تفسير سورة إبراهيم (1)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، والسورة مكية، أي: نزلت بمكة، وقد علمتم أن السور القرآنية التي نزلت بمكة تعالج العقيدة بأعظم أركانها: التوحيد والنبوة والبعث الآخر، وسوف تشاهدون هذا من خلال الآيات:

أولاً: إثبات أنه لا إله إلا الله، أي: لا يوجد في الكون من يستحق أن يعبد إلا واحد، ألا وهو الله؛ فيجب أن يعبد، فمن عبده نجا، ومن أعرض عن عبادته هلك في الدنيا والآخرة.

ثانياً: إثبات النبوة لمحمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، وأنه رسول الله حقاً وصدقاً، والآيات نزلت عليه، فكيف لا يكون رسولاً صلى الله عليه وسلم؟!

ثالثاً: إثبات البعث والحياة الثانية؛ لأنها ضرورية من أجل أن يتلقّى الناس جزاء عملهم في هذه الحياة، فهم يعملون ما بين كافر ومؤمن، وصالح وفاسد، وطاهر وخبيث، والجزاء ليس هنا أبداً، الجزاء في الدار الآخرة، فهذه دار عمل وتلك دار جزاء، فهي -إذاً- ضرورة لا بد منها، وهي موجودة، الجنة شاهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووطئها بأقدامه، والنار عرضت عليه في هذا المحراب، فشاهدها كعرض تلفاز، ولكنه أعظم؛ إذ لمَّا شاهد النار التهبت، فأشاح بوجهه هكذا، قبل أن يعرف الناس التلفاز والشاشة، شاهدها -والله العظيم- في ذاك المحراب وهو يصلي، عرضت عليه الجنة حتى هم أن يأخذ قطفاً من عنب، ثم عرضت عليه النار فأشاح بوجهه من لهبها، فقولوا: آمنا بالله.

هيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، ثم نتدارسها إن شاء الله، والله نسأل أن يفتح علينا ويعلمنا وينفعنا بما يعلمنا.

الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:1-5]. ‏

سبب تسمية السورة وبيان معنى كلمة إبراهيم

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: الر [إبراهيم:1]، السورة كما علمنا تعرف بسورة إبراهيم، لمَ سميت بسورة إبراهيم؟ لذكر الله تعالى إبراهيم فيها، كذكر نوح في سورة نوح، وكذكر محمد في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم بالعربية الفصيحة معناه: الأب الرحيم، وبالعبرية: أبراهام أب رحيم، وهو حقاً رحيم، ومن دلائل رحمته: أن الله ابتلاه بذبح ولده، فقاسي القلب وشديده يذبح أي شيء، لكنه لا يقوى على ذبح ولده، أما إبراهيم فابتلي بذبح ولده إسماعيل عليه وعلى أبيه السلام.

ذكر ما استحق به إبراهيم عليه السلام وصف الإمامة

وإبراهيم يقال فيه: إمام الأنبياء؛ إذ هو من سأل الله تعالى أن يجعله إماماً، فابتلاه الله عز وجل بأربع عظائم، فلما نجح فيها لقبه بالإمام: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، من جعله إماماً؟ الله رب العالمين. وهذه الكلمات هي أوامر:

الأمر الأول: أن يصرخ في وسط قومه وبين أقاربه وأباعده وأهل بلاده، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويبطل عبادة الأوثان، ويندد بها، ويسخر منها، وهذا الموقف، من يقفه سوى إبراهيم؟ وصدر حكم الدولة الكافرة في أرض بابل بإحراقه بالنار، صدر أمر الدولة الكافرة المضادة للتوحيد المحاربة له بأن يقتل إبراهيم إحراقاً في النار.

وبالفعل جمعوا الحطب وأججوا النار أربعين يوماً، ثم وضعوه في منجنيق، ورموه به من بعيد؛ لأنهم لا يستطيعون القرب من هذه النار الملتهبة.

