أسباب تحصيل السعادة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

فشكر الله للإخوة القائمين على هذه المراكز جهودهم الكبيرة المحمودة في توجيه الشباب، وشغل أوقات فراغهم، فيما يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير العميم، وإن هذه الجهود لتستحق الإشادة والثناء، ونسأل الله عز وجل أن يجزيهم عنها خير الجزاء، وأن يشد على أعوادهم، ويقوي عزائمهم، ويهبنا وإياهم الصبر والثبات، إنه على كل شيء قدير.

البحث عن السعادة

إنك -أيها المسلم- حين تتلفت حولك في هذه الدنيا، فتجد جموعاً غفيرةً من الناس، مختلفةً ألوانهم وأشكالهم وأديانهم وأخلاقهم وأجناسهم، وتجد هذه الجموع الغفيرة كلها تكدح في الحياة كدحاً، وتسعى فيها سعياً حثيثاً.

تقف لتسائل نفسك: عن أي شيء يبحث هؤلاء؟

وماذا يريدون؟

وأي غاية يقصدون؟

تقف لتتأمل فتجد أغراضهم شتى، ومقاصدهم مختلفة متباينة، وهنا تقف لتسأل نفسك سؤالاً آخر: هل توجد غاية أو هدف محدد معين يتفق الناس كلهم، أولهم وآخرهم على البحث عنه والرغبة فيه والحرص على تحصيله؟ هل يوجد هدف معين يتفق عليه هؤلاء الكادحون جميعاً على البحث عنه؟

الجواب: إنه لا يوجد هدفٌ يسعى الناس جميعاً في تحصيله إلا هدفٌ واحد، وهو السعي لطرد الهموم عن قلوبهم، وتحصيل ما يسمونه: بالسعادة.

أما ما عدا ذلك من الأغراض مهما تكن فإن الناس لا يتفقون على طلبها، فإن من الناس -مثلاً- من لا يسعى في العمل للآخرة وطلب مرضات الله عز وجل؛ لأنه غير مؤمن وغير مسلم وغير مستعدٍ ليوم المعاد، ولا راغبٍ في رضوان الله تعالى، ومثل هذا لا يعمل للآخرة.

وهناك من الناس من لا يرغب في تحصيل العلم، وهم عامة العوام الموجودون في زمانك هذا وفي كل زمان، لا يشعرون بقيمة العلم، ولا يرغبون في تحصيله.

ومن الناس من لا يرغب في المال، وذلك كالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم لا رغبة لهم في الأموال، زاهدون فيها معرضون عنها، ومن الناس من لا يرغب في الشهوات الدنيوية المحضة، وهكذا.. كل مطالب الدنيا التي يركض البشر خلفها، يتفاوتون فيها، فيسعى بعضهم إليها، وبعضهم الآخر لا يسعى إليها، ولا يرغب في تحصيلها، إلا أن هناك مطلباً واحداً يتفق الجميع على أنه مطلب محمود، بل ويسعون إليه بكل ما أوتوا من الوسائل، هذا المطلب هو: الحرص على دفع الهموم والغموم عن قلوبهم، أو بعبارة أخرى: الحرص على تحصيل السعادة.

والسعادة كما يعرفها علماء اللغة هي: أصل يدل على الخير والسرور، وهي: ضد الشقاوة، وخلاف النحس.

نظرة خاطئة في طريق السعادة

أيها الإخوة: إذا عرفنا جميعاً أن الناس يتفقون في البحث عن السعادة، فإننا يجب أن نعرف أيضاً أن كثيراً منهم يخطئون طريقها، فالفقير يحسب السعادة في الغنى، فيسعى لجمع المال بكل وسيلة، والمريض يحسب السعادة في الصحة والعافية فيسعى إلى نيلهما وتحصيلهما، والضعيف يظن السعادة في القوة، والشخص الخامل المغمور يظن السعادة في الجاه والشهرة، والمخفق يظن السعادة في النجاح، وهكذا.. يظن كثيرٌ من الناس أن السعادة في تحصيل المطالب التي طويت عنهم، وحرموا نيلها وتحصيلها، فيسعون إلى نيل هذه المطالب بكل وسيلة.

