خطب ومحاضرات
ولا تهنوا ولا تحزنوا
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الخير خطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا ربنا أولى بذا كرماً شبنا على الرق فاعتقنا من النار
قال جل في علاه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
فأمتكم هي خير أمة أخرجت للناس، وقد تكفل الله ألا تهزم هذه الأمة ولا تغلب، وأنها ظاهرة على الأمم كلها ما ابتغت إلى الله سبيلاً، وما سارت على طريق نبيها وطريق أصحابه، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا على خطاهم سائرين.
عنوان هذا اللقاء هو: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] أي: بشرط أن تحققوا الإيمان بالله رب العالمين، ولذا قال: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
فبالإيمان تنال العزة والنصر والتمكين، وبالإيمان يكون الثبات، وبالإيمان تنال ولاية الله جل في علاه، فلا عزة إلا بالإيمان، وحيث لا يوجد الإيمان فلا مكان للعزة.
وقد واسى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذه الآية الكريمة فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمران:1439-140] أي: يوم أحد، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140] أي: في يوم بدر، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] لحكمة إلهية ربانية عظيمة، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:140-142]، فلا تظن أن الجنة رخيصة، بل الجنة غالية، وطريقها صعب وشاق، فمن أرادها فليقدم الثمن.
حكمة الله من هزيمة المسلمين يوم أحد
تمييز الخبيث من الطيب، فما أكثر الذين ينتمون إلى الصف حين الانتصار! فيوم أن انتصر المسلمون في بدر التحق بالصف من ليس منهم، فهؤلاء يعرفون حين تنقلب الموازين.
ثم إن الله أعد للمؤمنين في جنات النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولن يصلوا إلى ذلك إلا بالامتحان والابتلاء العظيم، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
ثم من حِكَم الله جلَّ في علاه فيما حدث في ذلك اليوم العظيم: أن يبين للأمة من أقصاها إلى أدناها أن النصر ليس بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144-145].
ثم بين أن هذه سنة لا تتغير ولا تتبدل فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].
وعبودية الله لا بد أن تكون في السراء وفي الضراء، أما في الرخاء والسراء فالكل يدعي ذلك، فكان لا بد من إظهار العبودية في الشدة حتى يتميز الخبيث من الطيب.
وفي ذلك اليوم العظيم -يوم بدر- ذاق المسلمون طعم الانتصار، وفرحوا بذلك، وذكرهم الله بتلك النعمة العظيمة وبذلك الفضل الكبير فقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] أي: قلة قليلة مستضعفة تخافون أن يتخطفكم الناس فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].
ثم في يوم أحد ذاق المسلمون مرارة الهزيمة لحكمة أرادها الله؛ وذلك حتى يعرفوا النصر ويأخذوا بأسبابه، وحتى يعرفوا الهزيمة ويتجنبوا أسبابها.
من أسباب الهزيمة يوم أحد
فحشدوا في ذلك اليوم أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، ومعهم سبعمائة بعير تنقل عتاد المعركة، وسبعمائة درع كقوة وقائية، وجعلوا ميزانية تلك الحرب هي القافلة التي استنقذت يوم بدر، وكان قوامها أكثر من خمسين ألف دينار ذهب، أي: ما يعادل اليوم أكثر من مليون ريال، وهو مبلغ كبير في ذلك الحين، وضعوا تلك القافلة وقفاً لإعداد الجيش في ذلك اليوم، وخرجوا بثلاثة آلاف، وما خرجت العرب بجيش مثله من قبل، وألبوا القبائل، وطلبوا المتطوعين من هنا ومن هناك، وخرجت النساء معهم يحرضنهم ويبثثن فيهم روح القتال والانتقام، ويذكرنهم بقتلاهم في بدر، والذل والهوان الذي لحقهم في ذلك اليوم.
ما حدث من أحداث يوم أحد كان لحكم أرادها الله، منها:
تمييز الخبيث من الطيب، فما أكثر الذين ينتمون إلى الصف حين الانتصار! فيوم أن انتصر المسلمون في بدر التحق بالصف من ليس منهم، فهؤلاء يعرفون حين تنقلب الموازين.
ثم إن الله أعد للمؤمنين في جنات النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولن يصلوا إلى ذلك إلا بالامتحان والابتلاء العظيم، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
ثم من حِكَم الله جلَّ في علاه فيما حدث في ذلك اليوم العظيم: أن يبين للأمة من أقصاها إلى أدناها أن النصر ليس بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144-145].
ثم بين أن هذه سنة لا تتغير ولا تتبدل فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].
وعبودية الله لا بد أن تكون في السراء وفي الضراء، أما في الرخاء والسراء فالكل يدعي ذلك، فكان لا بد من إظهار العبودية في الشدة حتى يتميز الخبيث من الطيب.