واللطيفة هنا: أنه عرض له جبريل وهو في تلك المسافة ما بين المنجنيق والنار: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ قال: أما إليك فلا. ومن ثم صدر أمر الله عز وجل إلى النار، والنار مخلوقة تنطق وتفهم عن الله عز وجل، فقال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فامتثلت وبردت، وكلمة (سلاماً) ملاحظة، فلو قال لها: كوني برداً لتحولت إلى ثلوج يموت بها إبراهيم، لكن بقيد السلامة، فكان جبينه يتفصد عرقاً، وما أحرقت النار إلا الكتاف الذي في يديه ورجليه فقط، أما جسمه فما مسته، هذه الكلمة الأولى.

الثانية: هجرته وخروجه بزوجه وابن أخيه من تلك الديار، إلى أين يذهبون؟ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فاتجه غرباً نحو الشام وفلسطين ومصر، فهذه الهجرة من أفضل الأعمال وأعظمها إلى اليوم، ما رضي أن يبقى مع الكفر والكافرين يمنعونه أن يعبد ربه، فاضطر إلى الهجرة فهاجر، فكانت هجرته أول هجرة في التاريخ البشري، هجرة إبراهيم من بلاد الكفر إلى أرض النجاة هي أول هجرة عرفتها البشرية، هذه كلمة من أروع الكلمات.

الثالثة: أمر الله تعالى له بأن يبني له بيتاً في واد من أودية الأرض ليس به إنسان ولا جان، يصدر أمر الله لإبراهيم أن يبني لله بيتاً، القبيلة كاملة تتعاون على بناء البيت في شركة منظمة، وإبراهيم يمشي إلى صحراء قاحلة في مكة ليس بها إنسان أبداً ويبني البيت! فبنى البيت.

الرابعة: ابتلاؤه بذبح إسماعيل، فهذه الابتلاءات بسببها فاز بلقب الإمامة، إذ قال الله تعالى عنه في هذا الشأن: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]؛ لأنه أب رحيم، فأراد أن يدخل أولاده معه في هذه الصفة الجليلة الجميلة.

وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، لا نعطيك عهداً بأن نجعل أبناءك أئمة مثلك؛ لأنهم سيظلمون، ويوجد فيهم الظالمون، فلا يستحقون الإمامة وهم ظالمون مشركون.

هذا إبراهيم الخليل عليه السلام، تعرفون أننا ما نصلي فريضة إلا ونصلي عليه، فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

القول في الحروف المقطعة

والسورة مفتتحة بالحروف المقطعة: الر [إبراهيم:1] مكتوبة: (الر)، وتقرأ: ألف لام راء، وهي سورة من سور بلغت ثماني وعشرين سورة كلها مفتتحة بالحروف المقطعة، من البقرة: الم [البقرة:1] إلى: ن وَالْقَلَمِ [القلم:1]، كلها مفتتحة بحرف، أو بحرفين، أو بثلاثة، أو بأربعة، أو بخمسة حروف.

ما معنى: الر [إبراهيم:1]، الم [البقرة:1]، حم [غافر:1]، طس [النمل:1]، طسم [الشعراء:1] ؟

القول الذي يجب أن تعلمه وتثبت عليه: هو تفويض أمر معناها إلى الله، فتقول: الله أعلم بمراده من ذلك، هو أنزلها ويعلم لماذا أنزلها؟ يس [يس:1] ، طه [طه:1] ، ص [ص:1] ، الله أعلم بمراده بذلك؛ لأن هذا من المتشابه، والمتشابه يفوض أمر فهمه إلى الله عز وجل: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، وهذه الآية من سورة آل عمران يا أهل القرآن: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ [آل عمران:7] أي: من الكتاب، ومن القرآن آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].

فهذه الحروف إذا سئلت عن معناها فقل: الله أعلم بمراده، أو تعجز عن هذه الكلمة؟ ما معنى حم * عسق [الشورى:2]؟ ماذا تقول؟ الله أعلم بمراده، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فسرها لنا، ولا قال: معناها كذا وكذا، ولكن التفاسير محشوة بالأباطيل، فيها من يفسر اللام بكذا، والميم بكذا إلى أبعد الحدود، ولا قيمة لتلك التفاسير أبداً، والحق أن نقول: الله أعلم بمراده.

