خطب ومحاضرات
اقتربت الساعة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:80-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! الشيء الذي لا بد ألا ننساه هو أننا في هذه الدنيا ضيوف، وأننا نعيش في هذه الحياة من أجل الاستعداد للحياة الباقية، فلا بد أن نعرف ونعي أن العمر مهما طال فهو قصير، وأن هذه الحياة مهما عظمت فهي حقيرة عند الله، فهي تساوي عند الله جناح بعوضة.
فلا بد أن نعرف -عباد الله- أن بعد هذه الحياة موتاً، كما قال الله جل في علاه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِِ [آل عمران:185].
عباد الله! لا بد أن نعرف أن بعد الموت قبراً، كما قال الله جل في علاه: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2].
ولا بد أن نعرف ونعي أن بعد القبر بعثاً، وهو إحياء الموتى يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم، كما قال سبحانه: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].
فإذا علمنا هذا كله فالمطلوب من الجميع هو ما ذكره الله جل في علاه بقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:8-9]، فاستعدوا عباد الله! واحرصوا على الخواتيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).
فعن أبي رزين العقيلي قال: (قلت: يا رسول الله! كيف يعيد الله الخلق؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي قومك جدباً، ثم مررت به يهتز خضراً؟ قلت: نعم. قال: فتلك آية الله في خلقه)، حديث صحيح؛ وهو موافق لنص التنزيل، قال سبحانه: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5-7].
عباد الله! لقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا، وفي سورة البقرة وحدها ذكر الله عزّ وجل خمسة أمثلة على ذلك:
المثال الأول: ما حكاه الله عز وجل عن قوم موسى عليه الصلاة والسلام حين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:55-56]، فأحياهم الله بعد أن أخذتهم الصاعقة.
المثال الثاني: في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل زمن موسى عليه الصلاة والسلام، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها؛ ليخبرهم بمن قتله، ففعلوا فأحياه الله، وأخبرهم بمن قتله، قال الله جل في علاه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:72-73].
المثال الثالث: في قصة القوم الذين قال الله عز وجل عنهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [البقرة:243]، قال وكيع في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي عن المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ، فلما كان بعد دهر مر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم، فأمره الله تعالى أن يقول: أيتها العظام البالية! إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً، فكان ذلك يحدث وهو يشاهد، ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياءً ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، فأحياهم وهم يقولون: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين.
فكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، لهذا قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي: لذو فضل على الناس فيما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة، والدلالات الدامغة، وقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم، وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء القوم خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعاً في آنٍ واحد.
المثال الرابع لإحياء الموتى: قصة الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال جل في علاه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]، واختلف المفسرون في هذا الذي مر، فقال علي : هو عزير، وهذا هو المشهور، وقيل: هو الخضر، وقيل: هو رجل من أهل الشام اسمه: حزقيل بن بوار ، وقال مجاهد : هو رجل من بني إسرائيل.
وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها.
وأما المثال الخامس: في قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين سأل الله أن يريه كيف يحيى الموتى، قال عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260].
فهذه خمس صور في كتاب الله في سورة البقرة أخبرنا فيها المولى عز وجل كيف يحيي الموتى.
إذا علمنا أن هناك بعثاً فاعلم -رعاك الله- أن هناك حشراً، وهو جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم، والقضاء بينهم، وسمي الله ذلك اليوم بيوم الجمع، قال جل شأنه: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9]، وقال سبحانه: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103]، وقال جل وعلا: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50]، فلا إله إلا الله ما أشد يوماً مثل هذا! فتأمل في قدرة الله التي تحيط بالعباد، فالله لا يعجزه شيء، وحيث هلك العباد فإن الله قادر على الإتيان بهم، فإن هلكوا في أجواء الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، أو أكلتهم الطيور الجارحة، أو افترستهم الحيوانات المفترسة، أو ابتلعتهم الحيتان في البحار، أو غيبوا في قبورهم في الأرض، فإن الله قادر على بعثهم، قال سبحانه: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:148].
