاف

إن من سنة الله عز وجل في عباده أنهم قد يختلفون في بعض المسائل تفاهماً لها، فينبغي علينا أمران اثنان:

الأمر الأول: أن نتعاون على فهم النص من الكتاب والسنة فهماً صحيحاً، بحيث أنه لو كان من المستطاع عادة ألا يكون بيننا أي خلاف لوجب ذلك علينا، وإذا كان من غير الممكن القضاء على الخلاف -كما تدل على ذلك سنة الله في خلقه وفي أصحاب نبيه- فلا أقل من أن نسعى إلى تقليل الخلاف.

وإننا لا نعتقد ما يعتقده جماهير المسلمين اليوم من إطلاقهم القول بأن: الاختلاف رحمة، فإن هذا القول لم يرد إلا في حديث منكر، بل موضوع، ألا وهو: (اختلاف أمتي رحمة) كما أنه لم يرد إلا في مثل هذا الحديث، فهو مصادم لنصوص الكتاب والسنة التي تدعو جميع الأمة إلى ألا يتفرقوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولكن إذا قال قائل: إذا كان من غير الممكن إزالة الخلاف من أصله وجذره، كما تعترف أنه كان واقعاً في أصحاب الرسول عليه السلام؛ فليس لنا أن نقلب الحقيقة فنجعل الاختلاف رحمة.

نحن نقول: الاختلاف الذي لا بد منه، والذي إنما يكون بعد أن أنفذنا وبذلنا كل جهودنا في سبيل الاتفاق على فهم النص على وجه معين؛ فإذا بقي شيء من الاختلاف فنقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا بد مما لا بد منه، أما أن نصف هذا الاختلاف الذي بقي رغماً عنا بأنه رحمة؛ فهذا ليس لـه وجه من الوجوه إطلاقاً، حسبنا أن نقنع برحمة ربنا بنا حينما قال على لسان نبينا: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد) فقد أثبت الحديث الصواب وأثبت مقابله الخطأ، أما أن نَصِف الخطأ بأنه رحمة فهذا لا يمكن أن يكون.

لذلك فنحن وسط بين أولئك الناس، وهم جماهير المسلمين اليوم -مع الأسف الشديد- الذين يرضون بهذا الواقع من الاختلاف الكثير، الذي لم يقف عند حدود الاختلاف في الفروع كما يزعمون، بل تعدى ذلك إلى الاختلاف في الأصول، أي: في العقيدة.

نحن لسنا مع هؤلاء الذين يقولون: اختلافهم رحمة، ولسنا -أيضاً- مع أولئك الذين قد يخيل إليهم أنهم يستطيعون أن يوجدوا ويحققوا مجتمعاً هو أكمل وأهدى سبيلاً من مجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نحن إذا كنا نجتهد وبإمكاننا ألا نكون من أولئك الذين يقولون: اختلافهم رحمة، فلن نستطيع أبداً أن نكون خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما نحن كما قال الشاعر تماماً:

فتشبهوا إن لم تكـونوا مثلهم     إن التشبه بالكرام فلاح

فنحن نسعى أن نستن ونهتدي بهدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اهتدوا مباشرة بهديه دون أن يدخل بينهم وبينه أي واسطة.

فإذاً: الحق وسط بين الجماهير الذين يقولون: الاختلاف رحمة، وبين القليل من الناس الذين بتحركهم على وحدة الكلمة وعلى توحيد الصف، يتوهمون أنه بالإمكان أن نجعل كل فرد مطابقاً في فهمه للجمهور، هذا أمر مستحيل!

إذاً: يجب أن نتوسع قليلاً إذا ما ضيق غيرنا، وأن نضيق إذا ما وسع غيرنا؛ لأن هذا التوسع الذي لا حدود له خلاف الكتاب والسنة.. كيف يكون الاختلاف رحمة وربنا عز وجل يقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]؟ فإذا كان الاختلاف رحمة فيا ترى هل يكون الاتفاق نقمة؟ والله يقول: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118]؟ البشر لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فالمرحومون لا يختلفون.