بيان أسرار وحكم افتتاح بعض السور القرآنية بالحروف المقطعة

وإذ درسنا البقرة وآل عمران إلى آخر ذلك، وتكرر لنا هذا، فنلفت النظر إلى أن لهذه الحروف أسراراً وحكماً، فمن أسرارها: أن القرآن الكريم لما أنكر المشركون أنه كلام الله ووحيه وكتابه تحداهم الله عز وجل بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا، تحداهم مع الجن على أن يأتوا بمثل القرآن، ثم تحداهم بعشر سور فقط، وأخيراً تحداهم بسورة، قال تعالى في سورة البقرة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24].

هذا الكتاب المعجز بالسورة مركب من هذه الحروف، ما هو من حروف سريانية أو بابلية أو فارسية فيقولوا: ما نستطيع؛ لأن هذه الحروف ليست حروف كلامنا! بل هي من كلامكم: المر [الرعد:1]، الم [البقرة:1]، و حم * عسق [الشورى:1-2]، هذه الحروف تنطقون بها، ومع هذا عجزتم، فقولوا: آمنا بالله ورسوله، فهو مركب -والله- من هذه الحروف، أوامر ونواه، قصص وأخبار، كلها بهذه الحروف العربية الهجائية التي يتكون منها القرآن، عجزتم فقولوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قولوا: آمنا بالله.

السر الثاني أو الحكمة الثانية: أنه صدر أمر من حاكم مكة في ذاك الوقت أبي سفيان -رضي الله عنه؛ إذ إنه أسلم وحسن إسلامه- مفاد هذا الأمر: أنه لا يسمح لمواطن أن يسمع القرآن، ومن ضبط يستمع إلى قراءة عمر أو أبي بكر أو محمد فإنه يضرب ويسجن ويعذب؛ لماذا؟ قالوا: من باب حماية معتقد الأمة حتى لا يفسد، وحتى لا يتمزق شملنا وننقسم إذاً: فممنوع سماع القرآن! كما قال تعالى عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، إذا قرأ القارئ بأعلى صوت، فصيحوا أنتم وضجوا بألفاظ متعددة؛ حتى ما يفهم كلامه، من باب الوقاية!

فكان من حكمة الله: أن أنزل قرابة ثمان وعشرين سورة مفتتحة بهذه الحروف التي ما علموا معناها أبداً، فكان أحدهم إذا سمع طسم [الشعراء:1] لأول مرة يسمع هذا الصوت فيصغي بأذنيه ويسمع: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الشعراء:2]. الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]، فغلبوا، بل وكانوا يأتون بالليل في الظلام ليستمعوا القرآن من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته! مع أنهم أصدروا أمر المنع، ولكن ما صبروا، إذاً: هذا السر في هذه الحروف، وأما معناها فالله أعلم بمراده بها.

اشتمال القرآن الكريم على علوم الدنيا والآخرة

هذا ما نقوله في قوله تعالى: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ [إبراهيم:1] هذا كتاب أنزلناه إليك، مركب من هذه الحروف، و(كتاب) هنا تنكير للتفخيم والتعظيم، كتاب عظيم ألا وهو القرآن العظيم، والكتاب الحكيم، والكتاب المبين، كتاب وأي كتاب! اشتمل على علوم العالم العلوي والسفلي، وعلى عالم الدنيا وعالم الآخرة، وهذا لا يوجد في كتاب مثله قط، كما يقولون: من الذرة إلى المجرة.

ولو درسنا القرآن وتتبعناه ما خرجت حادثة من حوادث الكون عن القرآن أبداً إلا وهي مذكورة مرموز إليها مشار إليها، كتاب عظيم، أهله الحافظون له، التالون له، العاملون بما فيه من أحكام وشرائع وعقائد هم أفضل الناس، بل هم أهل الله، أهل القرآن أهل الله!

فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم نساء ورجالاً يتنافسون في حفظ القرآن حتى حفظوه، والقرآن نور، والقرآن روح، وهل توجد هداية بدون نور؟ أسألكم بالله: هل الذي يمشي في الظلام يهتدي إلى مراده وحاجته؟ لا بد من الضوء ومن النور، القرآن نور، فوالله ما يهتدي السالكون إلى رضا الله وجنته وولايته إلا بالقرآن، فإن كفروا به وأعرضوا عنه وكذبوا به وتركوه؛ فوالله ما اهتدوا ولو بذلوا المستحيل في سوى ذلك.