وكما أن قدرة الله محيطة بعباده فيأتي بهم حيثما كانوا فكذلك علمه محيط بهم، فلا يتخلف منهم أحد ولا يضل منهم أحد، ولا يشذ منهم أحد، لقد أحصاهم خالقهم تبارك وتعالى وعدهم عداً، قال جل في علاه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95]، وقال سبحانه: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:47].
وأما القصد من الجمع فهو العرض والحساب، قال جل وعلا: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، وقال جل في علاه: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، وقال جل في علاه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
فلو أنا إذا متنا تركنا
لكان الموت راحة كل حي
ولكننا إذا متنا بعثنا
ونسأل بعده عن كل شيء
عباد الله! إنه العرض والحساب، قال عز وجل: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [إبراهيم:51].
عباد الله! أخبرنا ربنا جل وعلا عن مشهد الحساب والجزاء في يوم الحساب فقال: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الزمر:69]، فحسبك عبد الله! أن تعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكم العدل قيوم السماوات والأرض؛ ليتبين لك عظم هذا المشهد وجلالته ومهابته، ولعل هذا الإشراق المذكور في الآية إنما يكون عند مجيء الملك الجليل للقضاء بين العباد، قال سبحانه: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210]، وقال سبحانه: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي [الفجر:21-29]، ومجيء الله الله أعلم بكيفيته، وعلينا أن نؤمن به، ونعلم أنه حق ولا نؤوله ولا نحرفه ولا نكذب به.
والآية تنص أيضاً على مجيء الملائكة، فهو موقف جليل تحضره ملائكة الرحمن ومعها كتب الأعمال التي أحصت على الخلق أعمالهم، وتصرفاتهم وأقوالهم؛ ليكون ذلك حجة على العباد، وهو كتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها، قال سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
ويجاء في موقف القضاء والحساب بالرسل، ويسئلون عن الأمانة التي حملهم الله إياها وهي إبلاغ الوحي إلى من أرسلوا إليهم، فيشهدون على أقوامهم وما عملوه معهم، ويقوم الأشهاد في ذلك اليوم العظيم فيشهدون على الخلائق بما كان منهم، والأشهاد هم الملائكة الذين كانوا يسجلون على المرء أعماله، ويشهد أيضاً الأنبياء والعلماء، كما تشهد على العباد الأرض والسماء والأيام والليالي، كما في قول الجبار جل في علاه: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:1-5].
والله! إنه لحساب شديد ذلك الذي سيحاسب فيه الإنسان بالذرة، عباد الله! يؤتى بالعباد وقد عقد الحق تبارك وتعالى محكمته العظيمة لمحاكمتهم ويقامون صفوفاً للعرض عليه، ويؤتى بالمجرمين منهم وهم الذين كذبوا الرسل، وتمردوا على ربهم، واستعلوا في الأرض بغير الحق، يؤتى بهم مقرنين في الأصفاد، مسربلين بالقطران، كما قال سبحانه: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:49-50].
ولشدة الهول تجثو الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب لعظم ما يشاهدون وما هم فيه واقعون، قال سبحانه: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28-29].
يوم القيامة مشهد جليل عظيم نسأل الله أن ينجينا فيه بفضله ومنه وكرمه، فما معنى الحساب عباد الله؟! معنى الحساب: أن يُوقف الحق تبارك وتعالى عباده بين يديه، ويعرفهم بأعمالهم التي عملوها، وأقوالهم التي قالوها، وما كانوا عليه في الدنيا من إيمان وكفر، واستقامة وانحراف، وطاعة وعصيان، وما يستحقونه على ما قدموه من إثابة وعقوبة، ثم يُعطون الكتب إما بالأيمان إن كانوا صالحين، وإما بالشمال إن كانوا طالحين، ويشمل الحساب ما يقوله الجبار لعباده وما يقولونه له، وما يقيمه عليهم من حجج وبراهين، وشهادة الشهود، ووزن الأعمال.
وأما نوع الحساب عباد الله! فعسير ويسير، ومنه حساب التكريم والتوبيخ، ومنه الفضل والصفح والعفو، والذي يتولى ذلك كله هو أكرم الأكرمين وأسرع الحاسبين، وقيوم السماوات والأراضين.
