نداءات الرحمن لأهل الإيمان 79


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

تقدم معنا أربعة وسبعون نداء من نداءات الرحمن البالغة تسعون نداء، وهذه النداءات المنادي بها الله جل جلاله، والمنادى بها هم عباده المؤمنون به وبلقائه وبرسوله صلى الله عليه وسلم. وهو لا يناديهم لأي شيء، بل يناديهم ليأمرهم باعتقاد أو قول أو فعل ما من شأنه أن يزكي نفوسهم، ويطهر أرواحهم؛ ليكملوا ويسعدوا، أو يناديهم لينهاهم عما يدسي نفوسهم ويخبثها من الشرك والمعاصي، أو يناديهم ليبشرهم بما أعد لهم في دار النعيم المقيم، أو يناديهم لينذرهم مما يدسي نفوسهم ويلوثها؛ لتصبح أهلاً لدار الشقاء والخسران المبين، أو يناديهم ليعلمهم ما تزكو به أنفسهم وتسمو أرواحهم. فلهذه العلل يناديهم جل جلاله، وعظم سلطانه.

وهو يناديهم وهو في غنى كامل عنهم، ولكن بحكم الولاية التي بينهم وبينه فهو يناديهم لهذه الأغراض السامية. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

هذا هو [ النداء الخامس والسبعون ] وهو [ في حرمة التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ] صلى الله عليه وسلم [ و] في [ الإذن في التناجي بالبر والتقوى ] فمضمون هذا النداء: أنه تعالى ناداهم ليعلمهم حرمة التناجي بالإثم والعدوان، وليعلمهم أنه أذن لهم في التناجي بالبر والتقوى. والتناجي هو: التحدث سراً وفي خفاء مع من تناجيه أو تحدثه، كما كان يناجي موسى ربه، وكما نناجي مولانا في السجود، فنحن نتكلم معه سرياً، فالتناجي: التحدث في الخفاء والسر. وفي هذا النداء الخامس والسبعين ناداهم سبحانه ليعلمهم حرمة التناجي بالإثم، أي: بما فيه إثم، والعدوان، أي: بما هو ظلم؛ لأنهم أولياؤه، وهو لا يأذن لهم أن يتناجوا بالإثم والمعصية والظلم والعدوان، وبمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يأذن لهم في التناجي بالبر والخير وتقوى الله عز وجل. فهو يعلمنا حرمة التناجي بيننا بالإثم والعدوان، وبمعصية الرسول عليه السلام، ويعلمنا أنه أذن لنا في التناجي بالبر والتقوى، هذا مضمون هذا النداء. فهيا بنا نتغنى بهذا النداء، ثم نأخذ في شرحه وتفسيره، وبيان المراد منه إن كنا أولياءه المؤمنين به المتقين له.

[ الآيتان (9 ، 10) من سورة المجادلة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:9-10] ] والله هو صاحب هذا النداء، وهو الذي نادى به عباده المؤمنين. اللهم اجعلنا منهم.

وهيا نتعرف إلى ما من أجله نادانا، فلابد أنه ينادينا لأمر عظيم؛ ليربينا ويكملنا ويسعدنا.

المؤمنون أحياء والكافرون أموات وسبب نداء الله للمؤمنين دون غيرهم من الناس

[ الشرح ] قال الشارح غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم: [ نادى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:9] ] فلنقل: لبيك اللهم لبيك! فإذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فقل: لبيك اللهم لبيك! وأعطها سمعك، واسمع ما يقول لك سيدك ومولاك إن كنت تؤمن به وبلقائه [ لأن المؤمن بحق حي، يسمع النداء ويعي ] ويفهم [ ما يقال له؛ وذلك لكمال حياته ] فحياته كاملة. وأما الكافر فإنه لا يناديه؛ لأنه ميت، لا يسمع النداء، ولا يعي ولا يفهم ما ينادى به، ولهذا لا ينادي الله الكافرين؛ لأنهم أموات، فإذا آمنوا واستشرت الحياة فيهم وانتشرت في أبدانهم فإنه يناديهم. وهذا هو سر خصوصية المؤمنين بحق - لا بالادعاء والنطق- بالنداء، وذلك لأنهم أحياء بروح الإيمان. وقد [ ناداهم ليربيهم روحياً، ويهذبهم أخلاقياً ] أي: ليربي أرواحهم، ويهذب أخلاقهم، وليصبحوا سادات أهل الدنيا، وهم كذلك، وأما الفجرة والكفرة والفسقة وأهل الشرك والباطل فليسوا بأهل لأن يناديهم ذو الجلال والإكرام.