ثانياً: القرآن روح، وهل تتم حياة بدون روح؟ أو هل توجد حياة بدون روح؟ لا في إنسان ولا حيوان أبداً، فمن هنا كان الكافرون بالقرآن المكذبون له أمواتاً وليسوا بأحياء، لا قيمة لحياتهم البهيمية عندهم، أموات ما حيوا، إذا آمنوا بكتاب الله وأقبلوا عليه وطبقوا ما فيه حيوا، ودليل هذا من كتاب الله، إذ جاء في سورة الشورى قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] سماه: روحا أم لا؟ لماذا؟ لأنه لا حياة بدونه، العرب قبل أن ينزل القرآن بينهم ويؤمنوا به، هل كانوا شيئاً؟ كانوا أذلاء مستعمَرين للشرق والغرب والجنوب والشمال، لا قيمة لهم ولا وزن، السفه والظلم والخبث والشرك والباطل والفساد والظلم غمرهم، وعم ديارهم، أموات، ما إن نزل القرآن، وآمنوا حتى أصبحوا سادة العالم، وفازوا بكمال وعزة ما عرفتها البشرية، هل القرآن يفعل هذا أم لا؟

وقد عرف هذا اليهود بنو عمنا عليهم لعائن الله، عرفوا أن القرآن روح ولا حياة بدونه، وأن القرآن نور ولا هداية بدونه، وشاهدوا ذلك بأعينهم في حياة أمة الإسلام ورفعتها وسيادتها ثلاثمائة سنة، قالوا: إذاً: هيا نعمل على إبعاد القرآن عن المسلمين؛ حتى يموتوا ويضلوا ولا يهتدوا، وتعاونوا وفعلوا، فإن قلت: ما الدليل يا شيخ؟! فاسأل كبار السن من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، فالقرآن لا يجتمعون عليه إلا على الميت، وأجيبوني: هل في بلادكم ثلاثة أو أربعة أو خمسة من الرجال والنساء يجتمعون على آية يدرسونها؟ الجواب: لا أبداً، قالوا: (تفسير القرآن صوابه خطأ)، إن فسرت وأصبت فأنت مخطئ آثم، (وخطؤه كفر)! إذا فسرت آية وأخطأت فأنت كافر، فألجموا المسلمين لا يتكلمون بالقرآن، هل فهمتم هذا معاشر المؤمنين؟!

وإلى الآن من هم الذين يجتمعون على سماع القرآن لتدبره وتأمله واستنباط الهداية منه والنور؟ ما عرفنا هذا بيننا إلا نادراً، ولكن على الميت نعم، يجتمعون على قراءة القرآن للموتى إلى الآن! هل أفاق المسلمون؟ ما أفاقوا؛ لأن السحر اليهودي مسيطر على العيون والقلوب!

إذ -والله- لو اجتمع أهل كل قرية وحي في بيوت ربهم من المغرب إلى العشاء فقط، يقرءون كتاب الله ويتدارسونه لتغيرت حال المسلمين بالكلية، وعادوا كما كانوا سادة الدنيا، ولا تسأل: كيف يتم ذلك؟! بمجرد أن يحيوا ويعلموا ويعرفوا الطريق لا تسأل كيف يصبحون قادة الدنيا وكيف يقهرون العالم!

اليهود يعرفون هذا، يكفينا الشاشات التلفازية والفيديو والعبث والصحف والأغاني، هذا هو وضع العالم الإسلامي حتى يبقى هكذا أو يموت نهائياً.