وأنت إذا نظرت إلى هذه الأشياء التي يسعى الناس إلى نيلها وتحصيلها؛ وجدت أنها في الحقيقة لا توصلهم إلى نبيل السعادة؛ لأن السعادة كما سبق هي: طرد الهم والغم عن القلب، وطلب هذه الأشياء -من المال، أو الجاه، أو الشهرة، أو المنصب، أو الصحة، أو النجاح- بمجردها ولذاتها لا لغيرها، لا يزيل الهم عن القلب، وإن تخيله بعض الناس كذلك، بل إن طلب هذه الأشياء ونيلها؛ يجر إلى الإنسان آلاماً وهموماً كثيرةً، فيا ترى ما هذه الآلام والهموم والغموم، التي يجرها سعي الإنسان لتحصيل هذه الأعراض الظاهرة من مالٍ، أو جاهٍ، أو صيتٍ، أو غيرها؟!

أولاً: يصيب الإنسان الهم والغم، بعدم تحصيله لكل ما يريد، فكم من إنسان سعى سعياً حثيثاً لنيل المال -مثلاً- فأخفق في ذلك، وكانت نتيجة سعيه أن أثقلت كاهله الديون الكثيرة.

إذاً فقد يصيب الإنسان الهمُّ، بحرمانه من هذه الأشياء التي يسعى في تحصيلها، أو من بعضها، وقد يصيبه الهم من خوفه من زوالها بعد الحصول عليها، فكم من إنسان جاءته الدنيا وأقبلت عليه، فتجده مع ذلك قلقاً خائفاً أن ترتحل عنه هذه الأعراض، وأن تزول عنه بين عشيةٍ وضحاها، ولذلك كان كثيرٌ من المتشائمين، وإن أقبلت عليهم الدنيا، فإن قائلهم يقول:

يا راقد الليل مسروراً بأوله     إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً

فحتى والإنسان يتمتع بهذه الأعراض، فإن الهم يأتي إلى قلبه من خوف زوالها، ثم إن هذه الأعراض قد تزول -فعلاً- بعدما حصل عليها الإنسان، فيبقى الهم لا يغادر قلبه، وكلنا يعرف كم من غنيٍ افتقر بعد غنى، وكم من حاكم دانت له الرقاب، وذلت له الرءوس، فإذا هو بين عشية وضحاها شريداً طريداً، وكلكم يذكر -مثلاً- قصة حاكم إيران، الطاغية المتجبر، الذي كان يحلم بإقامة امبراطوريةٍ عظمى، فإذا به بين عشيةٍ وضحاها يخسر عرشه، ويخرج طريداً من بلاده، ويهرب من بلدٍ إلى آخر لا يأمن على نفسه، ولا على ماله أو ولده، ثم يموت شرَّ ميتة بالصورة التي يعرفها الجميع.

إذاً: فهناك همٌ ثالث يصيب الإنسان، وهو: زوال هذه الأعراض بعد حصوله عليها.

وهناك هم رابع يصيب من نالته أو من نال هذه الأعراض، وهو: أن يخشى أن يزول هو عنها، فإن هذه الأعراض إن لم ترتحل عنك، فإنك سوف ترتحل عنها بالموت لا محالة، ولذلك فالموت سيفٌ مصلتٌ على رقاب الجبارين، لأنه لا أحد مطلقاً يطمع في النجاة منه والخلود أبداً، وهذا همٌ لا يغادر قلوبهم أبداً.

الهم الخامس الذي يصيبهم؛ هو: ما يغشى قلوبهم ويعتريها، حين يرون من يفوقهم في هذه الأعراض، فالغني إذا رأى من هو أغنى منه اكتأب، والحاكم إذا رأى من هو أكثر منه في رقعة البلاد التي يحكمها، أو عدد البشر، أو غير ذلك اكتأب، والقوي إذا رأى من هو أقوى منه اكتأب، وهكذا...