وفي ذلك اليوم العظيم -يوم بدر- ذاق المسلمون طعم الانتصار، وفرحوا بذلك، وذكرهم الله بتلك النعمة العظيمة وبذلك الفضل الكبير فقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] أي: قلة قليلة مستضعفة تخافون أن يتخطفكم الناس فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].
ثم في يوم أحد ذاق المسلمون مرارة الهزيمة لحكمة أرادها الله؛ وذلك حتى يعرفوا النصر ويأخذوا بأسبابه، وحتى يعرفوا الهزيمة ويتجنبوا أسبابها.
إن اختلاف الرأي والنزاع وعدم السمع والطاعة، والذنوب والمعاصي، هي من أسباب الهزيمة، ففي يوم بدر كان الصف واحداً، وكانت الكلمة واحدة، وكانت النية صالحة، فلم تدخل الدنيا في القلوب فانتصرت القلة القليلة، لكن في يوم أحد اختلف الأمر تماماً، فقد جهزت قريش في ذلك اليوم ما لم تجهزه من قبل، بل أرسلت شعراءها يطوفون بين القبائل حتى يجمعوا المتطوعين لقتال محمد وأصحابه، فكان عندهم دافع قوي للقتال، فقد كانوا يريدون الثأر والانتقام، فما وقع عليهم يوم بدر لم يكن بالشيء القليل، فقد قتل كبراؤهم وأمراؤهم وساداتهم، وأثخن فيهم المسلمون الجراح، ونكلوا بهم تنكيلاً، حتى خرجوا من أرض المعركة يجرون قبل الهزيمة أذيال الذل والانكسار؛ لأنهم خرجوا بطراً ورئاء الناس؛ وليحقق الله للمؤمنين سنته: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
فحشدوا في ذلك اليوم أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، ومعهم سبعمائة بعير تنقل عتاد المعركة، وسبعمائة درع كقوة وقائية، وجعلوا ميزانية تلك الحرب هي القافلة التي استنقذت يوم بدر، وكان قوامها أكثر من خمسين ألف دينار ذهب، أي: ما يعادل اليوم أكثر من مليون ريال، وهو مبلغ كبير في ذلك الحين، وضعوا تلك القافلة وقفاً لإعداد الجيش في ذلك اليوم، وخرجوا بثلاثة آلاف، وما خرجت العرب بجيش مثله من قبل، وألبوا القبائل، وطلبوا المتطوعين من هنا ومن هناك، وخرجت النساء معهم يحرضنهم ويبثثن فيهم روح القتال والانتقام، ويذكرنهم بقتلاهم في بدر، والذل والهوان الذي لحقهم في ذلك اليوم.
لما علم العباس بالأحداث في مكة -وكان لم يسلم حينها- أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسالة عاجلة مع رجل من رجاله الذين يثق فيهم، وكانت المسافة بين مكة والمدينة تقطع في عشرة أيام، فقطعها الرجل في ثلاثة أيام، ثم وصل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر وسلمه الرسالة، فقرأها أبي بن كعب وفيها أن قريشاً قد أعدت العدة واستعدت لغزو المدينة وهي في الطريق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي : (اكتم الخبر) أي: حتى لا يشيع الخبر قبل اجتماع القوم وأخذ المشورة، وكان سعد بن الربيع في داره، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره وأخبره بالخبر، فقال: والله! يا رسول الله! ما أرى هذا إلا خيراً، قال تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11] ثم لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عند سعد قالت امرأة سعد لـسعد : ماذا قال لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أم لك، وما لك ولهذا؟ لأنه لا يريد أن يشيع الخبر، فقالت: أما والله! فإني قد سمعت الخبر، فأخذها من يدها ولحق النبي صلى الله عليه وسلم بها وقال: يا رسول الله! لقد سمعت كلامنا، حتى إذا فشا الخبر لا تظن أني قد أشعت الخبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعها وأطلق يدها؛ فإنها مؤمنة).
حتى النساء يتكتمن على أخبار المسلمين، وتعلم أن القضية قضية تكتم وقضية سرية؛ لأن الأمر يعنيها، فهي تشترك معهم في العقيدة والإيمان، وهي تشترك معهم في الهدف وفي المنهج وفي الطريق، ومحمد كما أنه رسول الرجال فهو أيضاً رسول النساء.