الجمع بين أن المرحومين لا يختلفون مع وجود الاختلاف بين الصحابة

أعود لأؤكد على النقطة التي أريد التنبيه إليها إن المرحومين لا يختلفون، لكن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا بلا شك مرحومين، فكيف يلتقي هذا مع ذاك الاختلاف الذي أشرنا إليه؟

نقول: الاختلاف قسمان: اختلاف هوى، واختلاف فهم.. اختلاف تعصب، واختلاف تطلب للهدى.

فإذا اختلف اثنان وكل منهما يسعى لمعرفة حكم الله ورسوله ثم لم يتفقا فهذا لا ضير فيه، ولا شك أن الاتفاق خير من الاختلاف، مهما كان الاختلاف يسيراً وسهلاً وسمحاً، ولكن لا يمكن الاتفاق في كل مسألة بين عالمين، أو بين شقيقين، أو بين سلفيين، فهذا أمر مستحيل!

لذلك يجب ألا نضيع وقتنا في تحقيق المستحيل، وإنما نصرف وقتنا في القضاء ما يمكن على الاختلاف، هذا هو واجبنا، وهذا هو تميزنا عن جماهير الناس الذين رضوا بالاختلاف وطبعوه بطابع الرحمة؛ ولذلك فهم لا يزالون مختلفين، ولم لا وهم يظنون أن الاختلاف رحمة، وأن الإنسان مخير بين أن يأخذ بهذا القول أو بهذا القول، أو بذاك أو بذاك؟ وكثير منهم يُصرحون بأن المذاهب الأربعة كشرائع أربع، فلكل شريعة وزنها، والإنسان مخير أن يأخذ بهذا أو بهذا أو بهذا، فأين ذهبوا بقول الله تبارك وتعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]؟

فهذا الاختلاف مرفوض مردود مخالف للكتاب والسنة؛ لأنه اختلاف لا يرد إلى الكتاب والسنة كما في الآية السابقة فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فالرضا بهذا التنازع خلاف الكتاب والسنة.

وهناك اختلافٌ لا بد منه، وسببه اختلاف نسبة العلم والفهم من زيد إلى عمرو؛ فلهذه الأسباب التي لا إمكان للإنسان أن ينجو منها وقع شيء من الخلاف بين الصحابة في فهمهم لبعض النصوص، ولكنهم إذا ما نُقِل إليهم أو عرض عليهم قول الله أو قول رسول الله، كان موقفهم كما قال تعالى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]، هذا هو الفرق بين المهتدين وبين الضالين، الذين يرضون بالخلاف وهم مأمورون برفع الخلاف ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

الفرق بين الاختلاف الجائز والمذموم

نحن بحاجة إلى التنبيه ألا يتعصب كل منا لرأيه في فهم نص من كتاب الله، أو حديث رسول الله، تعصباً يؤدي بنا إلى شيء من التنازع والتنافر، وقد يؤدي هذا بعد ذلك إلى التدابر وإلى التباغض، وهذا كله منهي عنه.

فإذاً: نستطيع أن نقول باختصار: إن الفرق بين الاختلاف الجائز والاختلاف المحرم، يظهر من بقاء هؤلاء المختلفين على وحدتهم وعلى تناصحهم وتوادهم، أو خرجوا من ذلك إلى التناحر وإلى التباغض، فهذا ما أردت التنبيه عليه فيما إذا وقع الخلاف بين بعضنا بعضاً في مسألة ما فينبغي أن نتسامح.

وأنا أُذكِّر بكلمة لبعض الدعاة الإسلاميين فيها شيء من هذا المعنى، ولكن يمكن تفسيرها بشيء يخالف بعض التوجيه السابق، تلك الكلمة تقول: نتعاون على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. هذا الكلام يمكن تفسيره تفسيراً صحيحاً، ويمكن تفسيره تفسيراً أعوجاً، وهذا التفسير الأعوج هو الذي يطبقه المنتمون إلى قائل هذه الكلمة؛ لأنهم ينتهون إلى الرضا بالاختلاف وترك السعي للقضاء عليه بقدر الإمكان؛ ولذلك تجدهم يجتمعون ويعيش بعضهم مع بعض على أشد الاختلاف في قلوبهم.. هذا حنفي، وهذا شافعي، وذاك مالكي، وآخر حنبلي، ومع ذلك فهم جماعة واحدة -زعموا- وهذا ماتريدي، وهذا أشعري، وذاك سلفي، ومع ذلك جماعتهم جماعة واحدة، كيف كان هذا؟