الهم السادس: هو ما يصيب قلوب هؤلاء الذين حصلوا على بعض الأعراض الدنيوية، مما يسمعونه من ذم الناس لهم، وعيبهم لهم، فأنتم تعرفون -مثلاً- أن هناك أغنياء يملكون الأموال الطائلة، ثم تجدون كثيراً من الناس يتكلم فيهم، وينال منهم بأي صورةٍ من الصور، فالإنسان الذي يملك الغيرة الدينية، يقول: تعساً لهؤلاء الأغنياء، ما أغنى عنهم مالهم، إن هذه الأموال يعذبون بها في الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كارهون، ويعذبون بها في قبورهم وآخرتهم، والإنسان الذي يحس بالغيرة الوطنية يقول: تباً لهؤلاء الأغنياء، إنهم تنكروا لأوطانهم وبلدانهم، فأصبحوا ينفقون الأموال الطائلة في بلاد أوروبا وغيرها، ولا تستفيد منهم بلدانهم التي ينتسبون إليها، وأقاربهم يقولون: ليس لنا إلا الاسم، أما غير ذلك فلم ننتفع منهم وهكذا.. فيشقى هؤلاء الأغنياء، بالذم الذي يسمعونه على ألسنة الناس.

وأخيراً يشقى هؤلاء كلهم أو معظمهم بما يعرفونه من العذاب الذي أعده الله عز وجل لمن استعمل هذه الأعراض في غير مرضاته، فسواء آمنوا بهذا العذاب المنتظر لأمثالهم إيماناً حقيقياً، أو ظنوا أنه سيصيبهم، أو خافوا، ففي جميع هذه الحالات هم يعذبون بالوعيد الذي ذكره الله عز وجل في كتابه لأمثالهم.

لذلك كله، فإن الإنسان يخطئ حين يعتقد أن السعادة، وطرد الهم والغم عن قلبه، يكون بتحصيل الأعراض الدنيوية، وتحصيل المال، والسمعة والصيت والجاه، أو بتحصيل المركز والوظيفة، أو القوة، أو بتحصيل الشهادة الدراسية، أو الشهوة الحيوانية، يخطئ الإنسان طريق السعادة حين يقضي عمره وأيامه في البحث عن هذه الأعراض الزائلة، وحينئذٍ يسأل الإنسان: وهل هناك سعادةٌ أو لذةٌ يشعر بها الإنسان غير هذه السعادة؟

إنك -أيها المسلم- حين تتلفت حولك في هذه الدنيا، فتجد جموعاً غفيرةً من الناس، مختلفةً ألوانهم وأشكالهم وأديانهم وأخلاقهم وأجناسهم، وتجد هذه الجموع الغفيرة كلها تكدح في الحياة كدحاً، وتسعى فيها سعياً حثيثاً.

تقف لتسائل نفسك: عن أي شيء يبحث هؤلاء؟

وماذا يريدون؟

وأي غاية يقصدون؟

تقف لتتأمل فتجد أغراضهم شتى، ومقاصدهم مختلفة متباينة، وهنا تقف لتسأل نفسك سؤالاً آخر: هل توجد غاية أو هدف محدد معين يتفق الناس كلهم، أولهم وآخرهم على البحث عنه والرغبة فيه والحرص على تحصيله؟ هل يوجد هدف معين يتفق عليه هؤلاء الكادحون جميعاً على البحث عنه؟

الجواب: إنه لا يوجد هدفٌ يسعى الناس جميعاً في تحصيله إلا هدفٌ واحد، وهو السعي لطرد الهموم عن قلوبهم، وتحصيل ما يسمونه: بالسعادة.

أما ما عدا ذلك من الأغراض مهما تكن فإن الناس لا يتفقون على طلبها، فإن من الناس -مثلاً- من لا يسعى في العمل للآخرة وطلب مرضات الله عز وجل؛ لأنه غير مؤمن وغير مسلم وغير مستعدٍ ليوم المعاد، ولا راغبٍ في رضوان الله تعالى، ومثل هذا لا يعمل للآخرة.

وهناك من الناس من لا يرغب في تحصيل العلم، وهم عامة العوام الموجودون في زمانك هذا وفي كل زمان، لا يشعرون بقيمة العلم، ولا يرغبون في تحصيله.

