خطب ومحاضرات
التطبيع
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعــد:-
أيها الإخوة: أفادني بعض الإخوة من أصحاب التسجيلات أن رقم هذا الدرس هو السابع والأربعون، خلافاً للتسلسل الذي سرنا عليه منذ عدة دروس، فلذلك تم هذا التعديل بناءً على أنني ربما أسقطت رقم أحد الدروس.
أما هذه الليلة فليلة الإثنين التاسع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة (1412هـ) وعنوان هذا المجلس هو: التطبيع، ولعل الكثير يتساءلون عن التطبيع، وماذا نعني بهذه الكلمة.
وأقول أيها الإخوة... إذا أدركنا أن الحرب اليوم في العالم كله ليست مجرد حرب في ميدان السلاح والقتال، وإنما هي حرب تتعدى ذلك إلى ميادين أخرى من ميادين الفكر، والعلم، والتقنية، والتقدم، وغيرها، بل وميادين الصراع في المجالات الاقتصادية، والمجالات الزراعية، ومجالات المياه، وغيرها، وأدركنا أن مفهوم الحرب قد تطور وأصبح مفهوماً شاملاً واسعاً، فكذلك مفهوم السلام لم يعد مفهوماً ضيقاً مقصوراً محدوداً، بل هو الآخر مفهوم شامل واسع.
فالتطبيع هو مصطلح من مبتكرات الصراع العربي الإسرائيلي، يقصد به تحويل آليات الصراع إلى آليات للسلام، والمهادنة والتقارب بين الأطراف المتصارعة، وهو يعني: التبادل السلمي النشط في كافة المجالات.
مثلاً:
- التسليم بوجود إسرائيل.
- مراجعة العقل العربي المسلم الذي يناصب اليهود العداء، تصحيح تصورات المسلمين في زعم اليهود أيضاً، تصحيح تصوراتهم عن اليهود ليفهموهم من جديد، على أنهم شعب -كما يريد لهم اليهود أن يفهموا- شعب وديع محب للسلام.
- إحداث تغيير في نمط السلوك الإسلامي حيال اليهود ودولتهم إسرائيل.
- التسليم بالمطالب الأمنية والإقليمية التي تحتم بالتالي قيام علاقات دبلوماسية وتبادل سياسي واقتصادي وسياحي، وتكامل في كافة المجالات الحيوية بين اليهود وبين جيرانهم من العرب والمسلمين.
فهذا هو المقصود بكلمة التطبيع إذاً، وهي خلفية السلام الذي يتكلمون عنه، ويكون غطاء لأمر آخر أبعد منه.
وهاهنا أمر آخر يطرح نفسه، لماذا نتحدث عن التطبيع؟
بل لماذا نخص التطبيع بجلسة خاصة بعد ما تكلمنا عبر أسبوعين عن
التطبيع هو الهدف من عملية السلام
منها: إن هذا التطبيع وهذا المصطلح الذي لابد أن يكون واضحاً في الأذهان، هو في الحقيقة هو الهدف الأساسي من عملية السلام، وإذا كان الأصوليون والفقهاء يقولون: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" فإن من السذاجة أن يحكم أحد على عملية السلام مع إسرائيل أو مع اليهود، أنها هدنة بين طرفين متحاربين، كما يتكلم الفقهاء عادة عن موضوع الحرب والسلام.
إنه لا يؤسفنا -أيها الإخوة- أن يتهالك على امتداح السلام وأطرافه ورموزه، بعض المنافقين والمرتزقة، فهم هكذا دائماً وأبداً وكما قيل:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لاقيت معدياً فعدنان |
ولا يغيظنا أن يتكلم المنافقون والمرتزقة عن السلام، وأن يمتدحوه ويتحدثوا عن رابين، وعن رموزه ويعتبرون أنهم هم أبطال الأمة العربية، وهم رجال الموقف الذين أنقذوا الأمة في أحلك المواقف وأشد الظروف، فهذا هو دأبهم وهذا هو ديدنهم.
