فجعت قلبي وأدميته


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لابد لنا من الترابط بين مؤسسات المجتمع في خدمة الدين، وحفظ البلاد والعباد، فقضية الدين مسئولية كل المؤسسات، فليست مسئولية المساجد والدعوة والإرشاد والمحاكم والقطاعات الشرعية بل كل مؤسسات البلاد من أميرها إلى أدنى مسئول فيها، فالكل مسئول عن هذا الدين، فالدين أمانة استأمننا الله عليها، وسوف يسألنا عن هذا الأمر العظيم، قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، وقال أيضاً: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].

حال أمة الإسلام اليوم يبشر بخير

العنوان هو: فجعت قلبي وأدميته، فمواضيع الدين مرتبطة بعضها ببعض، حديثها وفقهها، وعقيدتها، وتاريخها، وسيرتها، لا ينفصل بعضها عن بعض.

والواقع الذي تمر به أمة الإسلام اليوم يبشر بالخير، فالصحوة -ولله الحمد- ملأت أطناب الأرض هنا وهناك، وبدأت قوة الإسلام تعود من جديد باتباع المسلمين له، أما قوة الدين فموجودة منذ أن أوحى الله إلى أهل الأرض بتوحيده وعبادته، فبدأ المسلمون يستشعرون الخطر، ويوحدون الصفوف، ويرجعون إلى الله.

والذي يتنقل بين بلاد المسلمين يمنة ويسرة يرى العودة العجيبة التي تشرح الصدر في كل بقاع المسلمين، اليوم لن يتآمروا على الضعيف، إنما يتآمرون على القوي، وأهل الإسلام اليوم يمرون في مرحلة قوة لا يعلمها إلا الله، لكننا نريد أن نستغل هذه القوة في عز الدين وعز الإسلام والمسلمين.

أردت من هذا الموضوع الذي اخترته أن أرفع الهمم، فكثير من الناس هم الذين يثبطون، وأن أرد على المشككين الذين يقولون: إن أمة الإسلام ليس عندها القدرة على مواجهة الآخرين، وتحتاج إلى سنوات طوال حتى تواكب الركب.

فأقول: أمة الإسلام في مقدمة الركب في كل حين وزمان مهما تغيرت الظروف والأحوال؛ لأن الله تعالى قال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] أي: أعلون بعقيدتنا، وباتباعنا، وبوحدتنا، وبتماسكنا، وفي كل شأن من شئون الحياة، إن أصابتنا ضراء صبرنا فكان خيراً لنا، وإن أصابتنا سراء شكرنا فكان خيراً لنا، فنحن على خير في كل حال من الأحوال، إن كثرت الذنوب والمعاصي فباب التوبة مفتوح والله غفار، وإن كثرت المخالفات فالمؤمنون نصحة يتعاونون فيما بينهم، فإن حاد أحد على الطريق ذكر بالله حتى يرجع إلى الصواب وإلى الصراط المستقيم.

العنوان هو: فجعت قلبي وأدميته، فمواضيع الدين مرتبطة بعضها ببعض، حديثها وفقهها، وعقيدتها، وتاريخها، وسيرتها، لا ينفصل بعضها عن بعض.

والواقع الذي تمر به أمة الإسلام اليوم يبشر بالخير، فالصحوة -ولله الحمد- ملأت أطناب الأرض هنا وهناك، وبدأت قوة الإسلام تعود من جديد باتباع المسلمين له، أما قوة الدين فموجودة منذ أن أوحى الله إلى أهل الأرض بتوحيده وعبادته، فبدأ المسلمون يستشعرون الخطر، ويوحدون الصفوف، ويرجعون إلى الله.

والذي يتنقل بين بلاد المسلمين يمنة ويسرة يرى العودة العجيبة التي تشرح الصدر في كل بقاع المسلمين، اليوم لن يتآمروا على الضعيف، إنما يتآمرون على القوي، وأهل الإسلام اليوم يمرون في مرحلة قوة لا يعلمها إلا الله، لكننا نريد أن نستغل هذه القوة في عز الدين وعز الإسلام والمسلمين.

أردت من هذا الموضوع الذي اخترته أن أرفع الهمم، فكثير من الناس هم الذين يثبطون، وأن أرد على المشككين الذين يقولون: إن أمة الإسلام ليس عندها القدرة على مواجهة الآخرين، وتحتاج إلى سنوات طوال حتى تواكب الركب.