قال: [ وكيف لا، وهو مولاهم ووليهم، وهم عبيده وأولياؤه ] فالله مولاهم ووليهم.

الطريق الموصلة إلى ولاية الله عز وجل وانتكاس المسلمين في معنى الولي

تمت ولاية الله للمؤمنين بشيئين اثنين: أولاً: الإيمان الصادق الحق، والثاني: التقوى له عز وجل. فإذا سئلت عن كيفية الحصول على ولاية الله، فقل: بشيئين لا ثالث لهما، وهما: الإيمان والتقوى. فإن قيل لك: كيف عرفت هذا؟ ومن أين لك هذا؟ فقل له: قال تعالى في سورة يونس عليه السلام: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]. فكل مؤمن تقي هو لله ولي. فالولاية لا تحصل بالعمائم الخضراء، ولا بالمسابح الطويلة، ولا بتقديس الجهال لنا، ولا بتقبيل أيدينا وأرجلنا، ولا ببناء القباب على قبورنا، ولا بوضع التوابيت الخشبية والأزر الحريرية عليها. بل أصبح هؤلاء أولياء الله عند عامة هذه الأمة لما هبطت الأمة من علياء كمالها، فهم لا يعرفون ولياً في السوق أو في المتجر أو في البستان أبداً، وإنما من بُني على قبره قبة خضراء أو بيضاء، ووضع له تابوت وأزر الحرير. ثم إنهم يعبدون هذا الولي مع الله، ويأتون إليه، ويستغيثون به، ويدعونه، وينقلون إليه المرضى، ويعكفون حول قبره. وكل هذا بسبب الثالوث الأسود، فهو الذي قطع صلة هذه الأمة بربها، وتركها كالسوائم من الحيوانات، لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً.

وهذا الثالوث الأسود مكون من ثلاثة عناصر مبغضة ومعادية للإسلام وأهله، ولا هم لهم إلا محو الإسلام، وقتل أهله، وهم المجوس واليهود والنصارى الصليبيون. ونحن لا نبالي بمعرفة هذا؛ لأننا ما زلنا هابطين.

فلنعرف أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، فكل مؤمن تقي فهو لله ولي، وإذا عرفت أنه ولي الله فلا يجوز أن تسبه، ولا أن تشتمه، ولا أن تفجر بامرأته أو ابنته، ولا أن تسرق ماله، ولا أن ترفع صوتك عليه، ولا تقدر على ذلك؛ لأنه ولي الله، والله يقول: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ). وهم حصروا الولاية في الأموات؛ ليصبح الأحياء أعداء الله؛ ولذلك انكح نساءهم، أو افجر ببناتهم، أو اسرق أموالهم، أو سب أعراضهم، أو اشتمهم، أو قتلهم، كما هو الواقع. ولست واهماً في هذا. فإذا اعتقد أنهم أولياء الله لم يوجد مؤمن يزني بمؤمنة، ولا يسب مؤمناً، ولا يركله، ولا يصفعه على وجهه، ولا يقتله، ولا يمزق لحمه، ولا يقدر على أن يمسه بسوء، ولكن اليوم هناك الملايين يفعلون هذا.

إذاً: سلب العدو الولاية عن الأحياء ووضعها على الأموات أباح دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم.