ومن الناس من لا يرغب في المال، وذلك كالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم لا رغبة لهم في الأموال، زاهدون فيها معرضون عنها، ومن الناس من لا يرغب في الشهوات الدنيوية المحضة، وهكذا.. كل مطالب الدنيا التي يركض البشر خلفها، يتفاوتون فيها، فيسعى بعضهم إليها، وبعضهم الآخر لا يسعى إليها، ولا يرغب في تحصيلها، إلا أن هناك مطلباً واحداً يتفق الجميع على أنه مطلب محمود، بل ويسعون إليه بكل ما أوتوا من الوسائل، هذا المطلب هو: الحرص على دفع الهموم والغموم عن قلوبهم، أو بعبارة أخرى: الحرص على تحصيل السعادة.

والسعادة كما يعرفها علماء اللغة هي: أصل يدل على الخير والسرور، وهي: ضد الشقاوة، وخلاف النحس.

أيها الإخوة: إذا عرفنا جميعاً أن الناس يتفقون في البحث عن السعادة، فإننا يجب أن نعرف أيضاً أن كثيراً منهم يخطئون طريقها، فالفقير يحسب السعادة في الغنى، فيسعى لجمع المال بكل وسيلة، والمريض يحسب السعادة في الصحة والعافية فيسعى إلى نيلهما وتحصيلهما، والضعيف يظن السعادة في القوة، والشخص الخامل المغمور يظن السعادة في الجاه والشهرة، والمخفق يظن السعادة في النجاح، وهكذا.. يظن كثيرٌ من الناس أن السعادة في تحصيل المطالب التي طويت عنهم، وحرموا نيلها وتحصيلها، فيسعون إلى نيل هذه المطالب بكل وسيلة.

وأنت إذا نظرت إلى هذه الأشياء التي يسعى الناس إلى نيلها وتحصيلها؛ وجدت أنها في الحقيقة لا توصلهم إلى نبيل السعادة؛ لأن السعادة كما سبق هي: طرد الهم والغم عن القلب، وطلب هذه الأشياء -من المال، أو الجاه، أو الشهرة، أو المنصب، أو الصحة، أو النجاح- بمجردها ولذاتها لا لغيرها، لا يزيل الهم عن القلب، وإن تخيله بعض الناس كذلك، بل إن طلب هذه الأشياء ونيلها؛ يجر إلى الإنسان آلاماً وهموماً كثيرةً، فيا ترى ما هذه الآلام والهموم والغموم، التي يجرها سعي الإنسان لتحصيل هذه الأعراض الظاهرة من مالٍ، أو جاهٍ، أو صيتٍ، أو غيرها؟!

أولاً: يصيب الإنسان الهم والغم، بعدم تحصيله لكل ما يريد، فكم من إنسان سعى سعياً حثيثاً لنيل المال -مثلاً- فأخفق في ذلك، وكانت نتيجة سعيه أن أثقلت كاهله الديون الكثيرة.

إذاً فقد يصيب الإنسان الهمُّ، بحرمانه من هذه الأشياء التي يسعى في تحصيلها، أو من بعضها، وقد يصيبه الهم من خوفه من زوالها بعد الحصول عليها، فكم من إنسان جاءته الدنيا وأقبلت عليه، فتجده مع ذلك قلقاً خائفاً أن ترتحل عنه هذه الأعراض، وأن تزول عنه بين عشيةٍ وضحاها، ولذلك كان كثيرٌ من المتشائمين، وإن أقبلت عليهم الدنيا، فإن قائلهم يقول:

يا راقد الليل مسروراً بأوله     إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً

فحتى والإنسان يتمتع بهذه الأعراض، فإن الهم يأتي إلى قلبه من خوف زوالها، ثم إن هذه الأعراض قد تزول -فعلاً- بعدما حصل عليها الإنسان، فيبقى الهم لا يغادر قلبه، وكلنا يعرف كم من غنيٍ افتقر بعد غنى، وكم من حاكم دانت له الرقاب، وذلت له الرءوس، فإذا هو بين عشية وضحاها شريداً طريداً، وكلكم يذكر -مثلاً- قصة حاكم إيران، الطاغية المتجبر، الذي كان يحلم بإقامة امبراطوريةٍ عظمى، فإذا به بين عشيةٍ وضحاها يخسر عرشه، ويخرج طريداً من بلاده، ويهرب من بلدٍ إلى آخر لا يأمن على نفسه، ولا على ماله أو ولده، ثم يموت شرَّ ميتة بالصورة التي يعرفها الجميع.