فأقول: أمة الإسلام في مقدمة الركب في كل حين وزمان مهما تغيرت الظروف والأحوال؛ لأن الله تعالى قال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] أي: أعلون بعقيدتنا، وباتباعنا، وبوحدتنا، وبتماسكنا، وفي كل شأن من شئون الحياة، إن أصابتنا ضراء صبرنا فكان خيراً لنا، وإن أصابتنا سراء شكرنا فكان خيراً لنا، فنحن على خير في كل حال من الأحوال، إن كثرت الذنوب والمعاصي فباب التوبة مفتوح والله غفار، وإن كثرت المخالفات فالمؤمنون نصحة يتعاونون فيما بينهم، فإن حاد أحد على الطريق ذكر بالله حتى يرجع إلى الصواب وإلى الصراط المستقيم.

أردت من الموضوع أن أرفع الهمم مع بداية عام هجري جديد، وأن أذكر الأحفاد بما صنع الأجداد، وأن أذكر الرجال بما صنع الأبطال، ليُعلم أن أمتنا عندها قوة عجيبة، فلو أنها تشتغل في نصرة الدين.

لقد انبثق نور الإسلام من مكة ليحطم الجاهلية بكل ما فيها إلا ما وافق الإسلام، وقام محمد صلوات الله وسلامه عليه بحمل راية الدعوة والجهاد، والتف حوله الرجال يفدون دينهم بكل غال ونفيس، وما هي إلا سنوات قليلة مليئة بالصبر والتضحيات، إلا والإسلام قد ضرب أطنابه هنا وهناك، وانتشر أبطال الإسلام يبلغون دعوة الله رافعين شعار لا إله إلا الله والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فانقادت لهم الأرض، ونشروا العدل والمساواة، وقدموا من أجل ذلك تضحيات، وسطروا بطولات، فكانوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ثم تبدل الحال وتفكك البنيان، وركنت الأمة للدعة والشهوات، فضيعت أوقاتها بل أعمارها أمام شاشات وقنوات، فلقد علم الأعداء أنهم لن يقهروا هذه الأمة بالمدفع والدبابة فحاربوها باللهو والضياع، وأشغلوها بالمعازف والألحان؛ لأنهم يعلمون أن هذه الأمة إذا رفعت السلاح لا تقف قوة في الأرض أمامها.

بيان سبب غزوة مؤتة

روى الواقدي بسنده عن عمر بن الحكم قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ فقال له: أريد الشام، فقال: لعلك من رسل محمد قال: نعم، أنا رسول الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمر به فأوثقه، ثم قدمه فضرب عنقه، مخالفاً بذلك كل الأعراف والقوانين من أن الرسل لا تقتل، فلما بلغ الخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك عليه، وزاد الأمر عليه عندما قامت مجموعة من العرب المتنصرة بقتل بعثة سلمية دخلت أرض الشام تدعو العرب إلى الإسلام فقُتلوا غدراً وكان عددهم أربعة عشر رجلاً، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد من تأديب هؤلاء الغادرين؛ ليعلموا أن لهذا الدين رجالاً يذودون عن دينهم وأعراضهم، فاستنفر القائد الأعلى صلوات ربي وسلامه عليه ثلاثة آلاف من خيرة أصحابه، وعين ثلاثة يتولون قيادة الجيش بالترتيب، وهم: زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة، فخرج الجيش لتأديب أعداء الله، وليعلم أولئك أن للإسلام رجالاً يدافعون عن دينهم وأعراضهم، ودّع المسلمون جيشهم وهم يدعون لهم قائلين: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين منتصرين، فخرج الجيش بسرية وكتمان، ولكن الطابور الخامس -قاتلهم الله- من يهود ومنافقين أرسلوا الأخبار إلى إخوانهم في الكفر والنفاق؛ بخروج جيش المسلمين.

وعلتنا في كل زمان أنَّ الخطر يأتينا من الداخل وليس من الخارج، فعداوة الخارج معروفة أمَّا عداوة الداخل فمجهولة.

فحشد الكفار مائة ألف من مرتزقة العرب المتنصرة، ومائة ألف من الرومان، وتخيل الموقف أنَّ ثلاثة آلاف من الرجال يواجهون مائتي ألف من الكفار!

إن اشتباك ثلاثة آلاف في معركة حاسمة مع مائتي ألف يمثل أخطر مغامرة في تاريخ الحروب.