وهذه الكلمة والله لو ترحل إلى الصين من أجل أن تفهمها هذا الفهم وتعرفها لكان سفرك ذا قيمة، ولكن لا يوجد من يعي ويفهم ويفقه.

من مظاهر هبوط الأمة

لقد هبطت الأمة من علياء سمائها إلى أسفل الأرض، وأصبح يأكل بعضها بعضاً، والعلة هي الجهل، فقد أبعدونا عن القرآن، وقالوا: اقرءوه على الموتى، ووالله لقد مر على قرى العالم الإسلامي ومدنه قروناً لم يكن يسمع فيه قرآناً يقرأ إلا في بيت الميت.

وأزيدكم: لم نشاهد رجلاً في المسجد إذا مر به أحد يقرأ القرآن يقول: تعال يا سيد! اقرأ علي شيئاً من القرآن، ولا يوجد من يقول لابنه أو أخيه أو جاره: من فضلك! أسمعني شيئا من كلام ربي. فاعرفوا كيف متنا. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! ). ويكنيه تبجيلاً وتعظيماً له ( أسمعني شيئاً من القرآن! ) أو: ( اقرأ علي شيئاً من القرآن! ). فيعجب عبد الله ويقول: ( أعليك أنزل، وعليك أقرأ يا رسول الله؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري ). فيقرأ عليه بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]. حتى بلغ ثلاثين آية. حتى انتهى إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]. وإذا بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان الدموع وهو يبكي، ويقول: ( حسبك حسبك حسبك ). ونحن الهابطون لا يوجد فينا من يقول لأخيه: اقرأ علي شيئاً من القرآن.

والقرآن هو الروح، ولا حياة بدون روح في أي كائن، فلا توجد حياة في مخلوق بدون روح، لا في دجاجة، ولا في عصفور ولا في ذبابة، والقرآن هو الروح، فإذا فقده العبد مات، والدليل على أنه روح، وأنه به الحياة: قول الله تعالى في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]. فاحفظ يا عبد الله! واحفظي يا أمة الله! أنه لا حياة للعبد إلا بالإيمان وبالقرآن، وفهمه وتطبيقه والعمل به، وأنه لا هداية في مجالات الحياة حتى في التجارة إلا بنور القرآن، والذين أعرضوا عن كتاب الله وانصرفوا عنه يتخبطون في ظلمات الحياة، وهم لا يشعرون. ولا هداية بدون نور، والقرآن نور: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]. ومن يوم أن صرف المسلمون عن القرآن وهم في الظلام وفي الفتن، وفي البلايا وفي الرزايا يتخبطون قروناً عديدة. وإلى الآن لم نفق. ونحن نقول: لقد صحونا، ولا توجد صحوة، بل ما زلنا كما كنا نقرأ القرآن على الموتى، ويزني بعضنا بنساء بعض، ويأكل بعضنا أموال بعض، ويسب بعضنا بعضاً، بل ونشتم ونعير ونقبح حتى العلماء والحكام، والصلحاء والتجار، وكل أحد، ولا هم لنا إلا الطعام. وسبب هذا عندنا: أننا ما رُبينا في حجور الصالحين، بل كلنا أولاد الشوارع والمقاهي والمدارس الهابطة، وهكذا. فلا ترجُ منا كمالاً في آدابنا وأخلاقنا وأوضاعنا؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين.

طريق العودة إلى عزنا وسيادتنا وكمالنا

هيا نقل: إننا عائدون، وقد تغنى إخواننا الفلسطينيون بهذه الكلمة. ولا تقولوا: لا يمكننا العودة؛ فنحن مكبلون ومغلولون بأغلال الأهواء والشهوات، وحبال الشياطين، وأعظم من ذلك الجهل وظلمته. وأقول: بلغوا السياسيين وأصحاب الصحافة الكتاب أن يحضروا مجالس العلم، أو انقلوا إليهم ما تعلمتموه، ولا تقولوا: لا نستطيع، أو لسنا في حاجة إلى أن ننقل، وقد كان المؤمنون في الصدر الأول في القرون الذهبية الثلاثة يأتون للحج، وللرواية واكتساب العلم والمعرفة، فكانوا يلتقون في هذه البلاد شهراً أو شهرين، فيروون الأحاديث، ويعرفون الفقه والتفسير، ويعودون مزودين إلى ديارهم بالعلم والمعرفة. وأنتم كونوا مستعدين لأن تبلغوا رجال الحكمة والسياسة والعلم والمنطق.