وشعار محكمة ذلك اليوم: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]، (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فهو العدل سبحانه ولو عذب عباده جميعاً لم يكن ظالماً لهم؛ لأنهم عبيده وملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء.
أيا من ليس لي منه مجير
بعفوك من عذابك أستجير
أنا العبد المقر بكل ذنب
وأنت الواحد المولى الغفور
إن عذبتني فبسوء فعلي
وإن تغفر فأنت به جدير
أفر إليك منك وأين
إلا إليك يفر منك المستجير
ولكن الحق تبارك وتعالى يحاسبهم محاسبة عادلة تليق بمحكمته وعدله وعظمته وجلاله، وقد بين لنا سبحانه في كثير من النصوص جملة من القواعد التي تقوم عليها المحاكمة، فمنها: العدل التام الذي لا يشوبه الظلم، قال عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء:47].
ومن قواعد تلك المحكمة: أن الله لا يؤاخذ أحداً بجريرة أحد، قال سبحانه: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].
ومن تلك القواعد أيضاً: إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال، قال عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
ومن قواعد المحاكمة في ذلك اليوم: إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين والفجرة، قال عز وجل: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، وقال سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:24-25].
عباد الله! نفعنا الله بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! ومن تقوى الله الاستعداد للوقوف بين يدي الله جل في علاه، فعماذا سيكون السؤال في ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؟ فاسمع السؤال وأعد الجواب بارك الله فيك: عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول -أي: إلى الجنة أو إلى النار- قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم)، رواه الترمذي وقال الألباني : وإسناده حسن.
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:18-21].
فلا تظن أن الأمر سهل عبد الله! بل في ذلك اليوم يشتد غضب الجبار جل جلاله على من خلقه فعبد غيره، وعلى من رزقه فشكر غيره، وعلى من أسبغ عليه النعم ثم عصاه.
عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر وهو يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر في قول الله تبارك وتعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، قال صلى الله عليه وسلم: (يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها ويقول: أنا الملك)، قال ابن عمر : (والله! كأني أنظر إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عليه، وأنا أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
فتأمل حال العصاة والمجرمين في ذلك اليوم يوم يشتد غضب الجبار جل في علاه، قال سبحانه: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24]، فهم يطلبون رضاء ربهم فلا يستجاب لهم.
فتأمل عبد الله! موقفك غداً بين يدي العزيز القهار، والله! إنها ساعة لا يخفى على المقيمين رهبتها، ولا على المتقين شدتها، فاللهم يسر ختامنا! ويمن كتابنا، وثقل موازيننا، وزحزحنا عن النار، وأدخلنا الجنة يا عزيز يا غفار!
تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً
مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
النار تزفر من غيض ومن حنق
على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل
فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
فلما قرأت ولم تنكر قراءته
وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل: خذوه يا ملائكتي
وامضوا بعبدي إلى النيران عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا
والمؤمنون بدار الخلد سكانا
قال سبحانه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108]، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق.
وقال ابن أدهم :كل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة عمله، فإذا مات طويت، وإذا بعث نشرت، وقيل له : اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
قال ابن عباس رضي الله عنه: معنى طائره: أي: عمله.
وقوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا قال الحسن : يقرأ الإنسان الكتاب أمياً كان أو غير أمي، يعرف القراءة أو لا يعرفها، ينطق ويقرأ في ذلك اليوم.
فتخيل نفسك إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رءوس الخلائق: أين فلان ابن فلان؟ فاستعد للوقوف بين يدي الله، وهلم إلى العرض على الله، وقد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسم أبيك، فإذا عرفت أنك المراد بالدعاء، وإذا قرع النداء قلبك علمت أنك المطلوب فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك، وتخطي بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم، وأنت في أيدي الملائكة قد صار قلبك ممتلئاً رعباً؛ لعلمك أين يراد بك.
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري .
فتخيل عبد الله! نفسك واقفاً بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبئة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر حسير، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها؟ وكم من سيئة كنت قد أخطيتها قد أظهرها وأبداها؟ وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص لك فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً؟ فيا حسرة قلبك! ويا أسفك على ما فرطت في طاعة ربك!