إذاً: فهناك همٌ ثالث يصيب الإنسان، وهو: زوال هذه الأعراض بعد حصوله عليها.

وهناك هم رابع يصيب من نالته أو من نال هذه الأعراض، وهو: أن يخشى أن يزول هو عنها، فإن هذه الأعراض إن لم ترتحل عنك، فإنك سوف ترتحل عنها بالموت لا محالة، ولذلك فالموت سيفٌ مصلتٌ على رقاب الجبارين، لأنه لا أحد مطلقاً يطمع في النجاة منه والخلود أبداً، وهذا همٌ لا يغادر قلوبهم أبداً.

الهم الخامس الذي يصيبهم؛ هو: ما يغشى قلوبهم ويعتريها، حين يرون من يفوقهم في هذه الأعراض، فالغني إذا رأى من هو أغنى منه اكتأب، والحاكم إذا رأى من هو أكثر منه في رقعة البلاد التي يحكمها، أو عدد البشر، أو غير ذلك اكتأب، والقوي إذا رأى من هو أقوى منه اكتأب، وهكذا...

الهم السادس: هو ما يصيب قلوب هؤلاء الذين حصلوا على بعض الأعراض الدنيوية، مما يسمعونه من ذم الناس لهم، وعيبهم لهم، فأنتم تعرفون -مثلاً- أن هناك أغنياء يملكون الأموال الطائلة، ثم تجدون كثيراً من الناس يتكلم فيهم، وينال منهم بأي صورةٍ من الصور، فالإنسان الذي يملك الغيرة الدينية، يقول: تعساً لهؤلاء الأغنياء، ما أغنى عنهم مالهم، إن هذه الأموال يعذبون بها في الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كارهون، ويعذبون بها في قبورهم وآخرتهم، والإنسان الذي يحس بالغيرة الوطنية يقول: تباً لهؤلاء الأغنياء، إنهم تنكروا لأوطانهم وبلدانهم، فأصبحوا ينفقون الأموال الطائلة في بلاد أوروبا وغيرها، ولا تستفيد منهم بلدانهم التي ينتسبون إليها، وأقاربهم يقولون: ليس لنا إلا الاسم، أما غير ذلك فلم ننتفع منهم وهكذا.. فيشقى هؤلاء الأغنياء، بالذم الذي يسمعونه على ألسنة الناس.

وأخيراً يشقى هؤلاء كلهم أو معظمهم بما يعرفونه من العذاب الذي أعده الله عز وجل لمن استعمل هذه الأعراض في غير مرضاته، فسواء آمنوا بهذا العذاب المنتظر لأمثالهم إيماناً حقيقياً، أو ظنوا أنه سيصيبهم، أو خافوا، ففي جميع هذه الحالات هم يعذبون بالوعيد الذي ذكره الله عز وجل في كتابه لأمثالهم.

لذلك كله، فإن الإنسان يخطئ حين يعتقد أن السعادة، وطرد الهم والغم عن قلبه، يكون بتحصيل الأعراض الدنيوية، وتحصيل المال، والسمعة والصيت والجاه، أو بتحصيل المركز والوظيفة، أو القوة، أو بتحصيل الشهادة الدراسية، أو الشهوة الحيوانية، يخطئ الإنسان طريق السعادة حين يقضي عمره وأيامه في البحث عن هذه الأعراض الزائلة، وحينئذٍ يسأل الإنسان: وهل هناك سعادةٌ أو لذةٌ يشعر بها الإنسان غير هذه السعادة؟

لقد ذكر شيخ الكاتبين في مصر الأديب المشهور/ مصطفى المنفلوطي، في كتابه الذي سماه"بـالنبرات" قصة سماها "قصة الصياد" وخلاصة هذه القصة: أن أحد أصدقائه قال: إن رجلاً قرع عليه الباب، فخرج فإذا هو بصياد ممن يصيدون السمك، وإذا معه سمكةٌ كبيرة، وقال له -بعد أن سلم عليه وحياه- أتشتري مني هذه السمكة؟

قال: فلم أساومه عليها بل سألته مباشرةً: كم تريد عليها؟

فقال: أريد عليها كذا وكذا.