كما لا يغيظنا أن يتكلم اليساريون والقوميون الذين كانوا بالأمس يتظاهرون أنهم أعداء لـإسرائيل، لأنهم ينطلقون من موقف خدمة الاتحاد السوفيتي الذي يتظاهر بالعداء لـإسرائيل من باب المناورة مع المواقف الغربية، فإذا بهم اليوم يسودون صفحات جرائدنا ومجلاتنا المحلية وغير المحلية بالكلام عن السلام المزعوم والتطبيل له واتهام معارضيه بأنهم ليسوا واقعيين بل هم خياليون، أو أنهم متاجرون بالشعارات، فهؤلاء لا نجاة منهم بحال، فإنك إن وافقتهم قالوا: هذا عميل، وهذا مؤيد لـإسرائيل، وإن خالفتهم قالوا: هذا متاجر بالشعارات.
وإني لأعجب -أيها الإخوة- من هؤلاء، وقد قرأت قبل زمن مقالاً لأحد هؤلاء وهو يتكلم عن أحد رجال الفكر الإسلامي، فإذا به يصممه بوصمة وهي أنه كان مؤيداً للسلام مع إسرائيل الذي قام به أنور السادات، وإذا به اليوم هو نفسه يتكلم عن الصلح مع إسرائيل على أنه ضرورة من ضرورات المرحلة لابد منها، وعلى أن هذا الأمر لا يعارضه إلا الذين لا يدركون الحقائق ولا يدركون أبعاد الأمور.
لكننا لا نخفي أسفنا من بعض المنسوبين أو المحسوبين على الدعوة الإسلامية الذين تورطوا من قبل في تأييد خطوات السادات الخيانية حينما ذهب إلى القدس للزيارة التي ظنوها مفاجئة، ولم يدركوا ما أبعادها وما وراءها من خطط ومراحل، وهم الآن يرفعون عقيرتهم لتأييد مؤتمر مدريد للسلام، وقد كان لهؤلاء في الصمت مندوحة إذا قصرت بهم أفهامهم عن إدراك أبعاد المؤامرة ومراميها.
أما أن يتكلموا عن قضية السلام ويؤيدوها وهم يستحضرون في أذهانهم الكلام الذي يقوله الفقهاء عن الهدنة مع عدو يعتقدون أنهم لا يستطيعون مواجهته ومقاتلته، فهذا أمر في غاية الغرابة، وهل بلغ بنا الغباء، هل بلغت بنا السذاجة أن نعتقد بأن السلام مع إسرائيل الذي يتحدثون عنه هو مجرد هدنة مؤقتة تضع الحرب خلالها أوزارها لسنة أو لعشر أو حتى لخمسين سنة؟
كلا، وألف كلا!
إن السلام الذي يتكلمون عنه هو عبارة عن مسخ وتغيير للعقلية العربية والإسلامية أولاً، ثم عبارة عن ترسيخ لدعائم الوجود الإسرائيلي الموجود في هذه الأرض حتى يكون منطلقاً للعلم، والحضارة، والتقدم والصناعة، والاقتصاد، بل والأمن في المنطقة العربية، بل في المنطقة الإسلامية بأسرها، هذا هو السلام الذين يتكلمون عنه وهو في حقيقته التطبيع الذي أحاول أن ألقي عليه بعض الأضواء.
سبب الحديث عن السلام
إن السلام قضية أكبر منا ومن إمكانياتنا، إنها قضية دولية، وقضية عالمية، فلماذا لا نتحدث عنها؟
فأقول: إن السلام ليس صفقة سياسية بحتة كما يتصورون، بل هو عملية متكاملة شاملة، تبدأ من عقل الفرد المسلم، ومن قلبه أيضاً، وتستهدف تغيير العقل والقلب المسلم، واستخراج ما يسمونه بجرثومة العداوة للكافر، سواء أكان هذا الكافر يهودياً، أم كان نصرانياً، وزرع روح المحبة والمودة والسلام والوئام لكل شعوب العالم، سواء أكانوا يهوداً أم نصارى أم غير ذلك، وهذا هو المنطلق الأساسي للتطبيع كما سوف يتضح بشكل أكبر.