معنى قوله تعالى: ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور )

الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ [إبراهيم:1] هذا الضمير لمن؟ لرسول الله. إذاً: فمحمد -والله- رسول الله، ومن قال: ليس برسول الله فهو كاذب ملعون كافر أعمى بهيمة! كيف يقول الله: أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ [إبراهيم:1] وتقول: لا. ما هو رسول؟ كيف ليس برسول والكتاب موجود؟! فلهذا أيما يهودي أو نصراني أو بوذي أو مجوسي يقول: ما نعترف بهذا القرآن أنه نزل على محمد فهو كافر ممقوت شر الخلق لا عقل له ولا بصيرة، الكتاب موجود وتقول: على من نزل؟ دلنا أنت: هل نزل على واحد من قبيلتك؟ على أي رجل من رجالك؟ على من نزل؟! والله يخاطبه ويقول: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ [إبراهيم:1] كتاب عظيم فخم أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ [إبراهيم:1]، أنزل الكتاب إليه لماذا؟ ليغني؟ ليرقص في المسارح؟ قال: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1]، هذه مهمة هذا القرآن، وهذه مهمة رسول الله المنزل عليه، هذه لام التعليل: لأجل أن تخرج الناس.

من الناس؟ ذرية آدم أبيضهم وأصفرهم، أولهم وآخرهم، هم الناس، لتخرج الناس من أين؟ أهم في قعر الأرض؟ في زوايا وسراديب؟ في سجون؟ لتخرج الناس من الظلمات، والظلمات: جمع ظلمة، وهي هنا متعددة: ظلمة الكفر، ظلمة الفسوق، ظلمة الفجور، ظلمة الاعتداء والظلم، ظلمة الشرك، ظلمة الباطل، ظلمة الخبث، ظلمة الفساد، كل هذه ظلمات والله العظيم! ولا يخرج منها أحد إلا بهذا النور الإلهي، وانظر، افتح عينيك على الكرة الأرضية على بلايين البشر فيها، انظر في أي بلد، في برلين أو في بلد آخر، أليس الظلم والخبث والشر والفساد والجهل والظلام مخيم عليهم ومغطيهم؟ من يخرجهم سوى القرآن الكريم؟ كفروا به وكذبوا وقالوا: ما نؤمن به فهلكوا وصاروا في ظلامهم.

والمسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا أعرضوا عن القرآن وما حكموه، وما اجتمعوا عليه ولا طبقوه، فهم في الظلم والخبث والشر والفساد، من ينكر هذا! أنصدق الناس ونكذب الله؟

توقف الهداية على إذن الله تعالى ومشيئته

ماذا قال تعالى؟ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم:1] لا بقدرتك يا محمد وحدك، ولا بالقرآن وحده، لا بد أن يأذن الله لهم في أن يخرجوا من الظلمات إلى النور، ومعنى هذا: اعلم أنك مفتقر إلى الله في هدايتك، تأخذ النور بين يديك، وإذا لم يرد الله لك الهداية فلن تهتدي.

بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إبراهيم:1] ما هو استقلالاً بالقرآن أو بالرسول، لا بد أن يأذن الله، وقد أذن، ما أنزل القرآن ولا بعث الرسول إلا وهو إذن صريح في هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

النور القرآني هاد إلى الصراط المستقيم

بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1] ليخرجهم من ظلمات الكفر والشرك إلى صراط العزيز الحميد، أي: إلى الإسلام، إذ هو الطريق الواضح البين من بين يديك إلى باب الجنة، وفي القرآن: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ألا وهو الإسلام، طريق ما فيه اعوجاج، مستقيم من بين يديك إلى باب الجنة.

والصراط: الطريق المعبد، وهو عن يمينه الأوامر، وعن شماله النواهي، فإذا استطعت أن تمشي مستقيماً لا تترك واجباً ولا تغشى محرماً؛ فطريقك هذا يصل بك إلى الجنة، أما الطرق والاختلافات والديانات المختلفة فهي سبل تدعو إلى الظلمة والجهل والنار، والعياذ بالله تعالى.

أيما قبيلة، أيما جماعة أرادوا أن يخرجوا من الظلمات إلى النور، فاستعملوا القرآن الكريم علماً وفهماً وعملاً، فوالله ليخرجن من الظلمات إلى النور، إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1] أي: إلى طريق العزيز، العزيز معناه: الغالب الذي لا يمانَع في شيء يريده، وهو الله، من هو الغالب الذي غلب كل المخلوقات وقهرها؟ الله. هو العزيز الذي لا يمانع في شيء يريده أبداً ولا يحول حائل دون مراده، الحميد لأفعاله الطيبة ورحماته العامة، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، مع العزة والقهر والغلبة والرحمة، وهذا هو الكمال والجلال.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: الر [إبراهيم:1]، السورة كما علمنا تعرف بسورة إبراهيم، لمَ سميت بسورة إبراهيم؟ لذكر الله تعالى إبراهيم فيها، كذكر نوح في سورة نوح، وكذكر محمد في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم بالعربية الفصيحة معناه: الأب الرحيم، وبالعبرية: أبراهام أب رحيم، وهو حقاً رحيم، ومن دلائل رحمته: أن الله ابتلاه بذبح ولده، فقاسي القلب وشديده يذبح أي شيء، لكنه لا يقوى على ذبح ولده، أما إبراهيم فابتلي بذبح ولده إسماعيل عليه وعلى أبيه السلام.

