تفسير سورة النحل (23)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.

وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:

قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل:103-109].

إبطال دعوى المكذبين تلقي النبي صلى الله عليه وسلم القرآن من غير الوحي

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103].

عرفنا أن المشركين الكافرين المحاربين لدعوة الإسلام في مكة قبل انتشارها وسيادتها يبحثون عن كل سبب يصرف الناس عن قبول هذه الدعوة، إذ يصدون عن سبيل الله، ومن ذلك: أنهم ادعوا وأشاعوا وأعلنوا بين الناس: أن ما يقوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليس بوحي الله ولا من الله، وإنما يتعلمه من فلان الرومي الصيقلي الذي يشحذ السيوف ويصفيها.

قالوا: يجلس إليه -وهو حقاً كان يجلس إليه ليعلمه ويبصره وليدخله في الإسلام- ليتعلم منه. فأبطل الله هذه الفرية وأسقط هذه الدعوة، ببيان الفرق بين لسان رومي أعجمي وبين القرآن الذي هو بلسان عربي مبين، فأسكتهم، فلا يقبل منهم كلام، فلسان الذي يلحدون إليه ويميلون أعجمي رومي، وهذا لسان عربي مبين، فكيف يتفقان؟

فأبطل الله هذه الفرية واجتثها من أصولها.

ضلال المكذبين بآيات القرآن

ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104]، حقيقة هذه ثابتة ثبوت الشمس التي فوقنا والأرض التي تحتنا، فالذين لا يؤمنون بالقرآن وبما في القرآن وبآيات القرآن لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104] والله إن هذا خبر عظيم، وهو يحمل الوعد الصادق الصحيح: الذين لا يؤمنون بآيات الله القرآنية عرباً كانوا أو عجماً، في الأولين أو في الآخرين؛ هؤلاء لا يهديهم الله، إذ الهداية لها سبب، وسبب الهداية: القرآن الكريم بما فيه، فإذا أعرضوا عن القرآن وتكبروا وأبوا أن يدرسوه أو يعملوا بما فيه والله ما يهتدون.

وإذا لم يهتدوا فما جزاؤهم غير العذاب؟

لا جزاء لهم إلا العذاب الأليم.

ومعنى هذا: أن الآية تدعو إلى الإيمان بالقرآن الكريم، وأنه كلام الله ووحيه، الله أنزله على رسوله ليحمل التشريع، يحمل الهداية، يحمل بيان طريق السعادة في الدنيا والآخرة، فآمنوا به يا عباد الله وأقبلوا عليه قراءة وعملاً بما فيه؛ تهتدون إلى سبل سعادتكم وطريق نجاتكم، فإن استكبرتم وأعرضتم وقلتم: ما نبالي فالعذاب لازم، واسمعوا الخبر: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104] قطعاً، مادام أنهم ما اهتدوا إلى طريق الجنة فليس هناك إلا طريق النار فقط وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104] موجع.

تنزه المؤمنين عن افتراء الكذب

خبر آخر: يقول تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، من هو الذي يختلق الكذب ويفتريه؟ المؤمن أو الكافر؟

الجواب: الكافر بآيات الله، أما المؤمن بالقرآن الكريم وما يحويه ويشتمل عليه من الهداية والله ما يكذب، فالذي يختلق الكذب ويفتريه من عقله ويقول كذا وكذا، هذا لأنه لا يؤمن بآيات الله، وهذه الجملة محصورة هكذا: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، فهي دعوة إلى الإيمان بالقرآن.

معنى قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)

ثم قال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106]، من كفر بالله من بعد إيمانه وانشرح صدره بالكفر واطمأن إليه فهذا جزاؤه: غضب الله عليه والعذاب العظيم.