وإن شئتم حلفت لكم، وإني لعلى بينة من أمري - وانزعوا من أذهانكم: هذا العميل .. هذا الذنب .. هذا الوهابي، وكل هذه الأمراض التي تغلي غليان المراجل في صدور هذه الأمة الهابطة، واعلموا أن العود بنا إلى سبل السلام وطرق النجاة سهلة والله جداً، وهي لا تكلف ديناراً ولا درهماً، ولا توقف عملاً في مصنع ولا في مزرعة، ولا تغلق باب متجر، ولا تطالب بدينار ولا درهم، وإنما فقط أن نؤمن إيماناً حقاً، ثم نستعيد سيرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ أرشده الله. وعلى أهل القرى في الوديان أو الجبال وفي الأحياء في المدن في العالم الإسلامي إذا دقت الساعة السادسة مساءً ومالت الشمس إلى الغروب أن يقفوا دولاب العمل مثل الإفرنج، فيغلق التاجر دكانه، ويرمي الفلاح مسحاته، ويرمي الكاتب قلمه، ويتجهون كلهم إلى بيوت الإله الرب تعالى، ونأتي بأطفالنا ونسائنا، فتجلس النساء من وراء الستارة، ومكبر الصوت بينهن، والأطفال دونهن، والفحول أمامهن، والمعلم المربي أمام الجميع كمجلسي هذا، ويبعث أحدهم يتجول في القرية؛ حتى لا يبقى دكاناً مفتوحاً، ولا مقهى ولا مصنعاً، ويجلس أهل القرية كلهم في بيت ربهم يتعلمون الكتاب والحكمة، ويزكون أنفسهم. وقد من الله على المؤمنين بهذا في قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].

وكذلك الأحياء في المدن إذا دقت الساعة السادسة لا يبق دكان مفتوح الباب ولا مقهى ولا مصنع، ولا من يتجول في الشارع، بل يحضر أهل الحي كلهم إلى بيت ربهم، وإذا ضاق المسجد وسعوه، ولو بالخشب والحطب، ولو بالقطن، حتى يتسع لأهل الحي بنسائهم وأطفالهم ورجالهم، ويجلس لهم المربي يعلمهم الكتاب والحكمة- أي: السنة- ويزكيهم آداباً وأخلاقاً. وهكذا كل ليلة وطول العام، بل وطول الحياة، والنتائج والله لا تقدر ولا تقوم.

وسأخبركم بالنتائج، ففي أربعين يوماً لا يبق من يفكر بالفجور بامرأة مؤمن، ولا من يسرق شيئاً من بيت مؤمن ولا مؤمنة، ولا من يسمع كلمة سوء أو بذاءة بين الناس، وينتهي الظلم والشر، والخبث والفساد. هذا من الجانب الروحي.

وأما المادي فلا تسأل، فوالله ليفيضن المال، ولا يجدون من يأخذ؛ لأنهم إذا زكت نفوسهم انتهى الشره والطمع والتكالب على المال، وانتهت الأهواء والشهوات، وأصبح المؤمنون يكتفون بقليل الطعام وقليل الشراب، وما يكفي من اللباس، فيفيض عليهم المال.