التطبيع عملية يهودية
إننا لا نطالب هذه الشعوب أن تقوم بالمستحيل، ولا نطالبها الآن أن تحمل السلاح فربما أنها لم تدرب لهذا الأمر ولم تعد له يوماً من الأيام، ولكننا نطالب هذه الشعوب أن تحتفظ بهويتها الإسلامية، أن تحافظ على عقيدتها، أن تعرف من هو عدوها ومن هو صديقها، وأن لا تتخلى طرفة عين عن قرآنها الذي يذكرها صباح مساء بالعداوة مع الكافر ولو تظاهر بغير ذلك، وأن لا تتخلى عن إيمانها بقول الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] وأن لا تتخلى عن قول الله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] ولا تتخلى عن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
إننا نعجب -أيها الإخوة- في الوقت المبكر الذي نشرت إحدى الصحف الكويتية خبراً يقول إن هذه الدولة ليس لديها مانع من مشاركة بعض الشركات العالمية المتورطة في التعامل مع إسرائيل في إعمار الكويت، وأنها سوف تخفف هذه الشروط وإن لم تتخل بشكل نهائي عن المقاطعة لإسرائيل.
ونعجب أكثر حين نجد رجلاً ذا علاقة بموقع السلطة يكتب في صحيفة سيارة أيضاً، ويقول: لماذا نظل نصر على محاربة إسرائيل مع أنها أثبتت خلال حرب الخليج أنها معنا بشكل مباشر أو غير مباشر، ولماذا نظل على عدائنا لها مع الأشياء الكبيرة التي قدمتها لنا والتضحيات الجسيمة التي تحملتها في سبيل إنجاح موقفنا في حرب الخليج، إن هؤلاء لم يعد الفيصل بينهم وبين كل الناس هو القرآن والسنة فيقربون الناس أو يبعدونهم بحسب هذا أو ذاك، كلا.
بل أصبح الفيصل بينهم وبين شعوب العالم كلها هي قضية حرب الخليج، فمن كان معهم في حرب الخليج فهو أحب الناس إليهم ولو كان أكبر الكافرين وأشد الأعداء، وأشد الطغاة، ومن كان ضدهم أو على الأقل التزم بموقف ليس واضحاً في شجب العدوان العراقي فإنه يعتبر عدواً لدوداً لهم، ولا مانع لدى هؤلاء -أعني أولئك الصحفيين الذين كتبوا مثل هذه المقالات ومن كان على شاكلتهم وعلى مذهبهم- أن يستعينوا بـإسرائيل ومن وراء إسرائيل ومن دونها، وأن يستعينوا حتى بالشيطان في مواجهة بعض القوى وبعض الدول التي تحالفت مع العراق، أو اتخذت موقفاً عادياً ليس مؤيداً ولا رافضاً.
ونحن نقول وبكل تأكيد: إن الدول التي وقفت مع العدوان العراقي هي دول ظالمة آثمة مهما كانت وبأي زي تزيت، وأي شعار رفعت، وهذا أمر لا شك فيه، ونحن كنا من قبل ولا زلنا نقوله ويقوله معنا كل المخلصين وكل المطالبين بالعدل، ولكن هذا لا يعني أبداً أن نتجاهل أصول العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومبادئها الراسخة من أجل موقف واحد، بل ينبغي أن يكون العدو عدواً لنا أمس واليوم وغداً، وأن يكون الصديق صديقاً لنا، وليس صحيحاً أن نظل نغير خريطة أعدائنا وأصدقائنا كل يوم بحسب متغيرات الأحوال، فيوم كانت الحرب العراقية الإيرانية مستعرة قائمة، كانت خريطة الأعداء مختلفة تماماً عما هي عليه الآن، ولما كانت حرب الخليج الأخيرة قائمة كانت الخريطة مختلفة، وأخشى ما أخشاه أن يغير هؤلاء خريطة عداوتهم يومياً فتصبح إسرائيل في نظر هؤلاء المفكرين المتقلبين وأمثالهم من الزعماء والساسة والصحفيين أن تصبح في قائمة الأصدقاء، بل ربما على رأس قائمة الأصدقاء، لماذا؟ لأنها تتميز بالقوة، ولأنها دولة ذات أهداف ومرامٍ بعيدة، ولأنه يهمها كثيراً أن تُوجد قدراً كبيراً من الانشطار، والانشقاق، والتفتيت، في الصف الإسلامي والصف العربي.