أما من أكره على كلمة الكفر وصدره منشرح بالإيمان مطمئن إليه فلا يضره ذلك الكفر الذي قاله أو فعله أبداً، وهذه نزلت في خباب وعمار وصهيب وبلال .. مجموعة كانوا يعذبون، فمنهم من مات تحت التعذيب، ومنهم من أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يعطوا المشركين ما يطلبوا منهم، فقال لـعمار أعطهم ما يريدون، فكانوا يقولون كلمة الكفر، وهي: النيل من رسول الله وسب الرسول والتمجد والتمدح بالأصنام، وهؤلاء نجاهم الله وعفا عنهم وطمأن قلوبهم بأنهم لا خوف عليهم ولا حزن.

إذاً: من كفر بالله من بعد إيمانه -والعياذ بالله- وما هو بمكره على الكفر، فهؤلاء مصيرهم معروف وجزاؤهم غضب الله ولهم العذاب العظيم.

أما من ابتلي بالتعذيب والاضطهاد حتى يسب أو يقول الباطل أو يكفر فلا شيء عليه، بشرط أن يكون صدره مطمئن إلى الإيمان ما يتخلخل ويتزلزل باقياً على إيمانه لكنه قال كلمة الكفر؛ لأنهم هددوه بالضرب والتعذيب فقالها، وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة وإن كان نزل في عمار وفلان، لكنه باق إلى يوم القيامة.

أيما مؤمن يكره بالضرب أو بالحديد والنار على أن يطلق ويقول: طلقت، فالطلاق لا يتم!

على أن يحنث لا يحنث، وإن قال أو فعل ما حلف عليه!

وإن أعتق فالعتق لا يمضي؛ لأن القاعدة بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

معاشر المؤمنين هيا نحفظ هذا الحديث: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

(رفع عن أمتي الخطأ) فمن قتل خطأً لا يدخل النار والله، ومن أفطر خطأً لا يفسد صيامه، ومن قال كلمة خطأ ما عليه من إثم.

(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، الصائم يأكل ناسياً هل يفطر؟

الجواب: لا. ما يفطر ولا يفسد صيامه.

(وما استكرهوا عليه)، إذا أكره العبد بالقوة على أن يقول كلمة كفر أو يشرب حراماً أو يفعل محرماً فلا إثم عليه شرط: أن يكون مكرهاً، وإن هو صبر وتحمل فدرجته عالية، لا يأمره الله بأن يقول الكفر حتى لا يموت لا، فله أن يصبر فإن صبر فلا شيء عليه.

واستثنى أهل العلم -كما قلت بالأمس- القتل، فإذا قال لك الكافر: اقتل هذا المؤمن فلا تقتله. فإن قال لك: اقتله أو أقتلك، فقل: اقتلني. افد هذا المؤمن بنفسك، لأن أحدكما ميت لابد، إذاً: كن أنت المقتول ولا تكن القاتل.

هذه المسألة في القتل: إذا ألزمت بأن تقتل مسلماً فارض بأن تقتل أنت ولا تقتل مسلماً.

أما قضية الضرب والسجن فلا قيمة لها في القتل، لأن تقتل أنت خير لك من أن تقتل مؤمناً، وما عدا ذلك من سائر الذنوب وكبائرها تفعلها ونفسك مطمئنة بحكم الله ورضاه وتنجو من العذاب ولا حرج.

وبالأمس ذكرنا: أن عبد الله بن حذافة السهمي كان قد أسر مع مجموعة من المسلمين في بلاد الروم ، كانوا في الجهاد فأسروا، وأخذ ملك الروم يعذب عبد الله بن حذافة حتى نال منه ما نال، وهو صابر يتحمل، ثم قال له: أقبل رأسك وتطلق معي هؤلاء الأسرى، فقال: نعم. فقام فقبل رأسه فأطلقه والأسرى معه، فلما جاءوا إلى المدينة النبوية على عهد خلافة عمر وكأن بعض الناس ما استساغوا ذلك فقالوا: كيف يقبل رأس كافر؟ فقام عمر فقبل رأسه رضي الله عنه.

