نداءات الرحمن لأهل الإيمان 62


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

نظراً إلى أننا أسرعنا أمس في الدراسة فسأمتحنكم لأرى هل أنتم عالمون، فتذكروا فأنتم أهل لتلقي العلم والمعرفة.

حكم الاستئذان في الإسلام واجب، ولا تترددوا في كونه واجباً، والآية الدالة على وجوبه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].

والمؤمن الذي يريد أن يدخل محلاً ليس فيه نسوة ولا سرار ولا جوار كالفنادق والدكاكين له رخصة في عدم الاستئذان، والذي رخص له في ذلك هو الله، فقد قال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29].

وهناك ثلاثة أوقات يتعين على الأبناء وعلى الخدم أن يستأذنوا عند الدخول على رب البيت وسيده، وهذه الأوقات الثلاثة دلت عليها هذه الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58]. والعوراء من النساء هي: ذات العين الواحدة، والأعور من الفحول هو: ذو العين الواحدة، والعورة هذه: ما يستحى من كشفه، وليست خاصة بالسوءتين أو بالفرجين.

وأطلق على هذه الأوقات لفظ العورات لأن الغالب أن يتكشف المرء فيها، وتبدو عورته.

والحكم إذا بلغ الغلام الخامسة عشرة واحتلم فينبغي علينا أن نعلمه أنه يجب عليه أن يستأذن عند الدخول، كما استأذن الذين من قبله من الرجال، وينبغي عليه أن يقوم بهذا، والآية الدالة على هذا في هذا النداء هي قوله: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59].

فلنحفظ ولا ننسى، ومما يساعدنا على عدم النسيان التطبيق العملي، وقد عرفتم زادكم الله معرفة أن من علم وعمل بما علم وعلمه غيره دعي في السماء عظيماً. فإذا تعلمنا حكماً في هذه الليلة فينبغي أن نعزم على العمل به، وأن نعلمه، وأن نتحدث به على الأقل؛ ليستقر في النفس، ولينتفع به غيرنا. فنحن لا نجلس نتعلم للوظيفة، ولا لأكل الرغيف، ولكن من أجل أن ندعى في السماء عظماء. فمن أراد أن يدعى في الملكوت الأعلى عظيماً من عظماء الرجال فهذا هو الطريق، وهو أن نتعلم القضية أو المسألة وكلنا عزم على العمل والتطبيق، ثم نعلمها غيرنا. ولهذا نقول: هذه النداءات التسعون من حررها حفظاً وعملاً وتطبيقاً فقد أمسى من أعظم أهل الأرض، وإن كان لا يقرأ ولا يكتب.

هذا هو [ النداء الستون ] وفحواه ومضمونه وما يحمله من هدى هو [ في وجوب ذكر النعم وشكرها ] أي: ذكرها باللسان والقلب، وشكرها أيضاً بالقلب واللسان والجوارح [ وبيان موجب الذكر والشكر لله تعالى ] أي: وبيان ما يوجب الذكر والشكر لله تعالى. وهذا علم عظيم. فهذا النداء نتعلم منه أن الشكر والذكر واجبان، وقد علمنا قبل اليوم شيئاً في هذا الباب، فقد عرفنا أن سر الوجود وعلة الحياة هو الذكر والشكر. فسر هذا الوجود ووجود السماوات والأرضين ووجود عالم السعادة والشقاء هو أن الله تعالى أراد أن يذكر ويشكر، فخلق الخلق بكامله لهذه العلة. فلا ننسى هذا، فنحن نعرف علة الماء وعلة الطعام وعلة الفراش، وعلة هذا المكبر، فلنعرف علة هذا الوجود بكامله، وفي الحديث القدسي: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ). فالله خلقك من أجل أن تذكره وتشكره.

وقد علمنا أن العبادة على تنوعها واختلافها واختلاف أزمنتها وأمكنتها كلها دائرة على ذكر الله وشكره، ولا توجد عبادة تخلو من ذكر الله وشكره، وما العبادات إلا ذكر وشكره.

ولهذا كان النداء الستين يبين لنا وجوب ذكر النعم وشكر هذا المنعم عز وجل، وبيان موجب الذكر والشكر لله تعالى. وهيا نتغنى بهذا النداء؛ لتنشرح صدورنا، وتلين قلوبنا وألسنتنا، ولعلنا نحفظ ما نقرأ.