قال: فنقدته الثمن حالاً، فارتاح الصياد لهذا، وشكرني ودعا لي، وقال لي -وقد رأى علي مظهر الغنى والثرى.

قال: جعلك الله سعيداً في نفسك كما جعلك سعيداً في مالك.

قال: فقلت له: أيها الصياد، وهل هناك سعادة غير سعادة المال؟

قال لي: أجل! إن سعادة المال لا قيمة لها، ما لم يكن الإنسان سعيداً في نفسه.

فقال له: وهل أدركت سعادة النفس؟

قال: نعم، إنني وأنا الرجل الفقير، أحس في قرارة قلبي بسعادة لا حدود لها.

قال: وكيف تشعر بالسعادة، وأنت ترى هؤلاء الأغنياء أصحاب الأموال الطائلة والقصور الفارهة والمراكب الفخمة؟

قال له الفقير البسيط: وأي شيءٍ أغنت عنهم هذه الأموال التي وجدوها، وهي لم تمنحهم السعادة التي يبحثون عنها، إن هذا مما يزهدني في المال، أنني أرى الذين حصلوا عليه هم أكثر الناس شقاءً به، يشقون في جمعه، ثم يشقون في المحافظة عليه، ويشقون في تنميته، ويشقون به في الدنيا والآخرة.

أما أنا -الصياد الفقير- فإني أجد لذةً في حياتي.. حياتي البسيطة.. البعيدة عن التكلف والتعقيد، بين أولادي وزوجي في هذا الكوخ المتواضع، ولا أشعر لأحدٍ بمنةٍ علي إلا لله عز وجل، فأتوجه إليه بالعبادة والشكر والتعظيم، وأتعرف عليه بأسمائه وصفاته، وأتقرب إليه بألوان العبادة بكرةً وعشياً. فتعجب هذا الرجل الغني من هذا المنطق القوي، الذي يتحلى به هذا الفقير.

أيها الإخوة: إنك حين تبحث عن السعادة الحقيقية تجد أنها شعورٌ في النفس والقلب، حيث ينفسح وينشرح فيشعر بالسعادة، حتى مع فقد جميع الأعراض الدنيوية، ويضيق القلب ويظلم، فيشعر بالقلق والشقاء، حتى مع وجدان جميع الأعراض الظاهرة الزائلة.

العمل لله عز وجل هو حقيقة السعادة

لذلك فإن السبيل الوحيد -إلى تحصيل السعادة، وإلى طرد الهموم- السالم من جميع المنغصات، هو: العمل لله عز وجل، والتوجه إليه تبارك وتعالى بكل النفس والقلب، والإعراض عن كل ما سواه من المخلوقين.

ولذلك فإن الإنسان الذي يعمل لله عز وجل يكون في سرور أبداً، فهو إذا حصل ما يعمل من أجله أصابه السرور، وإذا انتصر أصابه السرور، وإذا انهزم أو لم يحصل على ما يريد أو أخفق، فإنه لا يغتم لذلك؛ لأنه يعرف أن الأجر الذي وعده الله عز وجل مرتب على العمل وليس على النتيجة.

ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ما يصنع بي أعدائي، أنا جنتي وبستاني في صدري، حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة.

فالسعادة مستقرها القلب، ولا سبيل لهم على القلب، فإن سجنوه تفرغ للعبادة، وإن آذوه شعر بأن هذا الإيذاء في ذات الله، فوجد من سرور القلب ونعيمه بهذا الأذى ما لا يجده الناس الذين يظن أنهم سعداء يتقلبون على فرش الحرير والديباج، وإن نفوه من بلده شعر بأن هذه سياحة، وأقصى ما يفعلون به أن يقتلوه، وهذه شهادة يتمناها كل مسلم صادق، ويدعو الله عز وجل أن يبلغه منازل الشهداء، فيحتار أعداؤه فيه.