والشاهد عندنا: أن المؤمن المكره على فعل شيء يجوز له فعله، ولا يأثم عليه ولا يؤاخذ به؛ إذ كان مكرهاً بالحديد والنار، وقد دلت على هذا هذه الآية الكريمة: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ [النحل:106]، جوابه ماذا؟ فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم، وبين هذا الاستثناء والمستثنى فقال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ [النحل:106] فالعقوبة على من انشرح صدره بالكفر وفرح به وقاله.

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103].

عرفنا أن المشركين الكافرين المحاربين لدعوة الإسلام في مكة قبل انتشارها وسيادتها يبحثون عن كل سبب يصرف الناس عن قبول هذه الدعوة، إذ يصدون عن سبيل الله، ومن ذلك: أنهم ادعوا وأشاعوا وأعلنوا بين الناس: أن ما يقوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليس بوحي الله ولا من الله، وإنما يتعلمه من فلان الرومي الصيقلي الذي يشحذ السيوف ويصفيها.

قالوا: يجلس إليه -وهو حقاً كان يجلس إليه ليعلمه ويبصره وليدخله في الإسلام- ليتعلم منه. فأبطل الله هذه الفرية وأسقط هذه الدعوة، ببيان الفرق بين لسان رومي أعجمي وبين القرآن الذي هو بلسان عربي مبين، فأسكتهم، فلا يقبل منهم كلام، فلسان الذي يلحدون إليه ويميلون أعجمي رومي، وهذا لسان عربي مبين، فكيف يتفقان؟

فأبطل الله هذه الفرية واجتثها من أصولها.

ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104]، حقيقة هذه ثابتة ثبوت الشمس التي فوقنا والأرض التي تحتنا، فالذين لا يؤمنون بالقرآن وبما في القرآن وبآيات القرآن لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104] والله إن هذا خبر عظيم، وهو يحمل الوعد الصادق الصحيح: الذين لا يؤمنون بآيات الله القرآنية عرباً كانوا أو عجماً، في الأولين أو في الآخرين؛ هؤلاء لا يهديهم الله، إذ الهداية لها سبب، وسبب الهداية: القرآن الكريم بما فيه، فإذا أعرضوا عن القرآن وتكبروا وأبوا أن يدرسوه أو يعملوا بما فيه والله ما يهتدون.

وإذا لم يهتدوا فما جزاؤهم غير العذاب؟

لا جزاء لهم إلا العذاب الأليم.

ومعنى هذا: أن الآية تدعو إلى الإيمان بالقرآن الكريم، وأنه كلام الله ووحيه، الله أنزله على رسوله ليحمل التشريع، يحمل الهداية، يحمل بيان طريق السعادة في الدنيا والآخرة، فآمنوا به يا عباد الله وأقبلوا عليه قراءة وعملاً بما فيه؛ تهتدون إلى سبل سعادتكم وطريق نجاتكم، فإن استكبرتم وأعرضتم وقلتم: ما نبالي فالعذاب لازم، واسمعوا الخبر: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104] قطعاً، مادام أنهم ما اهتدوا إلى طريق الجنة فليس هناك إلا طريق النار فقط وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:104] موجع.

خبر آخر: يقول تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، من هو الذي يختلق الكذب ويفتريه؟ المؤمن أو الكافر؟

الجواب: الكافر بآيات الله، أما المؤمن بالقرآن الكريم وما يحويه ويشتمل عليه من الهداية والله ما يكذب، فالذي يختلق الكذب ويفتريه من عقله ويقول كذا وكذا، هذا لأنه لا يؤمن بآيات الله، وهذه الجملة محصورة هكذا: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، فهي دعوة إلى الإيمان بالقرآن.

ثم قال تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106]، من كفر بالله من بعد إيمانه وانشرح صدره بالكفر واطمأن إليه فهذا جزاؤه: غضب الله عليه والعذاب العظيم.