[ الآيات (9 ، 10 ، 11) من سورة الأحزاب المدنية

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:9-11] ] وهيا نشرح هذا النداء؛ لتزداد معارفنا وتقوى صلتنا بربنا، ونكون من أوليائه وصالح عباده.

سبب نداء الله عز وجل لعباده المؤمنين

قال: [ الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم! ] والقارئ الكريم هو كل مؤمن ومؤمنة يقرأ نداءات ربه ويصغي إليها، ويستمع ويعمل بما فيها، وهذا لازم؛ لأنه سيدك الذي يملكك وما تملك، وقد أوجدك لخدمته، وأطعمك وسقاك من أجله، وهو يناديك: يا عبدي! فلا يجوز لك ولا يصح أن تغلق أذنيك، وتتشاغل بالأكل والكلام ولا تستمع إليه، ثم فوق ذلك فهو حكيم عليم، فهو لا يناديك لغير ما ينفعك، بل ليدفع الضر عنك، وهذا شأن الله مع أوليائه، فهو لا ينادي عباده لا لشيء، فإن شاءوا سمعوا، وإن شاءوا لا، فهذا والله ما كان. وإنما ينادي أولياءه لأحد أمور: إما ليأمرهم بفعل أو اعتقاد أو قول ما يكملهم ويسعدهم، أو لينهاهم عما يشقيهم ويؤذيهم، أو ليبشرهم بما يزيد في إيمانهم وصالح أعمالهم، أو لينذرهم ويحذرهم مما يخيفهم ويضرهم ويهلكهم. ولذلك لا يصح أن يقول قائل: لا بأس أن ينادينا ولا نسمع، فهذا لا يمكن أن يكون.

ولهذا قلنا: يتعين على المؤمن والمؤمنة أن يسمعا نداءات ربهما، فمن كان يحسن القراءة فليقرأ، ومن كان لا يحسنها يقول لمن يحسنها: يا بني! إن كان دونه، أو يا أخي! إن كان مثله، أو يا أبتاه! إن كان أكبر منه أسمعني نداءات ربي، وسآتيك كل يوم تسمعني نداء في أوقات فراغك وعدم عملك. ولو كنا مرتفعين لامتثل المؤمنون هذا والله، وسرنا في طريق الخير، وقلنا وما نزال نقول: اجعلوا هذه النداءات في الفنادق وعند كل سرير ينزل فيه نازل، والنصارى يضعون الإنجيل الباطل الذي فيه الخرافات والضلالات، والذي لا يوجد فيه (10%) من كلام الله في الفنادق الراقية في الشيراتون. ونحن نعجب من هذا الكلام، ونقول: هذا الشيخ يقول خيالات، فقد خرف، ووالله لو كنا راقين لامتُثل هذا من أيام، ووضع هذا الكتاب في الفنادق، ولكن حل بنا ما حل، كما قال تعالى: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176].

تذكير الله تعالى لعباده بنعمه عليهم ليشكروه عليها

على القارئ الكريم أن يعلم [ أن هذا النداء الإلهي وإن وجه ابتداء إلى المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ليذكرهم بنعمة عظمى، ليشكروا الله تعالى عليها بذكره وشكره، وذلك بطاعته عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في العسر واليسر .. في المنشط والمكره إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ] فهذا النداء نزل في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يمنع أن يتناول كل مؤمن على مدى الحياة؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا يدخل فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن وعائشة وغيرهم، ويدخل السامعون ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. فكل كل مؤمن دخل في هذا النداء، ومن قال: لا فليضع برنيطة على رأسه وصليباً في عنقه؛ حتى لا ينادى أبداً؛ لأن المنادى هو المؤمن الصادق الإيمان.

قال: [ وأمر آخر، وهو أن نجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما دبر لهم للقضاء عليهم هي نعمة الله تعالى على كل مؤمن ومؤمنة في هذا الحياة؛ إذ لو هلكوا في حرب الأحزاب ما بلغنا إسلام ولا عرفنا ] الله [ ربنا، ولا ذكرناه ولا شكرناه ] ولو تمت المؤامرة ونجحوا وقتلوا الرسول وأصحابه لما بقي إسلام، ولما أصبحنا نحن الآن مسلمين والله، بل لكنا إما مشركين وإما نصارى أو يهود [ فالحمد لله على إنعامه وإفضاله، حيث رد المتآمرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خائبين خاسرين، ونجى رسوله والمؤمنين ] إذاً: هذه النعمة لنا، ونحن لم نعرفها، والله يذكرنا بهذه النعمة كما يذكر من يأتي بعدنا من المؤمنين والمؤمنات، وهو لا يذكرنا لنغني ونرقص، ونأكل البقلاوة، وإنما لنذكره عز وجل ونشكره، وما ذكره وشكره إلا الآلات الرافعة إلى الملكوت الأعلى.