فتشاور الرجال قبل لقاء العدو، وكان القرار الحاسم هو مواجهة العدو أياً كانت النتائج، لأن كلا الأمرين النصر والشهادة فوز للمسلم المجاهد في سبيل الله، أما التراجع دون لقاء العدو فليس من شيم الأبطال، ولا مجال للتراجع عند طلاب الهمم، لسان الحال:

فأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسر الصديق

وإما مماتٌ يغيض العدى

موقف عبد الله بن رواحة في رفع روح القتال عند المسلمين

قال عبد الله بن رواحة مشجعاً الناس وداعياً إلى عدم التردد في القتال: يا قوم! إن الذي تكرهون هو الذي خرجتم من أجله، إما النصر وإما الشهادة، ونحن لا نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا وأعزنا الله به، والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد ما معنا إلا فرس واحد، فانطلقوا بنا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور عليهم فذلك الذي وعدنا نبينا وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فلنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان.

فأثرت تلك الكلمات البليغة في نفوس الجيش، واشتاقت القلوب والأرواح لجنة الرحمن، فانطلقوا وهم يرددون:

أرواحنا يا رب فوق أكفنا

ترجو ثوابك مغنماً وجواراً

في ظل السيوف كأننا في ظل حديقة

خضراء تنبت حولنا الأزهارا

نقل وقائع معركة مؤتة

على أرض مؤتة في بلاد الشام التقى الجيشان، فريق مسلم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثر من مائتي ألف من الكفار.

وضع قادة الجيش المسلم في حسابهم أن الجيش الروماني قد يلجأ إلى أسلوب التطويق فعددهم يسمح بذلك، فحينها إما أن يباد الجيش عن بكرة أبيه، أو يجبر على الاستسلام.

وفي حساب المقاييس الحربية العادية ليس من الصعب على مائتي ألف مقاتل مجهزون بأحسن تجهيز ومسلحون بأحسن سلاح أن يقوموا بتطويق ثلاثة آلاف وإبادتهم عن آخرهم، فالأمر هين ولن يستغرق ذلك إلا ساعات، فعدة الجيش الكافر خمسون ألف فارس، يتبعهم مائة وخمسون ألف مقاتل من المشاة يتسربلون بأحسن الدروع ويلبسون أحسن الخوذات.

من أجل ذلك انحاز زيد رضي الله عنه بجيشه الصغير إلى قرية يقال لها: مؤتة وعسكر فيها؛ ليجنب جيشه الصغير خطر التطويق، فتحصن المسلمون في قرية مؤتة وقام زيد بن حارثة بتعبئة الجيش الصغير وتحصينه على أحسن حال.

أخذت جيوش الرومان والعرب المتنصرة تتدفق على مؤتة في زهو وخيلاء وغرور كأنها أمواج بحر متلاطم، وجيش المسلمين الصغير المرابط في مؤتة كأنه جزيرة صغيرة مهددة بالغرق.

لقد كانت الحالة بالنسبة للمسلمين حالة مخيفة مفزعة تثير الخوف والرعب، وتزيغ منها العقول والأبصار، وقد عبر أبو هريرة رضي الله عنه عن هذه الحقيقة المفزعة وهذا الموقف الحرج بقوله: فرأى المسلمون المشركين ومعهم ما لا قبل لهم به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، وشهدت ذلك فبرق بصري، فقال ثابت بن الأقرم : مالك يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم. فقال: لم تشهد معنا بدراً إننا لم ننصر بكثرة.

ولا لوم على أبي هريرة فإنه بشر يخاف ويذهل، ولقد كان على كل جندي مسلم في ذلك اليوم أن يقاتل سبعين رجلاً من جنود الكفار، وقد كان بوسعهم الرجوع دونما قتال، لكن طلاب الجنان لا يتراجعون، فإما نصر وإما شهادة.

لقد أقدم الجيش الإسلامي الصغير في مؤتة على أكبر مغامرة حربية في التاريخ دونما جدال، ففي القوانين والأعراف العسكرية بين الأمم الأخرى غير المسلمة أنَّ ما أقدم عليه قادة الجيش في ذلك اليوم ضرباً من الانتحار تعاقب عليه القوانين العسكرية، أما عند طلاب الجنان فالحال يختلف، فالموت في سبيل الله غاية ما يتمنى المسلم الصادق، أما اشترى الله منهم الأنفس والأموال؟ أما باعوهما على أن يكون الثمن الجنة؟

ثبت المسلمون بجيشهم الصغير، ولا زالوا يثبتون في كل مكان، إنها مخاطرة عظيمة لم يشهد التاريخ مثلها، لقد كانت نتيجة المعركة مضمونة للرومان وهي النصر الساحق، بإبادة الجيش المسلم إبادة كاملة، وذلك حسب المقاييس والمفاهيم العسكرية، لكن الإيمان صنع عجب العجاب، وهذا ما نحتاجه اليوم، فالإيمان هو الدافع للشهادة والاستشهاد، الإيمان هو الدافع للبذل والإيثار والعطاء، والحياة لا قيمة لها إلا بالإيمان، ولا طعم لها إلا بالإيمان، والإيمان هو شعار هذه الحياة.