إن إسرائيل -أيها الإخوة- ومن ورائها العالم الغربي تسعى بكل إمكانياتها وقواها إلى تطبيع علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، من الناحية العقلية، والعقدية، والفكرية، ثم من الناحية السياسية والاقتصادية والحضارية، والسياحية، والعلمية، ولا يعني أن هذا حلم قد يتحقق أبداً.
فقد يقول قائل بعد سنة أو سنوات: ما كنتم تقولونه لم يجر، ونقول: هذا ما يخططونه ويسعون له بكل وسيلة، ولا يعني أنه سيتحقق، فنحن نظن بالله تعالى ظناً حسناً، ونجزم بأن الله تعالى سيحول بينهم وبين ما يشتهون، ولكن يجب أن نعلم أن من أهم وسائل إحباط هذه المخططات الوعي بها، والوعي بها لا يتم إلا بالحديث عنها وإدراكها وكشف أبعادها للخاص والعام من الناس.
أيها الإخوة: إنني أعترف إليكم بالعجز عن تناول هذا الموضوع الطويل لأسباب كثيرة، منها:-
أولاً: أنه موضوع علمي إحصائي دقيق يعتمد على المعلومات والأرقام، ويعتمد على الخرائط والتواريخ التي يثقل على المستمع في مثل هذا المجلس، أو حتى على مستمع الشريط أن يتابعها بصورة جيدة.
ثانياً: ثم إن هذا الموضوع موضوع متشعب من الناحية التاريخية ومن الناحية الواقعية، ثم إنه موضوع يمس أطرافاً عديدة قد يكون تناولها أو تناول بعضها أحياناً في حساسية مفرطة من الصعب الحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي في مقدمة هذا الحديث بالإحالة إلى أهم مراجع هذا الموضوع الخطير.
فأقول: إن أهم كتاب قرأته يتناول هذا الموضوع بصورة جيدة جداً هو كتاب الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية لـمحسن عوض، وهذا الكتاب قد طبع في مركز دراسات الوحدة العربية ضمن سلسلة الثقافة القومية، هذا الكتاب بالتأكيد ليس كتاباً موثقاً من جميع النواحي، فهو يتكلم عن دور القوميين العرب، كما يتكلم عن دور الماركسيين العرب في مواجهة التطبيع، وفي مواجهة إسرائيل، ولعل له نبرة قومية واضحة.
ولكن الحقيقة أن هذا الكتاب يحفل بحشد هائل من المعلومات والحقائق والتحليلات لا أعتقد أن كتاباً آخر يحفل بها على الأقل في حدود ما اطلعت عليه، مع اختصار وجودة في لغة الكتاب، كما أن هناك كتاباً آخر اسمه التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيوني لـغسان حمدان، وهناك كتب أخرى لـجمال عبد الهادي، ورفعت فوزي عبد المطلب، وأحمد لبن، وغيرهم من الكتاب والمؤلفين.
أقول: إنما تكلمت عن التطبيع في هذا المجلس لأسباب:
منها: إن هذا التطبيع وهذا المصطلح الذي لابد أن يكون واضحاً في الأذهان، هو في الحقيقة هو الهدف الأساسي من عملية السلام، وإذا كان الأصوليون والفقهاء يقولون: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" فإن من السذاجة أن يحكم أحد على عملية السلام مع إسرائيل أو مع اليهود، أنها هدنة بين طرفين متحاربين، كما يتكلم الفقهاء عادة عن موضوع الحرب والسلام.
إنه لا يؤسفنا -أيها الإخوة- أن يتهالك على امتداح السلام وأطرافه ورموزه، بعض المنافقين والمرتزقة، فهم هكذا دائماً وأبداً وكما قيل:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لاقيت معدياً فعدنان |
ولا يغيظنا أن يتكلم المنافقون والمرتزقة عن السلام، وأن يمتدحوه ويتحدثوا عن رابين، وعن رموزه ويعتبرون أنهم هم أبطال الأمة العربية، وهم رجال الموقف الذين أنقذوا الأمة في أحلك المواقف وأشد الظروف، فهذا هو دأبهم وهذا هو ديدنهم.