أما من أكره على كلمة الكفر وصدره منشرح بالإيمان مطمئن إليه فلا يضره ذلك الكفر الذي قاله أو فعله أبداً، وهذه نزلت في خباب وعمار وصهيب وبلال .. مجموعة كانوا يعذبون، فمنهم من مات تحت التعذيب، ومنهم من أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يعطوا المشركين ما يطلبوا منهم، فقال لـعمار أعطهم ما يريدون، فكانوا يقولون كلمة الكفر، وهي: النيل من رسول الله وسب الرسول والتمجد والتمدح بالأصنام، وهؤلاء نجاهم الله وعفا عنهم وطمأن قلوبهم بأنهم لا خوف عليهم ولا حزن.

إذاً: من كفر بالله من بعد إيمانه -والعياذ بالله- وما هو بمكره على الكفر، فهؤلاء مصيرهم معروف وجزاؤهم غضب الله ولهم العذاب العظيم.

أما من ابتلي بالتعذيب والاضطهاد حتى يسب أو يقول الباطل أو يكفر فلا شيء عليه، بشرط أن يكون صدره مطمئن إلى الإيمان ما يتخلخل ويتزلزل باقياً على إيمانه لكنه قال كلمة الكفر؛ لأنهم هددوه بالضرب والتعذيب فقالها، وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة وإن كان نزل في عمار وفلان، لكنه باق إلى يوم القيامة.

أيما مؤمن يكره بالضرب أو بالحديد والنار على أن يطلق ويقول: طلقت، فالطلاق لا يتم!

على أن يحنث لا يحنث، وإن قال أو فعل ما حلف عليه!

وإن أعتق فالعتق لا يمضي؛ لأن القاعدة بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

معاشر المؤمنين هيا نحفظ هذا الحديث: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).

(رفع عن أمتي الخطأ) فمن قتل خطأً لا يدخل النار والله، ومن أفطر خطأً لا يفسد صيامه، ومن قال كلمة خطأ ما عليه من إثم.

(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، الصائم يأكل ناسياً هل يفطر؟

الجواب: لا. ما يفطر ولا يفسد صيامه.

(وما استكرهوا عليه)، إذا أكره العبد بالقوة على أن يقول كلمة كفر أو يشرب حراماً أو يفعل محرماً فلا إثم عليه شرط: أن يكون مكرهاً، وإن هو صبر وتحمل فدرجته عالية، لا يأمره الله بأن يقول الكفر حتى لا يموت لا، فله أن يصبر فإن صبر فلا شيء عليه.

واستثنى أهل العلم -كما قلت بالأمس- القتل، فإذا قال لك الكافر: اقتل هذا المؤمن فلا تقتله. فإن قال لك: اقتله أو أقتلك، فقل: اقتلني. افد هذا المؤمن بنفسك، لأن أحدكما ميت لابد، إذاً: كن أنت المقتول ولا تكن القاتل.

هذه المسألة في القتل: إذا ألزمت بأن تقتل مسلماً فارض بأن تقتل أنت ولا تقتل مسلماً.

أما قضية الضرب والسجن فلا قيمة لها في القتل، لأن تقتل أنت خير لك من أن تقتل مؤمناً، وما عدا ذلك من سائر الذنوب وكبائرها تفعلها ونفسك مطمئنة بحكم الله ورضاه وتنجو من العذاب ولا حرج.

وبالأمس ذكرنا: أن عبد الله بن حذافة السهمي كان قد أسر مع مجموعة من المسلمين في بلاد الروم ، كانوا في الجهاد فأسروا، وأخذ ملك الروم يعذب عبد الله بن حذافة حتى نال منه ما نال، وهو صابر يتحمل، ثم قال له: أقبل رأسك وتطلق معي هؤلاء الأسرى، فقال: نعم. فقام فقبل رأسه فأطلقه والأسرى معه، فلما جاءوا إلى المدينة النبوية على عهد خلافة عمر وكأن بعض الناس ما استساغوا ذلك فقالوا: كيف يقبل رأس كافر؟ فقام عمر فقبل رأسه رضي الله عنه.