جمع النبي صلى الله عليه وسلم كبار القوم من المهاجرين والأنصار وبدأ الرأي والمشورة بينهم، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إشارة لا أمراً، فقال: (نقاتلهم داخل المدينة) أي نتحصن داخل المدينة -وهو ما يسمى اليوم بقتال الشوارع- لأن ذلك أدعى للتنكيل بالعدو، فالعدو لا يعرف أين المخابئ التي يختبئ بها المسلمون، ثم ستكون هناك فرصة لزيادة العدد، فالنساء سيقاتلن على ظهور البيوت، وسيرمين العدو بالحجارة، وستجتمع الكلمة الواحدة داخل المدينة، فأبى الشباب المتحمس إلا الخروج، ومنهم نفر لم يخرج يوم بدر، فقالوا: يا رسول الله! إنا لندعو الله لمثل هذا اليوم، أي: فكيف يوم أن جاء عدونا نجعلهم يدخلون علينا في دارنا؟! وكان أول المتحمسين أسد الله حمزة فقال: يا رسول الله! والله! لا أطعم طعاماً حتى أناجزهم خارج المدينة، وحمزة رضي الله عنه هو الذي فعل بهم الأفاعيل يوم بدر، وقد كان الفرسان يهابون أن يقفوا أمام حمزة ، ولا أحد يستطيع أن يقوم أمام أسد الله، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن رأي الأكثرية هو الخروج وافق على هذا وهو يرى أن المصلحة في البقاء، ووافقه على البقاء رأس الكفر والنفاق عبد الله بن أبي بن سلول ؛ لأنه لا يريد الخروج والقتال أصلاً، وهو أجبن من أن يقاتل مع المسلمين، فقاتل الله المنافقين طباعهم لا تتغير في كل حين، وصفاتهم لا تتغير لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47].
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة ثم دخل إلى داره ولبس لأمته ولبس كامل ثياب الحرب وخرج، فلما رأى الرجال أنهم قد أكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج قالوا: يا رسول الله! كأننا قد أكرهناك، فاعمل بالرأي الذي تراه، فقال بهمته العالية: (ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) أي: ما كان لنبي أن يتردد عن قتال أعداء الله بعد أن وضع عدة السلاح؛ وقد عمل ذلك حتى يبين لهم أنه لا تردد في هذا الطريق.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ألف من الرجال، وباتوا يوم السبت خارج المدينة، وقبيل الفجر غير النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه، ثم صلى الفجر مع أصحابه، وهم بكامل عدتهم الحربية، ثم لما انتهوا من الصلاة بدأت مؤامرة المنافقين، فانسحب ابن سلول بثلاثمائة من الرجال، وكان الهدف من الانسحاب خلخلة الصف، وتفريق كلمة المسلمين، مع أنه قد حانت ساعة الصفر، وما بينهم وبين عدوهم إلا أمتار، وما بينهم وبين عدوهم إلا لحظات حتى يستقبلوهم بالقتال، فاختار عدو الله تلك اللحظة حتى يفعل فعلته، فرجع معه المنافقون وعددهم ثلاثمائة، وقال: استشار الولدان حين أشاروا عليه بالخروج، وأنا أشرت عليه بالبقاء في المدينة ولم يسمع كلامي، وكاد ببلبلته أن يفتن طائفتين من المؤمنين، طائفة من الأوس وطائفة من الخزرج، فقال الله جل في علاه: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:121-122] فلولا أن ثبت الله المؤمنين لنكص منهم نفر على أدبارهم، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعد هذا الخبر، فكانت ردة فعل المسلمين شديدة، واختلفوا في رأيهم ماذا نصنع بهؤلاء؟ فقالت طائفة: نقتل هؤلاء المنافقين قبل أن يرجعوا إلى المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل دعوهم)وأنزل الله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:23].
وهذه حكمة عسكرية كبيرة؛ لأنه لو تلاحم معهم في الصفوف والكفار على مقربة منهم لاشتعلت النار على المسلمين من كل الجهات.
لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم موازين المعركة: ثلاثة آلاف في الطرف المقابل بكامل العدة والعتاد يفوقون المسلمين في كل شيء إلا في الإيمان والعقيدة، وكفى بهذا فخراً للمسلمين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15] فقسم النبي صلى الله عليه وسلم رجاله على حسب ظروف المعركة، فاختار جبل أحد فجعل ظهره إلى الجبل، وقسم الرجال إلى قسمين: راية الأنصار وراية المهاجرين، وقسم راية الأنصار إلى رايتين: أوس وخزرج، ثم جعل خمسين من الرجال على قمة الجبل كقوة رادعة وقوة ضاربة تحمي ظهرهم، وترد الخيل، والخيل لا تستطيع أن تقاوم السهام والنبال.
فوضع القائد خطة كاملة تناسب ظروف المعركة، وقال للخمسين الرجل الذين جعلهم على قمة الجبل بعد أن أمرَّ عليهم عبد الله بن جبير : (لا تنزلوا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير)، وكان للأوامر الصارمة دور في بداية المعركة حيث إن المسلمين انتصروا في البداية بسبب الرماة، ثم كان الرماة أنفسهم هم سبب الهزيمة في النهاية، والسبب كما ذكر الله جل في علاه: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152] وهم الذين كانوا على قمة الجبل، قال تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152] وهم الذين كانوا في أرض المعركة.