كما لا يغيظنا أن يتكلم اليساريون والقوميون الذين كانوا بالأمس يتظاهرون أنهم أعداء لـإسرائيل، لأنهم ينطلقون من موقف خدمة الاتحاد السوفيتي الذي يتظاهر بالعداء لـإسرائيل من باب المناورة مع المواقف الغربية، فإذا بهم اليوم يسودون صفحات جرائدنا ومجلاتنا المحلية وغير المحلية بالكلام عن السلام المزعوم والتطبيل له واتهام معارضيه بأنهم ليسوا واقعيين بل هم خياليون، أو أنهم متاجرون بالشعارات، فهؤلاء لا نجاة منهم بحال، فإنك إن وافقتهم قالوا: هذا عميل، وهذا مؤيد لـإسرائيل، وإن خالفتهم قالوا: هذا متاجر بالشعارات.
وإني لأعجب -أيها الإخوة- من هؤلاء، وقد قرأت قبل زمن مقالاً لأحد هؤلاء وهو يتكلم عن أحد رجال الفكر الإسلامي، فإذا به يصممه بوصمة وهي أنه كان مؤيداً للسلام مع إسرائيل الذي قام به أنور السادات، وإذا به اليوم هو نفسه يتكلم عن الصلح مع إسرائيل على أنه ضرورة من ضرورات المرحلة لابد منها، وعلى أن هذا الأمر لا يعارضه إلا الذين لا يدركون الحقائق ولا يدركون أبعاد الأمور.
لكننا لا نخفي أسفنا من بعض المنسوبين أو المحسوبين على الدعوة الإسلامية الذين تورطوا من قبل في تأييد خطوات السادات الخيانية حينما ذهب إلى القدس للزيارة التي ظنوها مفاجئة، ولم يدركوا ما أبعادها وما وراءها من خطط ومراحل، وهم الآن يرفعون عقيرتهم لتأييد مؤتمر مدريد للسلام، وقد كان لهؤلاء في الصمت مندوحة إذا قصرت بهم أفهامهم عن إدراك أبعاد المؤامرة ومراميها.
أما أن يتكلموا عن قضية السلام ويؤيدوها وهم يستحضرون في أذهانهم الكلام الذي يقوله الفقهاء عن الهدنة مع عدو يعتقدون أنهم لا يستطيعون مواجهته ومقاتلته، فهذا أمر في غاية الغرابة، وهل بلغ بنا الغباء، هل بلغت بنا السذاجة أن نعتقد بأن السلام مع إسرائيل الذي يتحدثون عنه هو مجرد هدنة مؤقتة تضع الحرب خلالها أوزارها لسنة أو لعشر أو حتى لخمسين سنة؟
كلا، وألف كلا!
إن السلام الذي يتكلمون عنه هو عبارة عن مسخ وتغيير للعقلية العربية والإسلامية أولاً، ثم عبارة عن ترسيخ لدعائم الوجود الإسرائيلي الموجود في هذه الأرض حتى يكون منطلقاً للعلم، والحضارة، والتقدم والصناعة، والاقتصاد، بل والأمن في المنطقة العربية، بل في المنطقة الإسلامية بأسرها، هذا هو السلام الذين يتكلمون عنه وهو في حقيقته التطبيع الذي أحاول أن ألقي عليه بعض الأضواء.
الأمر الآخر الذي يدعو إلى معالجة هذا الموضوع ومناقشته، أن إدراك هذا الهدف الكبير لليهود؛ -هدف التطبيع، وهدف الهيمنة على المنطقة العربية والمنطقة الإسلامية بأسرها، هذا الإدراك هو يقضي على هذه النبرة الغريبة المؤذية التي تقول: لماذا تتحدثون على السلام؟
إن السلام قضية أكبر منا ومن إمكانياتنا، إنها قضية دولية، وقضية عالمية، فلماذا لا نتحدث عنها؟
فأقول: إن السلام ليس صفقة سياسية بحتة كما يتصورون، بل هو عملية متكاملة شاملة، تبدأ من عقل الفرد المسلم، ومن قلبه أيضاً، وتستهدف تغيير العقل والقلب المسلم، واستخراج ما يسمونه بجرثومة العداوة للكافر، سواء أكان هذا الكافر يهودياً، أم كان نصرانياً، وزرع روح المحبة والمودة والسلام والوئام لكل شعوب العالم، سواء أكانوا يهوداً أم نصارى أم غير ذلك، وهذا هو المنطلق الأساسي للتطبيع كما سوف يتضح بشكل أكبر.