والمؤامرة التي تمت علينا والمعروفة بحرب الخليج حبكها وخاط خيوطها ودبرها اليهود والنصارى والمجوس ومثلها العرب، وما هي والله إلا لإطفاء نور الله؛ حتى لا يبقى من يقول: لا إله إلا الله. ومع ذلك لم نشكر الله. وقد ذكرتكم بها لأنه والله لو تمت تلك المؤامرة كما أرادوا لمزقوا راية لا إله إلا الله، وبالوا عليها، ولقد بالوا على المصاحف فضلاً أن يبولوا على راية. ونحن لم نجتمع ليلة ولا كبرنا ولا هللنا ولا قرأنا كتاب الله، ولا شكرنا الله.

من مظاهر عدم شكر الله تعالى

من عدم الشكر: إعراضنا عن الصلاة، وجرينا وراء السحرة، حتى إن المرأة تبكي وتقول: سحروني، وسحروا زوجي، وقلت لإحداهن: لا يوجد سحرة في المدينة، فالساحر يقتل حيث بان سحره، فقالت: والله إنك لترى النساء من المغاربة والأثيوبيات والسودانيات وغيرهن ذيولاً أمام بيوت السحرة في المدينة، فاستغربت أن يحدث هذا في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يُسحر فيها الرجل وامرأته. وهم لا يذكرون الله ولا يشكرونه، ولم يقبلوا عليه في صدق، ولم يتطهروا ويزكوا أنفسهم، بل هم أموات غير أحياء وما يشعرون.

والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9]. وسيأتي تفصيل ذلك، فأيما مؤمن يدفع الله عنه مكروهاً يجب ألا ينسى ذلك اليوم أبداً، ويقوم يصلي ويذكر الله عز وجل، ونحن كلما يدفع عنا بلاء نزداد عناداً ومكابرة وضلالاً وبعداً، وكأننا ننتظر ساحة النهاية.

امتنان الله عز وجل على المؤمنين بهزيمة الأحزاب

قال: [ وإليك بيان هذه الآيات الثلاث التي حواها هذا النداء الإلهي العظيم:

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأحزاب:9] أي: يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً، وبمحمد نبياًورسولاً، وبالإسلام ديناً وشرعاً ] وهؤلاء هم المؤمنون [ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9] المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم، وهو اجتماع جيوش عدة على غزوكم في عقر داركم، وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبني قريظة من اليهود، ألبهم وجمعهم عليكم وحزب أحزابهم حيي بن أخطب النضري اليهودي ] وحيي بن أخطب هذا نضري من بني النضير، وهو أبو أم المؤمنين صفية بنت حيي . وقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غزوة خيبر، وانتصاره على أهلها، وأبوها حيي بن أخطب من كبار طغاة اليهود الناقمين، ولما خابوا في غزوة بني النضير وانهزموا أخذ يحزب الأحزاب ويكتل الكتل، فأتى إلى مكة، وذهب إلى الشرق، وذهب إلى الغرب، وجمع الأحزاب وجاء بها لينتقم، فهو كان [ يريد الانتقام منكم؛ إذ أجليتموه عن المدينة، وأخرجتموه منها، فالتحق مع رجاله بخيبر وتيماء، ومن ثم بدأت المؤامرة.

وقوله تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الأحزاب:9] وهي جنود المتحزبين من قريش وأسد وغطفان.

وقوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9] ] فالملائكة لا نراها [ وذلك بعد حصار في سفح جبل سلع، والجبل وراءهم والخندق أمامهم مدة خمسة وعشرين يوماً ] واخرج من المسجد وستشاهد جبل سلع، ومكان الخندق في المكان الذي تسمونه المساجد الخمسة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بين الخندق وسلع في سفح الجبل، وكانت أيام شتاء وبرد ومجاعة، ولو ابتلينا هذا الابتلاء لما صبرنا.