وإبراهيم يقال فيه: إمام الأنبياء؛ إذ هو من سأل الله تعالى أن يجعله إماماً، فابتلاه الله عز وجل بأربع عظائم، فلما نجح فيها لقبه بالإمام: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، من جعله إماماً؟ الله رب العالمين. وهذه الكلمات هي أوامر:

الأمر الأول: أن يصرخ في وسط قومه وبين أقاربه وأباعده وأهل بلاده، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويبطل عبادة الأوثان، ويندد بها، ويسخر منها، وهذا الموقف، من يقفه سوى إبراهيم؟ وصدر حكم الدولة الكافرة في أرض بابل بإحراقه بالنار، صدر أمر الدولة الكافرة المضادة للتوحيد المحاربة له بأن يقتل إبراهيم إحراقاً في النار.

وبالفعل جمعوا الحطب وأججوا النار أربعين يوماً، ثم وضعوه في منجنيق، ورموه به من بعيد؛ لأنهم لا يستطيعون القرب من هذه النار الملتهبة.

واللطيفة هنا: أنه عرض له جبريل وهو في تلك المسافة ما بين المنجنيق والنار: هل لك يا إبراهيم حاجة؟ قال: أما إليك فلا. ومن ثم صدر أمر الله عز وجل إلى النار، والنار مخلوقة تنطق وتفهم عن الله عز وجل، فقال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فامتثلت وبردت، وكلمة (سلاماً) ملاحظة، فلو قال لها: كوني برداً لتحولت إلى ثلوج يموت بها إبراهيم، لكن بقيد السلامة، فكان جبينه يتفصد عرقاً، وما أحرقت النار إلا الكتاف الذي في يديه ورجليه فقط، أما جسمه فما مسته، هذه الكلمة الأولى.

الثانية: هجرته وخروجه بزوجه وابن أخيه من تلك الديار، إلى أين يذهبون؟ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فاتجه غرباً نحو الشام وفلسطين ومصر، فهذه الهجرة من أفضل الأعمال وأعظمها إلى اليوم، ما رضي أن يبقى مع الكفر والكافرين يمنعونه أن يعبد ربه، فاضطر إلى الهجرة فهاجر، فكانت هجرته أول هجرة في التاريخ البشري، هجرة إبراهيم من بلاد الكفر إلى أرض النجاة هي أول هجرة عرفتها البشرية، هذه كلمة من أروع الكلمات.

الثالثة: أمر الله تعالى له بأن يبني له بيتاً في واد من أودية الأرض ليس به إنسان ولا جان، يصدر أمر الله لإبراهيم أن يبني لله بيتاً، القبيلة كاملة تتعاون على بناء البيت في شركة منظمة، وإبراهيم يمشي إلى صحراء قاحلة في مكة ليس بها إنسان أبداً ويبني البيت! فبنى البيت.

الرابعة: ابتلاؤه بذبح إسماعيل، فهذه الابتلاءات بسببها فاز بلقب الإمامة، إذ قال الله تعالى عنه في هذا الشأن: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]؛ لأنه أب رحيم، فأراد أن يدخل أولاده معه في هذه الصفة الجليلة الجميلة.

وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، لا نعطيك عهداً بأن نجعل أبناءك أئمة مثلك؛ لأنهم سيظلمون، ويوجد فيهم الظالمون، فلا يستحقون الإمامة وهم ظالمون مشركون.

هذا إبراهيم الخليل عليه السلام، تعرفون أننا ما نصلي فريضة إلا ونصلي عليه، فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.