فتدفقت كتائب الرومان بحديدها وفرسانها كأمواج البحر الهادر ، فصمد أمامها المسلمون، وعددهم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثرهم خال من الدروع، فأي قوة كانت في قلوب أولئك الرجال؟!

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

جلس عمر في مجلس من المجالس فقال لمن معه: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أنَّ لي من الذهب كذا وكذا أنفقها في سبيل الله، وقال آخر: أتمنى أن لي من المال كذا وكذا أنفقها في سبيل الله، فقال عمر : أتمنى أن لي ملء هذا البيت قادة شجعان مثل أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، فعذراً أمة الإسلام! فليس عندنا ما تمنى أمير المؤمنين عمر .

إن الإيمان وصحة العقيدة والاستبسال في سبيل الله يعكس المفاهيم ويقلب المقاييس ويكسر الأغلال، فكثرة العدد والسلاح والتكنولوجيا العسكرية ليست هي التي تكفل النصر في أي حال من الأحوال، وإن لم يتوافر ذلك فليس معنى ذلك الهزيمة، فنحن لا نستمد النصر من العدة والعتاد ، إنما نستمد النصر من السماء، لكن لابد من العدة والإعداد.

إن الذي يصنع النصر حقيقة ويصنع الصمود الذي يحول دون الهزائم الماحقة هو الإيمان الذي يسري بالقلوب عقيدة وضاءة مشرقة، لا عقيدة ماركس ولينين المؤلمة.

استمرت المعركة أياماً سبعة كانوا يتوقعون أنها ساعات، لم يتوقع الرومان أن المعركة ستكون على هذا المستوى من الصمود والثبات والشراسة والضراوة، ثبت المسلمون على مشارف مؤتة، بل وعلى قلتهم قاموا بهجوم معاكس أتوا فيه بالعجائب، فصرعوا عدة مئات من أفراد الجيش الروماني وأتباعه، وبعد أن صعقوهم بالهجمات بدأت جموع الرومان مع كثرتها تركن إلى الفرار والهروب من أرض المعركة، فرأوا الشرر والنار يتطايران من أعين الرجال، ورأوا الهول والعجب العجاب من التضحيات والإقدام، حاولوا اقتحام مواقع المسلمين لتطويقهم فما استطاعوا.

إن أي عاقل وأي منصف سيدرك ذلك المستوى الرفيع من الشجاعة والبطولة والتضحية والفداء والإيمان العميق الذي كان عليه المسلمون عندما يعلم أنهم كانوا ثلاثة آلاف محارب ومع ذلك استمروا يخوضون المعركة بصبر وشجاعة طوال سبعة أيام وما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، سبعة أيام وما استطاع الجيش الروماني أن يلحق أي تقدم أو هزيمة في ذلك الجيش الصغير، إنه ثبات عندما يكثر الثبات والشجاعة والإقدام، وعندما تصور الصور والبطولات في أرض المعركة.

استشهاد زيد بن حارثة واستلام جعفر للراية

ثبت زيد القائد العام، ثم استشهد بعد ستة أيام من القتال بعد أن مزقته رماح الرومان، وهو مقبل كالأسد الهصور، ثم استلم جعفر الراية فصار يقاتل وهو على فرس له شقراء والمسلمون خلفه يقاتلون بضراوة واستماتة لا مثيل لها، فاقتحم جعفر صفوف الرومان، ولكثرة الزحام وشدة الالتحام نزل عن فرسه، ثم عقرها حتى لا يهرب من أرض المعركة استعداداً للموت والشهادة في سبيل الله، وقطع لباب الهرب من أرض المعركة، فكان جعفر أول من عقر في الإسلام أثناء القتال، سابقة ما سبقه بها أحد، وترجل في أرض المعركة بعد أن أحاطت به الرومان من كل جهة وهو يقاتلهم قتالاً شديداً، وراية الرسول صلى الله عليه وسلم مرفوعة في يده، وبينما هو كذلك تمكن أحد فرسان الرومان من قطع يد جعفر التي يحمل بها اللواء فحمله باليد الثانية، فقطعت فأظهر القائد الشاب بطولة فذة لا مثيل لها، فبعد أن فقد كلتا يديه وحفاظاً على اللواء احتضنه إلى صدره بعضديه مكباً عليه؛ ليظل مرفوعاً.

فراية لا إله إلا الله رفعت بأرض القتال والمعارك واليوم ترفع على المدرجات والملاعب، شتان بين انتصاراتهم وبين انتصاراتنا اليوم!