قال: [ أرسل الله تعالى عليهم ريح الصبا ] وقال صلى الله عليه وسلم: ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ). والدبور: الريح الغربية، والصبا: الريح الشرقية [ ففعلت فيهم تلك الريح العجب، حيث أطفأت نيران وقودهم وطبخ طعامهم، وأكفأت قدور طعامهم، واقتلعت خيامهم ] فكانت الخيمة ترفعها الريح وتسقطها، وتقتلع أوتادها [ حتى اضطروا إلى الرحيل والهرب ] إذا لم يكن لهم حيلة أبداً [ وأرسل الله تعالى جنوداً من الملائكة، فأصابتهم بالفزع والرعب ] وألقت ذلك في قلوبهم [ الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم، فرجعوا يجرون أذيال الخيبة المريرة، والحمد لله ] والذي فعل هذا الله. والذي جاء بأمريكا وبريطانيا وفرنسا الله. وأكثر السامعين الآن يتألمون، ووالله لو تحزبتم وجمعتم لم تستطيعوا أن تحركوا ولا كتيبة من الغرب أبداً، ولن يتأتى لكم ذلك، ولقالوا: دعوهم يأكل بعضهم بعضاً حتى نستريح من هؤلاء المسلمين، ولكن الله هو الذي فعل، فقولوا: الحمد لله.

قال: [ وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9] أي: بكل أعمالكم أيها المؤمنون! وذلك كحفر الخندق والمشادات والمناورات التي كانت بينكم وبين عدوكم ] فقد حصلت مشادة ومناورة خمسة وعشرين يوماً والخندق بينهم [ وما قاله المنافقون في تلك الساعات وفاهوا به ونطقوا من أسوأ الأقوال وأقبحها، كل ذلك لم يغب على الله تعالى منه شيء، وسيجزي به المحسن بالإحسان، والمسيء بالإساءة ] هذا معنى: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9]، أي: مطلع على أحوالكم وأعمالكم، وأقوالكم ونياتكم وأيضاً، وما تحويه صدوركم.

بيان الشدة التي أصابت المسلمين في غزوة الخندق

قال: [ وقوله تعالى في الآية الثانية من آيات هذا النداء: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ [الأحزاب:10] ] وليس هو من السماء، وإنما الفوق هنا أي: من الشرق، والأسفل: الغرب [ أي: من الشرق وهم غطفان وأسد بقيادة عيينة بن حصن . وقوله: وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:10] وهم قريش وكنانة، أي: من الجنوب الغربي. وهذا تحديد لساحة المعركة، وسبحان الله العليم الخبير!

وقوله تعالى: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ [الأحزاب:10] ] الزيغ: الميلان [ أي: مالت عن كل شيء، فلم تبق تنظر إلا إلى قوات العدو الغادر ] وهذا شأن الخائف، فهو لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وإنما ينظر إلا إلى قوات العدو الغازية ومتى تهاجم [ وذلك من شدة الخوف.

وقوله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10] ] جمع حنجرة، وهي هذه، والقلب يصل إليها، فالقلب كالعقاب، والرئتان كجناحي العقاب، ولما يخاف المرء أشد الخوف ترتفع رئته والقلب فيها، فيصل إلى هناك، والذي يصور هذا التصوير خالق القلوب والرئة [ أي: ارتفعت بارتفاع الرئتين، فبلغت منتهى الحلقوم؛ وذلك من شدة الفزع والخوف، قد يكون هذا من بعض المؤمنين لا من كلهم ] وهو كذلك. وهذه لطيفة فاعرفوها، فقد يكون هذا من بعض المؤمنين، وبعضهم لم يخافوا، بل ثبتوا.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يأتيني الليلة بخبر القوم أضمن له على الله الجنة )؟ فلم يستطع أحد، فقد كان هناك الجوع والبرد والخوف، فقال: ( من يأتيني بخبر القوم )؟ أي: من أبعثه عيناً لي يكتشف القضية؟ فلم يستطيعوا، والذي فاز بها حذيفة ، فقال: ( قم حذيفة ! ). فتعينت عليه، وإذا عين إمام المسلمين شخصاً أو أشخاص وجب عليهم، أما الأمر العام فلا. قال حذيفة : ذهبت وعدت والعرق يسيل، حتى وصلت ودخلت بين رجلي الرسول وثوبه وهو يصلي، فإذا البرد عاد إلى، ولا إله إلا الله! فلما ذهب زال كل البرد والخوف، وتحول إلى عرق وحر، حتى أدى المأمورية وعاد، ولما وصل برد كالآخرين، فدخل تحت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي؛ حتى يدفأ. ولو كنا هناك فماذا كنا سنفعل؟ والحمد لله! فالذي حفظنا اليوم هو الذي حفظنا أمس، ويحفظنا غداً إن شاء، وهو الرحمن الرحيم.