والشاهد عندنا: أن المؤمن المكره على فعل شيء يجوز له فعله، ولا يأثم عليه ولا يؤاخذ به؛ إذ كان مكرهاً بالحديد والنار، وقد دلت على هذا هذه الآية الكريمة: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ [النحل:106]، جوابه ماذا؟ فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم، وبين هذا الاستثناء والمستثنى فقال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ [النحل:106] فالعقوبة على من انشرح صدره بالكفر وفرح به وقاله.

ثم قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل:107].

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ [النحل:107]، ذلك العذاب العظيم الذي توعد الرب تعالى به هؤلاء الكفرة بآيات الله، المكذبين بها.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:107]، الذين يرتدون والعياذ بالله، ما يطيقون العذاب والاضطهاد فيدخلون في الكفر ويشركون بالله، هؤلاء يقول تعالى فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:107]، لو استحبوا الآخرة لرضوا بأن يموتوا كلهم ويعذبوا طول العام ولا يرتدوا ولا يخرجوا عن دين الله أبداً، فيعطون الكلمة ولكن ما يخرجون عن إيمانهم وعقيدتهم، لكنهم استحبوا الحياة الدنيا، قالوا: إلى متى ونحن في الاضطهاد وكذا، نكون مع الكافرين.

هؤلاء يقول تعالى فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل:107]، فهم كافرون، فلهذا ما هداهم الله ولا يهديهم، فيكفي أنهم آثروا الدنيا على الآخرة، واستحبوا الحياة الدنيا وأقبلوا عليها وأعرضوا عن الآخرة وأدبروا عنها، فلا يلتفتون إليها؛ لا بإقام الصلاة ولا بإيتاء الزكاة مثلاً.

نبرأ إلى الله ونعوذ بالله من أن نستحب الحياة الدنيا على الآخرة!

هيا بنا نستحب الآخرة على الدنيا، ونجعل حبنا.. رغبتنا.. همنا كله منصب على الدار الآخرة؛ لنكمل ونسعد فيها لا في هذه الدنيا الفانية الزائلة الراحلة عنا.

ويدل لذلك: أن تعطي أكثر وقتك للآخرة.. أكثر همك للآخرة.. أكثر أعمالك للآخرة، هذا يدل على إيثارك الآخرة على الدنيا، أما من أقبل على الدنيا ليل نهار لا هم له إلا هي، من أجلها يعمل، ومن أجلها يقوم ويقعد، فهذا قد استحبها ودخل حبها في قلبه وأصبح يعمل لها، همه طول الليل والنهار الدنيا.

نبرأ إلى الله من هذه الصفة، وندعو الله أن ينجي كل مؤمن ومؤمنة من أن يكون مستحباً للحياة الدنيا على الآخرة!

وهذا كلام الرب تبارك وتعالى: ذَلِكَ [النحل:107] أي: العذاب الأليم بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النحل:107]، فلهذا ارتدوا عن إيمانهم وكفروا والله لا يهدي القوم الكافرين، فلهذا لا يهديهم، دخلوا في الإسلام وخرجوا عنه وأدبروا عنه وأقبلوا على الكفر فكيف يهديهم الله؟ ليسوا أهلاً للهداية: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل:107].


استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النحل (25) 4608 استماع
تفسير سورة النحل (4) 4014 استماع
تفسير سورة إبراهيم (9) 3695 استماع
تفسير سورة الحجر (12) 3616 استماع
تفسير سورة النحل (13) 3549 استماع
تفسير سورة النحل (3) 3509 استماع
تفسير سورة إبراهيم (12) 3466 استماع
تفسير سورة النحل (16) 3367 استماع
تفسير سورة النحل (1) 3235 استماع
تفسير سورة الحجر (6) 3167 استماع