وبعد أن يتغير الوضع هكذا، ويصبح الرجال يشهدون بيوت ربهم، ويسمعون الكتاب والحكمة يصبحون كلهم أولياء الله ربانيين، وحينئذ لو رفعوا أيديهم إلى الله لما ردها خائبة، ولو حملوا الحجارة فقط لحطموا عدوهم الذي يريد أن يؤذيهم أو يضرهم. وهم لن يحملوا حجارة فقط، بل سيحملون الهيدروجين والذرة؛ لأنهم يعملون النهار بكامله، وليسوا كسالى ولا مبطلون، ويتركون العمل فقط هذه الساعة والنصف؛ ليذهبوا إلى بيت ربهم لتلقي المعرفة والهدى، وينطلقون إلى العمل من صلاة الصبح إلى قبل صلاة المغرب.

وبلغوا المسئولين أن يجربوا هذا في قرية واحدة فقط، فتلتزم بهدي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وستجدون أنه لن يتخلف وعد الله، وبعد أربعة أشهر حاولوا أن تحللوا ما أصابهم، فستجدون الطهر والصفاء والقناعة والرحمة والهداية، واختفاء مظاهر الكذب والخيانة والفجور والشرك والباطل. ولما بدأت الشيوعية تنفخ في الاشتراكية استجببناها وسمعناها، ونقلناها وآويناها ونشرناها، ولنحاول الآن أن ننشر هذا.

ولا تقولوا: هذا الشيخ خيالي، يتكلم في الخياليات، فهناك من يعتبر الاجتماع في بيت ربكم الذي من أجله خلقتم خيالاً. واليهود والنصارى والبوذيون والكفار والفجار في العالم كله من كندا إلى الصين إذا دقت الساعة السادسة انطلقوا إلى المقاهي والملاهي والمراقص والسينما، وأنتم تخافون إذا انطلقتم إلى بيت الرب!

ونحن لا ننقل هذا الكلام؛ لأننا أمة ميتة، فلا صحفي يكتب، ولا متحدث يتكلم، بل إننا الآن نعود إلى البيت ولا نذكر كلمة من هذا أبداً؛ لأننا ما زلنا هابطين، وقد كنا في علياء السماء نقود البشرية، ونهديها إلى كمالها وسعادتها، ثم احتالوا علينا حتى هبطنا، ولما هبطنا استعمرونا من أندونيسيا إلى موريتانيا، وأذلونا وأهانونا، ولا تقولوا: هذه خيالات. فيوم أن صرفونا عن الكتاب والسنة عرفوا أنهم قادرون على أن يفعلوا الأعاجيب، فمزقوا دولتنا، ومزقوا ديننا، وفرقونا، وفعلوا بنا الأعاجيب، وها نحن أذلاء فقراء مهانين، ولم نستيقظ بعد، بل مازلنا يقتل بعضنا بعضاً. اللهم اشهد، فقد بلغنا.

ولا نعيد هذا الكلام؛ لأنه لا ينفع معنا، بل علمنا العدو أن نقول: هذا الكلام خيالات، وأقول: ليجرب أهل القرية هذا، والقرى بالملايين في العالم الإسلامي، وليجمع شيخ القرية وإمامها وواعظها قريته ويعلمها الكتاب والحكمة، ولننظر بعد أربعة أشهر كيف تتحول الأخلاق، وتتبدل الطباع. ونعود إلى الشرح؛ فالبكاء لا يجدي.

النهي عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول

قال: [ فقال لهم: إِذَا تَنَاجَيْتُمْ [المجادلة:9] لأمر استدعى ذلك منكم، فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:9]؛ حتى لا تكون حالكم كحال اليهود والمنافقين الذين يتناجون بالإثم - أي: بما هو إثم في نفسه- كما يتناجون بما هو عدوان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، ومعصية لله والرسول، إذ كانوا يتواصون فيما بينهم بعدم طاعة الله والرسول؛ لذا نهى تعالى أولياءه المؤمنين أن يتناجوا بِالإِثْمِ [المجادلة:9]. وهو الغيبة وبذاء القول وسيئه ] فالتناجي هو الكلام سراً، كأن يقرب منك أخوك فتضع فاك في أذنه وتكلمه، هذه هي المناجاة، أو أن تكون مع ثلاثة من إخوانك وتتكلمون سراً حتى لا يسمع الآخرون. هذه هي المناجاة.