قال: [ وقوله تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]، أي: المتنوعة المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب ] وتقولون: يمكن أن نهلك، ويمكن كذا، ويمكن يقع كذا وكذا، كحالة الخائف [ وهذا منه تعالى تصوير للحال التي كانت أبدع تصوير ] ولا يقوى عليها إلا هو، وهو ليس تصويراً بالفوتوغراف، وإنما هذا تصوير خالد بالكلمات الطيبة. وعلينا أن نترك التصوير، فقد عاشت الأمة البشرية قروناً بدونه، وأنا أرى أن لا يصور، ولكن يكتب طول الشخص كذا، وعيناه كذا، وأنفه كذا، ويكفي، وأما الصورة فإنهم يزورونها والله، وأما المكتوب فلا يزور، مثل هذا التصوير الإلهي لهذه الحادثة، فإنه تعجز عنه آلات التصوير [ إذا حالهم كانت هكذا حرفياً، فسبحان العليم الخبير!

وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا النداء: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ [الأحزاب:11]، أي: ثم اختبرهم ربهم عز وجل؛ ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد، ولا تحيله الفتن، ويرى المهزوز الإيمان، السريع الانهزام والتحول؛ وذلك لضعف عقيدته، وقلة عزمه وصبره ] فقد كان هذا امتحاناً، وتخرج منه رجال بشهادات إلهية، وهبط آخرون إلى مستوى البهائم من المنافقين وضعفة الإيمان.

[ وقوله تعالى: وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:11] أي: أزعجوا وحركوا حراكاً شديداً؛ لعوامل منها:

قوة العدو، وكثرة جنوده ] فجيوش الأحزاب من كل جانب [ وضعف المؤمنين، وقلة عددهم ] فهم في المدينة قليل، وقد انحصروا في جبل سلع، وتركوا الأطفال والنساء هنا في المدينة [ وعامل المجاعة والحصار والبرد الشديد، وما أظهره المنافقون من تخاذل ] وهذا زعزع الصف لما أعلنوا عن تخاذلهم [ وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم، وانضمامهم إلى الأحزاب ] وبنو قريظة كانوا وراء مسجد قباء، وكانوا على معاهدة أنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليهم حيي وفتنهم، فأعلنوا عن نقض المعاهدة، وانضموا إلى أبي سفيان ، ولكن الله أطعمهم ما يستحقون، فما إن انكشف الكرب وانهزم العدو، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مسجده وإلى بيته حتى قال له جبريل: أوضعت السلاح ونحن ما وضعنا السلاح؟ ناد بالمؤمنين: أن إلى بني قريظة، لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة. وخرجت خيل الله، ومنهم من صلى في الطريق، ومنهم من قال: لا، لا نصلي إلا حول العدو، والكل معذور، وحاصرتهم خيل الله وانهزموا، وهبطوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقتل مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم ونساءهم. ومقبرتهم الآن هناك في طرف المسجد، فهم الآن في داخل المسجد، وعددهم سبعمائة تقريباً. وهذا جزاء من خان وأخلف الوعد ونكثه.

أهمية استحضار المؤمن لنعم الله عليه دائماً

قال: [ هذا ولنعلم أن التذكير بالنعم وبما يجب من شكر للمنعم على إنعامه مما ينبغي أن لا ينساه المؤمن ] وأنا قد قلت قبيل الآن: من حدث له حادث ونجاه الله فيجب أن لا ينسى ذكر الله، بل يذكر هذا دائماً، وما إن يذكر هذه النعمة بقلبه إلا ويقول بلسانه: الحمد لله! وأما أن تأتي النعم وتمر كل عام ولا نذكرها فإننا نحتاج إلى نبوة جديدة ورسول، فيا بني الإسلام! اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9]. وعسى أن نذكر، ويا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم؛ وهذا حتى يذكرهم. ونحن عندنا رسل، وهم خطباء المساجد يوم الجمعة، فليذكرونا بالنعم؛ لنذكر الله ونشكره [ إذ الذي لا يذكر النعمة لا يشكرها ] ومستحيل أن يشكرها، بل لما يذكرها في قلبه ولسانه يشكر، والحمد لله، وأما ما دام لا يذكر فإنه لا يشكر.