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله! أليس قد قال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7-8]، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ! إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)، متفق عليه.
ثم يبدأ الحساب، وتكشف الحقائق، وتظهر الفضائح، فتذكر عبد الله أنك بين يدي الله موقوف، وأنك ستكلمه ليس بينك وبينه ترجمان، وستقف وستسأل عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير، فتسأل عن العمر، وعن الشباب، وعن المال، وعن كل نظرة، وكل كلمة قلتها، قال عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، فستسأل عن كل صلاة تخلفت عنها، وهل حفظت الصوم والزكاة أم لا؟ وهل أمرت بالمعروف ونهيت المنكر ودافعت عن أعراض المسلمين أم لا؟ وستسأل عن حقوق وواجبات وأوامر ومنهيات، فمن العباد من يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساباً عسيراً، ويدعو ثبوراً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن منه يوم القيامة فيضع عليه كنفه -أي: يضع عليه ستره- فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أي نعم رب! أعرف، حتى يقرره بذنوبه، حتى إذا رأى العبد أنه قد هلك قال أرحم الراحمين: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، فهذا هو الحساب اليسير).
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]!
عباد الله! حاسبوا أنفسكم واستعدوا للعرض أمام الله جل في علاه، فإلى متى الغفلة -عباد الله- ومنادي الله يناديكم: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]؟! واعلم رعاك الله أنه عند ساعة الموت لا عثرة تقال، ولا توبة تنال، كان خليد العصري يقول: كلنا أيقن بالموت وما نرى له مستعداً، وكلنا أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً!
فإلى متى الغفلة عبد الله؟! وأين ندمك على ذنوبك؟ وأين حزنك على عيوبك؟ إلى متى تؤذي بالذنب نفسك؟ وتضيع يومك كما ضيعت أمسك؟ فلا مع الصادقين لك قدم، ولا مع التائبين لك ندم، فهلا بسطت يداً سائلة؟ وهلا أجريت دموعاً سائلة؟ فانتبه قبل أن تنادي: رباه! ارجعون فيقال: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون).
فانتبه قبل أن توقف أمام الله للعرض، فتقول: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].
مر الحسن البصري على أقوام يضحكون فقال: هل مررتم على الصراط؟ قالوا: لا، قال: أتدرون إلى الجنة يؤخذ بكم أم إلى النار؟ قالوا: لا، قال: فعلامَ الضحك؟! لا على الصراط مررتم، ولا إلى الجنة تؤخذون، ولا من النار تنجون فكيف تضحكون؟!
فاتقوا الله عباد الله! واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، وأدوا الحقوق، وتحللوا من بعضكم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، فأخلصوا أعمالكم لله، وحافظوا على الصلوات، وانتهوا عن الفواحش والمنكرات، وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً.
اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً قبل الموت، وشهادة عند الموت، ورحمة بعد الموت يا رب العالمين!
اللهم استر في ذلك اليوم عوراتنا، وأمن فيه روعاتنا، وثقل فيه موازيننا، وزحزحنا فيه عن النار، وأدخلنا فيه الجنة يا رب العالمين!
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً يا رب العالمين!
اللهم ارحم الشيب، وبارك في أعمارهم يا رب العالمين!
اللهم احفظ نساءنا وأطفالنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء دينك، وانصر من نصرهم واخذل من خذلهم، اللهم صن أعراضهم واحقن دماءهم، وتقبل شهداءهم، وفك أسرانا وأسراهم.
اللهم اكبت عدوك وعدونا من يهود ونصارى وحاقدين، وافضح المنافقين والمعتدين يا عليم يا خبير يا قوي يا عزيز!
اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين أذلة صاغرين يا قوي يا عزيز!
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
انها النار | 3545 استماع |
بر الوالدين | 3429 استماع |
أحوال العابدات | 3413 استماع |
يأجوج ومأجوج | 3350 استماع |
البداية والنهاية | 3337 استماع |
وقت وأخ وخمر وأخت | 3272 استماع |
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب | 3256 استماع |
أين دارك غداً | 3207 استماع |
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان | 3099 استماع |
أين أنتن من هؤلاء؟ | 3098 استماع |