وها نحن أمام داعية من الدعاة المعاصرين يشرد من بلده ويطرد ويؤذى بألوان الأذى، فلا يأبه بما يصنع الأعداء وما يضعون أمامه من العراقيل، فيقول ضمن قصيدة طويلة:

ولو ملكت خياري والدنا عرضت     بكل إغرائها في فنها العجب

لما رأت غير إصراري على سنني      وعادها اليأس بعد الهدِ والنصبِ

قلبي خليٌ عن الدنيا ومطَّلبي     ربي فليس سراب العيش من أربي

ثم يقول وقد فقد كثيراً مما يجده الأغنياء والمترفون، وأخرج من بلده وتغرب، وفارق أهله وأصدقاءه، يقول بلسان المؤمن الصادق:

ربي لك الحمد لا أحصي الجميل إذا     نفثت يوماً شكاة القلب في كرب

فلا تؤاخذ إذا زل اللسان      وما شيء سوى الحمد في الضراء يجمل بي

لك الحياة كما ترضى      بشاشتها فيما تحب وإن باتت على عضبي

رضيت في حبك الأيام جائرةً      فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب

وهذا الشعور ليس شعوراً خاصاً بهذا الداعية، أو بذلك الإمام الجليل، بل هو شعورٌ وجده كل مسلم صادق، وهو يفقد ما يفقد من زخرف الدنيا، وجده محمد صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة، ووجده أصحابه وهم يطردون منها كل مطرد، ووجده المؤمنون في غزوة أحد وهم يهزمون , ووجده أصحاب الرجيع وهم يقتلون، ووجده كل مؤمنٍ يجد الأذى في ذات الله عز وجل فيعوض عما فقد من هذه الدنيا، بهذا السرور القلبي، الذي لا يمكن أن يوصف، وإنما عبر عنه هذا أو ذاك، عبروا عنه على لسان الجميع.

أعظم الناس شعوراً بالسعادة هم أكثرهم عملاً للآخرة

وأعظم الناس شعوراً بذلك، وإدراكاً لهذه السعادة هم أعظم الناس عملاً للآخرة، واستعداداً لها، وتضحيةً في سبيل الله عز وجل، ولذلك فإن للنبي صلى الله عليه وسلم من السعادة في الدنيا وفي الآخرة، أكملها وأزكاها وأوفاها، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4] أي: قد شرحنا لك صدرك، ووسعناه وطمأناه بالإيمان والعلم النافع والنبوة، وأعطاه الله عز وجل ما ذكره في هذه السورة، من الرفعة والنعيم في الدنيا والآخرة.

ولأتباع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الشرح والسعادة والنعيم في الدنيا والآخرة، بقدر كمال اتباعه له صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22] فمن شرح الله صدره للإسلام ووسعه للإيمان، فهو على نورٍ من ربه، يتحرك في هذه الحياة وهو يعرف لماذا جاء إلى هذه الدنيا؟

وكيف يقطع هذه الرحلة القصيرة عليها؟

وإلى أين سينتهي به المقام؟

وما هو مصيره في الآخرة؟

فيشعر بالأنس والسعادة، ويتلذذ بطاعة الله تعالى ومناجاته.

أما الكافر فهو على الضد من ذلك، يسمع الآيات القرآنية، ويسمع ذكر الله عز وجل فيزيد هذا قلبه قسوةً وجموداً، فقلوبهم قاسيةٌ من ذكر الله، و(من) هاهنا سببية، أي: قلوبهم قاسية بسبب ذكر الله عز وجل وهكذا الكافر لا يزيده الله تعالى إلا قسوةً في قلبه، وقد تكون (من) ابتدائية، فيكون المعنى: أن قلوبهم قاسية بسبب بعدها عن ذكر الله عز وجل فهي معرضةٌ غافلةٌ عن ذكر الله، وهاهنا تكون من للابتداء، ويقول الله عز وجل: ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مثلاً [الزمر:29].

فهذا الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون، هو مثلٌ للمشرك الذي يعبد آلهةً شتى، فيصبح قلبه متشعباً في الأودية والشعاب، هذا يأمره بأمر، وذاك يأمره بضده، أما المؤمن الموحد لله عز وجل فقلبه على وجهةٍ واحدة.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5135 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4179 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4053 استماع
وقفات مع سورة ق 3980 استماع
مقياس الربح والخسارة 3931 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3875 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3840 استماع