وكان اليهود والمنافقون هنا في المدينة إذا اجتمعوا في مجلس كهذا يكب بعضهم على بعض، ويتكلمون سراً؛ بألا يطيعوا هذا، ولا يسمعوا له، وأنه محنتهم فيصبروا، وغير ذلك، بل إذا استطعت أن تضرب مؤمناً فاضربه، ويتكلمون هذا فيما بينهم، والله هو السميع العليم، فقد كان ينقل مناجاتهم ويبينها لرسوله صلى الله عليه وسلم.

قال: [ وَالْعُدْوَانِ [المجادلة:9] وهو الظلم، وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:9]، أي: بعدم طاعته في بعض ما يأمر به أو ينهى عنه ] فقد كان يوصي بعضهم بعضاً ألا يطيعوا هذا الرسول، وألا يسمعوا له [ فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ [المجادلة:9] ] أي: فيما بينكم [ أي: إذا استدعى الأمر مناجاة بعضكم لبعض فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:9]. كما هي حال أعدائكم من اليهود والمنافقين؛ إذ نزل فيهم قرآن، وهو قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى [المجادلة:8]. وهي المسارة الكلامية ] والذي نهاهم الله ورسوله [ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ [المجادلة:8] ... الآيات ] فقد كان الله ولي رسوله والمؤمنين يربيهم ويهذبهم، ويعلمهم ويرشدهم، وهم يستجيبون ويعملون.

إذن الله لعباده المؤمنين بالتناجي بالبر والتقوى

قال: [ ثم بعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن المناجاة المشابهة لمناجاة اليهود والمنافقين أذن لهم في التناجي بما هو خير، وطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ [المجادلة:9]. الذي هو الخير بمعناه العام، حيث لا إثم فيه ولا شر. وَالتَّقْوَى [المجادلة:9] التي هي طاعة الله وسوله صلى الله عليه وسلم في أمرهما ونهيهما ] فتناجوا بهذه المناجاة.

الحث على تقوى الله عز وجل

قال: [ ثم أمرهم عز وجل بتقواه، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ [المجادلة:9] ] أي: خافوه، فامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه. وأمرهم بالتقوى [ مشيراً إلى موجبها، وهو كونهم يحشرون إليه يوم القيامة، فيحاسبهم ويجزيهم بأعمالهم؛ لذا هم في حاجة إلى تقواه عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لينجوا ويفوزوا يوم القيامة، فينجوا من النار، ويفوزوا بدخول الجنة.

مناجاة الله لعباده المؤمنين يوم القيامة

قال: [ ولنستمع ] جميعاً أيها المستمعون والمستمعات! [ إلى حديث أحمد رحمه الله في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ فإنه يقرر ما تقدم، ويوضحه أيما توضيح. قال: حدثنا بهز وعفان قالا: أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ) ] واعترف بها [ ( ورأى في نفسه أنه قد هلك ) ] ويشعر بذلك [ ( قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته ) ] والحمد لله. فيتفضل الكريم ذو الجلال والإكرام ويقول: ( قد سترتها عنك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ). هذه مناجاة الله لعباده المؤمنين في الآخرة. وأما مناجاتنا نحن في الدنيا فكما سمعتم، وهي: أن يجلس الرجل إلى رجل آخر ويتحدث معه سراً.

قال: [ ( وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] ) ] فلا يدنيهم ولا يكلمهم، ولا يستنطقهم ولا يناجيهم؛ لأهم ليسوا بأهل لذلك، وإنما الأشهاد يقولون: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]. ثم إلى جهنم وبئس المصير.