ورغم استبسال جعفر وثباته وبقاء اللواء منصوباً في أرض القتال عدة ساعات انتهى ذلك الصمود الرائع بأن سقط جعفر شهيداً بعد أن تناوشه سيوف الرومان، وهو يحتضن اللواء في إصرار، وصعدت الروح لتأخذ مكانها بين الصديقين والشهداء والأبرار، قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين بعد أن فقد ذراعيه فأثابه الله جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ثم استمر القتال على أشد ضراوة.

موقف عبد الله بن رواحه بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب

سارع عبد الله بن رواحة لقيادة الجيش، وحمل اللواء فوجد في نفسه تردداً لكثرة الحشود الرومانية الهائلة، فعاتب نفسه وخاطبها شعراً:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

طائعة أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة

مالي أراك تكرهين الجنة

قد طالما قد كنت مطمئنة

هل أنت إلا نطفة في شنة

ونزل عن فرسه ولواء النبي صلى الله عليه وسلم في يده فقاتل حتى قتل لاحقاً بزميليه اللذين سبقاه إلى الشهادة وهو يردد:

يا نفس إلا تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت

إن تفعلي فعلهما هديت

موقف خالد بن الوليد بعد استشهاد القادة الثلاثة

لقد عانى الرومان الأهوال من المسلمين، وصنع بهم المسلمون مقتلة عظيمة رغم قلة العدد والعتاد، وكان من قتلى الرومان القائد العام لقوات العرب المتنصرة، واسمه مالك بن واثلة، فقد قتله قائد ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري رضي الله عنه وأرضاه.

وظل المسلمون ثابتين يصارعون ويقاومون ويكرون ويفرون، ويسطرون أعظم الصور في التضحية والثبات، غير أن مصرع القادة الثلاثة، وبقاء الجيش دونما قائد رجح كفة الرومان، وحدث خلل واضطراب في صفوف المسلمين، وأخذ بعضهم ينهزم لاسيما بعد سقوط لواء الجيش أرضاً، وبدأت تظهر عليهم علامات الهزيمة، لكن ثابت بن أقرم أحد فرسان الأنصار أنقذ الموقف ورفع اللواء وصاح: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم يحمل اللواء ويقود الجيش فرشحوه فاعتذر وقال: ما أنا بفاعل، وبلغ الموقف خطورة لا تحتمل لفقدهم قائد الجيش، وبدأت علامات الخوف والاضطراب والهزيمة تظهر.

ولم يكن هناك من تتجه الأنظار إليه لإنقاذ الموقف سوى المحارب الشهير والقائد المظفر: خالد بن الوليد الذي لم يمض على إسلامه ودخوله في الإسلام إلا ثلاثة أشهر فقط، حمل خالد راية التوحيد فصاح ثابت بن الأقرم: يا خالد بن الوليد! خذ اللواء، خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال خالد : لا آخذه أنت أحق به؛ لأنك أقدم إسلاماً وأكبر سناً -والرجال تعرف قدر الرجال- فقال ثابت : خذه يا أبا سليمان! والله ما أخذته إلا لك، فأنت أعلم مني بفنون القتال، فنادى ثابت بن الأقرم في كبار الجيش: أترضون بـخالد بن الوليد أميراً عليكم؟ قالوا: رضينا، فتولى خالد القيادة لإنقاذ الموقف المتدهور الذي كان سيؤدي إلى إبادة الجيش لولا تدارك الأمر.

حمل خالد الراية وأصبح قائداً عاماً للجيش، فهذه الأحداث تدور في أرض المعركة فكيف كانت المدينة؟ وكيف كان حال الرجال والنساء هناك؟

ذكر المؤرخون وأصحاب السير والحديث أن الله تعالى كشف لرسوله المسافة الفاصلة بين المدينة ومكان المعركة، وأصبحت المعركة تنقل حيةً على الهواء إلى المدينة وحياً، حتى صار النبي صلى الله عليه وسلم ينظر عياناً إلى ما يحدث هناك من قتال ضار عنيف!

روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس قبل أن يأتيهم الخبر (أخذ الراية زيد ثم قتل، ثم أخذها جعفر ثم قتل، ثم أخذها ابن رواحة ثم قتل، وعيناه تذرفان صلوات ربي وسلامه عليه، ثم سكت، ثم قال: ولقد رفعوا إلى الجنة، ثم قال: ثم حمل الراية سيف من سيوف الله، ولقد حمي الوطيس حتى فتح الله عليهم).