كان هذا لأنهم تبنوا هذا التوجيه (يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) هذا لا يجوز في الإسلام؛ لأنه يجب على المسلمين أن يتناصحوا، ولا شك أن التكتل والتجمع مما أمر الله به ورسوله، لكن يجب أن يكون التكتل على أساس الإسلام وعلى أساس النصيحة، وقد قال عليه السلام كما تعلمون: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم).

فإذا عشت أنا معك عشرين سنة ولم تنصحني، وأنا -مثلاً- ماتريدي وأنت أشعري وآخر سلفي، فهذا ليس من الإسلام في شيء إطلاقاً.

وأنا في الواقع أشعر أن هذه الجملة الأخيرة: (ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) أننا نحن السلفيين بحاجة إلى هذا التوجيه مع القيد السابق: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه بعد التعاون والتناصح، ومحاولة إقناع كلٌ منا الآخر بالوجهة والصواب الذي يراه، أما أن يترك بعضنا بعضاً على خطئه وعلى ضلاله؛ وقد يكون ضلاله كفراً؛ فهذا ليس من الإسلام في شيء إطلاقاً.

ولهذا نقول: الصواب ما بين الإفراط وما بين التفريط: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143] فالوسط هو التمسك بالكتاب والسنة، والسلف الصالح تمسكوا بالكتاب والسنة، فكان يجادل بعضهم بعضاً، ويناظر بعضهم بعضاً، وذلك من باب التناصح في أقل مسألة، ولا يرضون بالواقع ولو كان خطأً، بل كان بعضهم يصدع بالحق صدعاً يكاد كثيرون منا اليوم لا يتحملونه؛ والسبب في ذلك أننا نشأنا على المداراة، وهي في الحقيقة المداهنة والنفاق بعينه.

ولعلكم تذكرون كلمة ابن عمر لما جاءه رجل وقال لـه: [يا عبد الله ! إني أحبك في الله، قال: أما أنا فأبغضك في الله. قال: كيف؟ قال: لأنك تلحن في أذانك وتأخذ عليه أجراً] هذا النوع من النصح اليوم لا نكاد نراه إلا نادراً ونادراً جداً، بل لو رُئي هذا النوع لنسب صاحبه إلى القسوة وإلى الشدة وإلى ترك الحكمة.

كذلك تعرفون حديث ابن عمر نفسه، حينما حدث أمام جمع وفيهم أحد أولاده بما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (ائذنوا للنساء بالخروج إلى المساجد بالليل) أو نحو هذا الحديث، فقال ابن له: والله لا نأذن لهن. فما كان منه إلا أن هدده وقال له: [أقول لك: قال رسول الله كذا وكذا وتقول: لا نأذن لهن؟ والله لا كلمتك أبداً] فمات الولد وأبوه مقاطع له.. هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كاد أن يكون نسياً منسياً، فهذا التناصح يجب ألا ننساه، وبه يمكن القضاء على القسم الأكبر من الاختلاف الذي ورثناه في هذه القرون الطويلة المديدة.

أما أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه على الإطلاق؛ فهذا ليس من الإسلام في شيء. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من المهتدين الهادين المعتدلين السالكين على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.




استمع المزيد من الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - عنوان الحلقة اسٌتمع
السياسة الشرعية 3285 استماع
التعامل مع الجن 3276 استماع
فرصة استئناف الحياة الإسلامية 3169 استماع
مسائل أبى الحسن الدعوية (1) 3109 استماع
السنة والبدعة والشبهات 3084 استماع
لباس البنطال فى الصلاة 3077 استماع
فقة الصلاة وتحنيط الطيور 2930 استماع
المرأة التي أبكت الشيخ الألباني 2919 استماع
كيفية تلقي العقيدة 2902 استماع
أسئلة الإمارات 2897 استماع