النجوى من الشيطان

قال: [ وقوله تعالى في هذا النداء: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:10]، أي: هو الدافع إليها، والحامل عليها؛ من أجل أن يوقع المؤمنين في الغم والحزن. ومن هنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي فقال ] واحفظ هذا: [ ( إذا كنتم ثلاثة ) ] أنفار [ ( فلا يتناجى اثنان دون الآخر ) ] وحرام عليهم هذا؛ لأن هذا الذي لا يسمع كلامهما يخاف، ويقول: إنهم يتآمروا علي، ويريدون لي سوءاً، فيقع في حزن، ولا يجوز إحزان المؤمن. فلا يتناجى اثنان دون الآخر [ (حتى تختلطوا بالناس)] وتتكلموا بالكلام العام [(من أجل ألا يحزنه ذلك). وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيح: (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد ). وعلى هذا أكثر أهل السلف وعلماء الخلف، فلا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث، ولا ثلاثة دون الرابع، ولا خمسة دون السادس ] وكذلك إذا كانوا ثلاثة أنفار يتكلم اثنان منهم بلغة، فلا يتكلمان بها ويتركان الثالث، فهذا حرام ولا يحل؛ لأن ذلك لا يعرف ما يقولون، وقد يظن أنهم يتآمرون عليه، أو لعلهم كذا وكذا، ولذلك فليتحدثوا بلسانه، أو يترجموا وبينوا له، والقرآن يقول هذا. واليوم الذين يزعمون أنهم مؤمنون يقتل بعضهم بعضاً، ويسفكون دماءهم، ويكسرون عظامهم، ويبقرون بطونهم، ويقطعون أيديهم، ويفجرون بنسائهم، وكأننا لسنا مؤمنين، وقد حرم الله على لسان رسوله أن يتكلم اثنان في الخفاء في حضور الثالث [ لما يوجده ذلك من غم وحزن وخوف للمؤمن الذي تناجى إخوانه دونه وهم في مجلس واحد ] حتى لا يحزن هذا المؤمن، ولا يصاب بغم ولا كرب ولا هم؛ لأنه ولي الله، والله لا يرضى أن يتأذى هذا العبد المؤمن، ولا أن يتناجى ثلاثة أنفار دون الرابع إذا كان لا يسمع أو لا يفهم ما يقولون، بل يجب أن يتكلموا مع بعضهم بعضاً؛ حتى لا يكرب هذا المؤمن ولا يحزن. والمؤمنون لم يعرفوا هذا، ولا درسوه والله. وكذلك الذي يكسر عظام إخوانه ويمزق بطونهم لم يعرف الإيمان، ولم يعرف هذا.

قال: [ وليس هذا خاصاً بحالة حرب أو خوف، بل هو عام في سائر الأحوال والظروف، وفي القرآن الكريم يقول تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]. حينئذ تجوز المناجاة لأنها في الصالح العام ] فإذا أردنا أن نجمع مالاً أو لباساً لمؤمن بيننا فإذا قلنا: فلان بيننا فقير فاجمعوا له فإنه يتأذى، ولكن نجمع له في السر. وهذه المناجاة مشروعة وطيبة.

قال: [ وقوله تعالى في نهاية النداء: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:10]، أي: هو الحامل عليها لإيجاد أذى بين المؤمنين. وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:10]، أي: فلا ينبغي للمؤمن أن يغتم أو يحزن من المناجاة إذا حصلت من يهوي أو منافق، فضلاً عن أن تكون من مؤمن ] فإذا تناجى اثنان دونه أو ثلاثة فلا يبالي، وليفزع إلى ربه [ وليتوكل على الله ] حتى لا يصيبه هم ولا غم ولا حزن [ ويفوض أمره إليه؛ فإنه وليه وحافظه من كل ما يؤذيه أو يسيء إليه.

والعاقبة للمتقين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].

وبلغوا إن شاء الله هذا المسئولين والعلماء والحكام. وهيا نعود إلى الله عز وجل بأن نجتمع بنسائنا وأطفالنا في بيت الرب، والله يعلمنا، وهذا ليس صعباً.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.