اجتمعت المدينة حول نبيها تتابع أخبار المعركة حية على الهواء وحياً من السماء، واليوم اجتمع المسلمون حول الشاشات والقنوات لمتابعة مباريات ومسلسلات حية على الهواء، فسبحان الله ما أعظم الفرق بين الأمس وبين اليوم!

لقد كان اختيار خالد بن الوليد قائداً للجيش في تلك الساعات الحرجة اختياراً موفقاً، فهو فارس شجاع وبطلٌ مغوار، وداهية في القيادة العسكرية هجوماً ودفاعاً، ولقد أثبت في ذلك اليوم أنه من أعظم قادة المعارك الذين عرفهم التاريخ، قاد أول معركة بعد إسلامه بثلاثة أشهر، فأعاد للجيش تنظيمه الذي فقده بعد مقتل القادة الثلاثة، ثم أعاد للجيش ثقته بنفسه، بعد أن شن به هجوماً معاكساً على الرومان، زلزل به صفوفهم، ثم بمهارة فائقة تمكن بالانسحاب بالجيش الصغير انسحاباً عظيماً يعتبر في قاموس الخبراء العسكريين أعظم انتصار؛ ولهذا لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بسيف الله المسلول، بعد أن نجح في إنقاذ ذلك الجيش الصغير، بل حقق الانتصار الذي خرج من أجله.

كانت مهمة خالد صعبة لكن الصعاب لا تقف أمام الرجال، وكلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس العاجزين، والفشل أبسط الأشياء التي يستطيع أن يدفعها أي إنسان دونما مجهود.

مهمة خالد كانت من أصعب المهمات، لكن أبا سليمان رجل المواقف، ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم تحول ميزان المعركة لصالح المسلمين بعد أن رفع خالد الراية، قال صلى الله عليه وسلم: (ولقد حمل الراية سيف من سيوف الله، ولقد حمي الوطيس ولقد فتح الله عليهم).

حمى الوطيس، وبدأت تتطاير الرءوس، وتتقطع الأعضاء والأجزاء، والدماء في كل بقعة تسيل كالأنهار، روى البخاري عن خالد نفسه أنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.

إن للطاقة البشرية حدود، قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فلقد رأى خالد بخبرته وحنكته أن جيشه الصغير قد أبلى بلاء حسناً، وكبد العدو الخسائر في الأموال والأرواح، ولقنهم درساً لن ينسوه، وعلم أن بالمدينة رجالاً يدافعون عن أعراض المسلمين والمسلمات ويدافعون عن المقدسات، فكان لابد من خطة لإخراج الجيش من أرض المعركة بأقل الخسائر.

قام خالد أثناء الليل باجتماع مع قادة الجيش بتبديل كلي للميمنة والميسرة والخلف، فبدل مواقع الرجال، وهدفه من ذلك أن يجعل الرومان يعتقدون أن جيشاً جديداً يشارك في القتال، فرسم هذه الخطة للإيهام والتضليل، والحرب خدعة، فما كاد يطلع الصباح حتى وجد الرومان أنفسهم أمام جيش جديد، ما كانوا يعرفونه طوال ستة أيام من القتال، فظنوا أن مدداً قد جاء للمسلمين أثناء القتال، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وبينما هم في دهشتهم إذا بغبار يسد الأفق من خلف ظهر الجيش المسلم، وما هي إلا لحظات وجيزة حتى دوت وارتفعت في أرض مؤتة أصوات التهليل والتكبير، ثم انشق الغبار عن كتائب من الفرسان تتبع إحداهما الأخرى في تنسيق وإحكام راكضة نحو المسلمين، وحوافر خيلها وأصوات فرسانها تصم الآذان: الله أكبر الله أكبر، ولإدخال مزيد من الرعب في قلوب الرومان اهتز معسكر المسلمين المواجه للرومان في أرض المعركة بالتهليل والتكبير، فأي قوة تقف أمام الله أكبر؟! وأي قوة تستطيع الصمود أمام الله أكبر؟! إذا خرج التكبير من القلوب اهتزت وتغيرت الموازين.

قام خالد بكل ذلك بإحكام وتدبير، فأيقن الرومان أن ما رأوه من تغيير شامل في الميمنة والميسرة والخلف وتدفق لتلك الكتائب التي أقبلت من خلف الجيش إنما هو مدد كبير جاء من المدينة لمساندة الجيش المسلم؛ ليستمروا في خوض المعركة حتى النصر، فدب الرعب في نفوسهم، وساد الهرج والمرج، ولسان حالهم: إذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بنا الأفاعيل فماذا عسى أن يفعلوا بنا بعد أن وصل إليهم المدد؟ وعلى مدى ستة أيام أو سبعة لم نستطع أن نحقق عليهم أي انتصار، فماذا عساهم أن يفعلوا بنا بعد هذا؟!

فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك خالد بحاسة القائد الماهر المحنك ما أصاب الرومان وحلفاءهم من خوف ورعب نتيجة الخطة البارعة فاغتنمها فرصة، وبدأ بالهجوم الكاسح، والمسلمون يرددون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45-46]، فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:4-7].

فمالت صفوف المسلمين على خطوط الرومان الأمامية، فتملكهم الرعب واضطربت صفوفهم، فركبهم المسلمون وأحدثوا فيهم مقتلة عظيمة كانت كما وصفها المؤرخون مذبحة بكل المعايير.

قال ابن سعد في الطبقات وهو يروي قصة انتصار خالد والمسلمين على الرومان بعد توليه القيادة: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وطعن حتى قتل، ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة، ثم حمل الراية خالد ثم حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة، ووضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا، واستمر خالد وجيشه يطاردون الرومان حتى أثخنوهم ولقنوهم درساً لن ينسوه، حتى يعلم أولئك المعتدون أن بالمدينة رجالاً يدافعون عن أعراض المسلمين والمسلمات، ثم اغتنم خالد فرصة ارتباك الجيوش الرومانية واضطرابها، فأصدر أوامره إلى قادة الجيوش والكتائب في جيشه بالارتداد بالجيش جنوباً كما هو متفق عليه حينما وضعوا خطة الانسحاب ليلاً، وأخذ الجيش يغادر ميدان المعركة بكل هدوء وانضباط، وأشرف خالد على عملية الانسحاب، فكان يجول بفرسه بين الكتائب ليظل النظام سائداً أثناء الانسحاب، ولتظل روح الجند والقادة ومعنوياتهم عالية فلا يدركهم خوف ولا اضطراب، فتمت عملية الانسحاب كما أراد القائد خالد على أدق نظام ودونما أية خسارة، وأصبح الجيش الروماني شبه مشلول يسوده الذهول لما لقيه على أيدي المسلمين من الهجوم المضاد الكاسح الذي قام به خالد بعد نجاح حيلته العسكرية وخدعته الحربية الباهرة، بل أصدر قادة الرومان إلى كافة الكتائب بألا يتعقب أحدٌ المسلمين بعد انسحابهم؛ لأنهم ظنوا أن الانسحاب إنما هو مكيدة حربية لإيقاع الجيش الروماني في كمائن إذا ما تتبع الجيش المنسحب، وهم يعرفون أنه لا أحد يجيد الكمائن ويحكمها مثل أولئك الرجال، فخافوا من تتبع المسلمين، بل كانوا مسرورين بالانسحاب.

والمسلمون رغم قلة عددهم فلقد أنزلوا بالرومان خسارة كبيرة وحملوهم ذلاً وعاراً قبل وصول المدد، فكيف وقد وصلهم مدد كما ظنوا؟

موقف أهل المدينة من جيش خالد

وصل خالد بجيشه إلى المدينة دون أن يتعرض لأي خطر في الطريق، ووصلت الأخبار إلى المدينة بأن المسلمين قد فروا وانهزموا، فاستاء أهل المدينة بذلك، فما كاد خالد يصل بجيشه إلى ضواحي المدينة حتى قابلته مظاهرة كبيرة تندد بالجيش، وكان المتظاهرون يصيحون بالجيش: يا فرار! يا فرار! أتفرون من الموت في سبيل الله؟! ويحثون في وجوه الجند والقادة التراب.

أما النساء فلم يفتحن لأزواجهن وأبنائهن الأبواب، وأغلقنها دونهم قائلات لهم: لم لم تموتوا مع أصحابكم في أرض القتال؟

أما الأطفال فلقد استقبلوا خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالتراب والحجارة قائلين: يا فرار! يا فرار!

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم بالأخبار الصحيحة، ومقدار التضحيات والبطولات التي قام بها الجيش المسلم، ولذا قام مدافعاً عن الجيش وأفراده، قائلاً: (ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله).