صف النبي صلى الله عليه وسلم الرجال ثم أخذ يحثهم على القتال، وقال: (إن روح القدس نفث في روعي وقال: إن نفساً لن تموت قبل أن تستوفي رزقها وأجلها، وما من أمر يحبه الله ورسوله إلا أمرتكم به، وما من أمر لا يحبه الله ورسوله إلا نهيتكم عنه، فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، وأخلصوا جهادكم لله رب العالمين).
ثم جُعلت كلمة السر التي يتعارف بها الرجال في أرض المعركة: (أمت أمت).
قبل المعركة قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يرفع همة الرجال فقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فقام كثير من الصحابة، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءهم، ثم قام أبو دجانة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعنيه، فهو يعرف طبيعة الرجال فقال: (من يأخذه بحقه؟ قال: وما حقه يا رسول الله؟! قال: يضرب به هامات الكفار حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله)، والقوم يعرفون أبا دجانة ، فهو رجل قتال، ورجل إذا ربط العصابة الحمراء على رأسه فإنه يقاتل حتى الموت، فربط العصابة، وأخذ يتبختر بين الصفوف متمايلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه مشية يكرهها الله ورسوله إلا في هذا الموطن)؛ لأنها تغيظ الكفار.
وضع النبي صلى الله عليه وسلم صناديد الرجال في المقدمة، مثل سعد وحمزة وعمر وأبي بكر ، وبدأ الكفار يحرض بعضهم بعضاً، والنبي يذكر المسلمين بالله وباليوم الآخر، وشتان بين فئة تقاتل في سبيل الطاغوت وفئة تقاتل في سبيل الله، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، ومهما بلغت قوتهم قال تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] وقال الله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، لكن إن خذلكم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ [آل عمران:160].
لقد كانت معركة أحد درساً للأمة في جيلها الأول وفي أجيالها المتلاحقة والمتعاقبة حتى يومنا هذا، فبدأ القتال وبدأت تعلو صيحات، وبدأ التكبير يأتي من هنا ومن هناك، وبدأ حمزة يضرب رقاب الرجال، فكان لا يسير بين الصفوف إلا تفرقت الجموع من أمامه.
وأخذ أبو دجانة يضرب بسيف النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثخنت فيهم الجراح.
وأما الزبير فصنع العجب العجاب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراقبه في أرض المعركة وهو يبحث عن حامل راية المشركين طلحة بن أبي طلحة ، وراية المعركة هي شعار المعركة لكل فريق، وبنو عبد الدار هم حملة لواء قريش، فتتبعه الزبير ، فلما جاءه وهو على بعيره قفز الزبير على ظهر البعير فجلس معه، ثم مسكه من تلابيبه، ورماه على وجهه من ظهر الجمل، ثم دك وجهه وقصم ظهره، ثم اجتز رقبته وأسقط راية الكفار، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وهلل وكبر، وقال: (لكل نبي حواري وحواريي من هذه الأمة
وبدأت المعركة تسير على النظام الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكر الكفار على المسلمين في أول الأمر، فردهم الرماة، وكر خالد وعكرمة اللذان كانا على فرسان مكة، وردهم الرماة مرة ثانية، وكروا ثالثة فردهم الرماة، فكانت الخطة تسير كما ينبغي، والصفوف منظمة، والكلمة مسموعة، والهدف واحد.
وصنع حمزة العجب العجاب، وقتل من فرسانهم، فانهارت عزائمهم، وحمل بنو عبد الدار الراية مرة ثانية فقتل سعد بن أبي وقاص حامل الراية، ثم حملها ثالث فقتلوه، حتى حمل الراية منهم ستة فقتلهم الصحابة جميعاً، وأسقطوا راية الكفار ست مرات ولم تتزعزع راية المسلمين، وبدأ المشركون يفرون من أرض المعركة، وبدأت علامات الهزيمة تظهر عليهم، وبدأت الغنائم تتناثر في أرض المعركة هنا وهناك، حتى أخلى المشركون معسكرهم، وبدءوا يفرون يمنة ويسرة، ثم أتت النقطة التي قلبت موازين المعركة، عندما خولفت الأوامر، فتباً للمعاصي ماذا تصنع! وتباً لمخالفة الأوامر ماذا تصنع!
استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
انها النار | 3542 استماع |
بر الوالدين | 3421 استماع |
أحوال العابدات | 3410 استماع |
يأجوج ومأجوج | 3348 استماع |
البداية والنهاية | 3335 استماع |
وقت وأخ وخمر وأخت | 3269 استماع |
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب | 3254 استماع |
أين دارك غداً | 3204 استماع |
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان | 3097 استماع |
أين أنتن من هؤلاء؟ | 3096 استماع |