قال: [ ولنعلم أن نعم الله على عباده لا تحصى ] أي: عداً [ إذ كل ما أوتيه العبد من صحة بدن، وسلامة عقل، وسلامة معتقد، وصحة الدين ] والأمن.

عوامل مساعدة على شكر الله تعالى على نعمه

قال: [ كل هذه النعم تتطلب الشكر من العبد، ومما يساعد ] العبد [ على الشكر: ذكر النعمة، ومعرفة المنعم ] وهو الله عز وجل.

قال: [ والشكر يكون بطاعة المنعم، وبالقرب إليه بمحابه، مع تعظيمة وإجلاله وإكباره.

ومن باب شكر الله تعالى على نعمه: أن يذكر العبد الله تعالى بقلبه ولسانه، ويصرف النعم فيما من أجله وهبها الله تعالى للعبد. ومن شَكَرَ النعم زاده الله منها أفضل وأكثر؛ لقوله عز وجل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] ].

وسبق أن علمنا - وأصبحنا عالمين- أن الشكر يكون باللسان والقلب والجوارح.

أفادتكم النعماء مني ثلاثة لساني وقلبي والضمير المحجبا

إذاً: شكر النعمة يكون: أولاً: الاعتراف بالقلب أن الله أنعم عليك، ثم تترجم ذلك الاعتراف بلسانك، فتقول: الحمد لله، ثم تصرف تلك النعمة فيما من أجله أنعم الله تعالى بها عليك.

وهيا نحلل هذا، فمثلاً: نعمة العقل تشكر الله عليها يا أبا جميل ! بأن تفكر بعقلك فيما ينفعك ويضرك، وأن تفكر بعقلك في أصل وجودك ووجود الكون؛ لتعرف أنه لا إله إلا الله، وتعبد الله، لا أن تستخدم العقل في الحيل والمكر، وكيفية الحصول على أموال الناس، أو كيف تعمل بهم.

والذين يخدرون عقولهم بالمخدرات هؤلاء كفروا نعمة الله، وأزالوها وعبثوا بها.

وإذا وهبك الله سمعك فلا تستخدمه فيما يكره، ولا تسمع به أصوات العواهر، فهذا لا يجوز، ولا يجوز أن تسمع لعاهرة وهي تغني، فهذا والله ما أجازه الله، وإذا فعلت ذلك فقد عصيت الله وفسقت عن أمره، فهو لم يعطك أبداً سمعك لتسمع من يسبه ويشتمه، أو يسخر به أو يحاربه.

وكيفية شكره على أن أعطاك سمعك أن تسمع الهدى، وتسمع الكلم الطيب، وتسمع العلوم والمعارف، وتسمع ما ينفع لا ما يضر، وهو ما أذن الله أن تسمعه.

وكذلك نعمة العينين والبصر، فلا تستخدمها ضد الله، وقد قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]. فلا تفتح بصرك إذا مرت بين يديك امرأة مؤمنة غافلة، ولا تتابعها؛ فهذا ليس شكر لله.

وكذلك نعمة اللسان، فهي نعمة جليلة، فلا تستخدمها ضد الله، ولا تسب المؤمنين والمؤمنات، ولا تغتابهم وتعَرِّض بهم، ولا تأكل لحومهم أو تكذب عليهم، ولا تقول الباطل. هذا شكر نعمة اللسان.

وكذلك نعمة المال والريالات، فالله أعطاك هذا الريال لتنفقه على نفسك؛ لتتمكن من ذكر الله وعبادته، والذي ينفق درهماً واحداً في معصية الله لم يشكر الله على نعمة المال، فلا تنفقن ريالاً واحداً فيما يغضب الله.

والدخان والشيشة والحشيشة لم يأذن بها والله، بل والله حرم الخبائث، فالذين ينفقون الريالات في هذه المحرمات والله ما شكروا الله.

فاعرفوا الذكر والشكر، فقد قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [إبراهيم:7]، أي: أعلن لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. وسأسلبنكم ما أعطيناكم، فإن عذاب الله شديد. وقد رأينا هذا في واقع الحياة، وهناك صور لا تنمحي، وكم وكم من منعم عليه سلب النعمة، لأنه لم يشكرها. ومن شكر النعم زاده الله منها أفضل وأكثر؛ لقوله عز وجل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

[ اللهم لك الحمد ولك الشكر، فزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا.

وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].