كيف وقد أنقذ خالد جيشه من فناء محقق بخطة عسكرية بارعة، وألحق بالرومان وجنودهم شر مكفنة وأذاقهم خزياً وعاراً؟

والفرق بين الأمس واليوم أنَّ بالأمس كان صغارنا يستقبلون خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالحجارة، ويقولون لـخالد ومن معه: إلى أين يا فرار! واليوم صغارنا يستقبلون غانية ومطرباً بيده قيثار

ولاعباً في صالة المطار بالورود والأزهار

متار يا متار هذا زمان العار

من طنجة إلى قندهار

معتقل يعيش حالة احتضار

أمتنا ليس لها قرار

أمتنا ألعوبة باليمين واليسار

نرجو صلاح الدين ندور في مأساتنا

حتى أصابنا الدوار

لكن لا خيار من موتنا فوق شغار السيف

حتى يصر الشوك جل نار

موقنون يا متار بحرقة المشوار

فإن النصر مع الصبر والصراط فوق النار

هذه باختصار كلمات اعتذار عن أمة تعدادها مليار، ليس لها قرار.

فذه أخبارهم فما هي أخبارنا!؟ وهذه تضحياتهم فما هي تضحياتنا؟! وهذه بطولاتهم فأين بطولاتنا؟ وهذه هي أخبار شيبهم وشبابهم، فما هي أخبار شيبنا وشبابنا؟! وهذه أخبار نسائهم فما هي أخبار نسائنا؟! وهذه هي أخبار أطفالهم فما هي أخبار أطفالنا؟!

روى الواقدي بسنده عن عمر بن الحكم قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ فقال له: أريد الشام، فقال: لعلك من رسل محمد قال: نعم، أنا رسول الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمر به فأوثقه، ثم قدمه فضرب عنقه، مخالفاً بذلك كل الأعراف والقوانين من أن الرسل لا تقتل، فلما بلغ الخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك عليه، وزاد الأمر عليه عندما قامت مجموعة من العرب المتنصرة بقتل بعثة سلمية دخلت أرض الشام تدعو العرب إلى الإسلام فقُتلوا غدراً وكان عددهم أربعة عشر رجلاً، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد من تأديب هؤلاء الغادرين؛ ليعلموا أن لهذا الدين رجالاً يذودون عن دينهم وأعراضهم، فاستنفر القائد الأعلى صلوات ربي وسلامه عليه ثلاثة آلاف من خيرة أصحابه، وعين ثلاثة يتولون قيادة الجيش بالترتيب، وهم: زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة، فخرج الجيش لتأديب أعداء الله، وليعلم أولئك أن للإسلام رجالاً يدافعون عن دينهم وأعراضهم، ودّع المسلمون جيشهم وهم يدعون لهم قائلين: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين منتصرين، فخرج الجيش بسرية وكتمان، ولكن الطابور الخامس -قاتلهم الله- من يهود ومنافقين أرسلوا الأخبار إلى إخوانهم في الكفر والنفاق؛ بخروج جيش المسلمين.

وعلتنا في كل زمان أنَّ الخطر يأتينا من الداخل وليس من الخارج، فعداوة الخارج معروفة أمَّا عداوة الداخل فمجهولة.

فحشد الكفار مائة ألف من مرتزقة العرب المتنصرة، ومائة ألف من الرومان، وتخيل الموقف أنَّ ثلاثة آلاف من الرجال يواجهون مائتي ألف من الكفار!

إن اشتباك ثلاثة آلاف في معركة حاسمة مع مائتي ألف يمثل أخطر مغامرة في تاريخ الحروب.

فتشاور الرجال قبل لقاء العدو، وكان القرار الحاسم هو مواجهة العدو أياً كانت النتائج، لأن كلا الأمرين النصر والشهادة فوز للمسلم المجاهد في سبيل الله، أما التراجع دون لقاء العدو فليس من شيم الأبطال، ولا مجال للتراجع عند طلاب الهمم، لسان الحال:

فأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسر الصديق

وإما مماتٌ يغيض العدى

قال عبد الله بن رواحة مشجعاً الناس وداعياً إلى عدم التردد في القتال: يا قوم! إن الذي تكرهون هو الذي خرجتم من أجله، إما النصر وإما الشهادة، ونحن لا نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا وأعزنا الله به، والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد ما معنا إلا فرس واحد، فانطلقوا بنا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور عليهم فذلك الذي وعدنا نبينا وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فلنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان.

فأثرت تلك الكلمات البليغة في نفوس الجيش، واشتاقت القلوب والأرواح لجنة الرحمن، فانطلقوا وهم يرددون:

أرواحنا يا رب فوق أكفنا

ترجو ثوابك مغنماً وجواراً

في ظل السيوف كأننا في ظل حديقة

خضراء تنبت حولنا الأزهارا


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3543 استماع
بر الوالدين 3428 استماع
أحوال العابدات 3413 استماع
يأجوج ومأجوج 3350 استماع
البداية والنهاية 3336 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3271 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3255 استماع
أين دارك غداً 3205 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3099 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3097 استماع