النقطة الثالثة التي تدعو إلى تناول هذا الموضوع ومعالجته: إن عملية التطبيع عملية سعى اليهود ويسعون مع حلفائهم من الداخل، -من داخل الأمة الإسلامية- وهم كثير وخاصة ممن يتسلمون ويتسنمون مناصب القيادة والتسلط على مقدرات الأمة وخيراتها وشعوبها، أو من خارج الأمة من الشرق والغرب، سعى الجميع لتحقيق هذه العملية، وقطعوا في ذلك أشواطاً بعيده شملت ربع البلاد العربية من حيث العدد، فهناك مصر، ولبنان، والأردن، والمغرب، كلها قد شملتها عملية التطبيع، وشملت من حيث العدد السكاني نصف أو البلاد العربية، وتورطت فيها هذه البلاد وتلك، والبقية لا بد أنها في الطريق على حسب المخططات المزعومة المرسومة إذا كتب لمؤامرة السلام أن تكتمل وتتم، فمن حق هذه الشعوب المستهدفة أن تعرف ماذا يراد بها، وأن تمارس دورها المنشود في الحفاظ على هويتها الإسلامية وعقيدتها الربانية، حتى تلقى الله تعالى غير مبدلة ولا مغيرة ولا محرفة.
إننا لا نطالب هذه الشعوب أن تقوم بالمستحيل، ولا نطالبها الآن أن تحمل السلاح فربما أنها لم تدرب لهذا الأمر ولم تعد له يوماً من الأيام، ولكننا نطالب هذه الشعوب أن تحتفظ بهويتها الإسلامية، أن تحافظ على عقيدتها، أن تعرف من هو عدوها ومن هو صديقها، وأن لا تتخلى طرفة عين عن قرآنها الذي يذكرها صباح مساء بالعداوة مع الكافر ولو تظاهر بغير ذلك، وأن لا تتخلى عن إيمانها بقول الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] وأن لا تتخلى عن قول الله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] ولا تتخلى عن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
إننا نعجب -أيها الإخوة- في الوقت المبكر الذي نشرت إحدى الصحف الكويتية خبراً يقول إن هذه الدولة ليس لديها مانع من مشاركة بعض الشركات العالمية المتورطة في التعامل مع إسرائيل في إعمار الكويت، وأنها سوف تخفف هذه الشروط وإن لم تتخل بشكل نهائي عن المقاطعة لإسرائيل.
ونعجب أكثر حين نجد رجلاً ذا علاقة بموقع السلطة يكتب في صحيفة سيارة أيضاً، ويقول: لماذا نظل نصر على محاربة إسرائيل مع أنها أثبتت خلال حرب الخليج أنها معنا بشكل مباشر أو غير مباشر، ولماذا نظل على عدائنا لها مع الأشياء الكبيرة التي قدمتها لنا والتضحيات الجسيمة التي تحملتها في سبيل إنجاح موقفنا في حرب الخليج، إن هؤلاء لم يعد الفيصل بينهم وبين كل الناس هو القرآن والسنة فيقربون الناس أو يبعدونهم بحسب هذا أو ذاك، كلا.
بل أصبح الفيصل بينهم وبين شعوب العالم كلها هي قضية حرب الخليج، فمن كان معهم في حرب الخليج فهو أحب الناس إليهم ولو كان أكبر الكافرين وأشد الأعداء، وأشد الطغاة، ومن كان ضدهم أو على الأقل التزم بموقف ليس واضحاً في شجب العدوان العراقي فإنه يعتبر عدواً لدوداً لهم، ولا مانع لدى هؤلاء -أعني أولئك الصحفيين الذين كتبوا مثل هذه المقالات ومن كان على شاكلتهم وعلى مذهبهم- أن يستعينوا بـإسرائيل ومن وراء إسرائيل ومن دونها، وأن يستعينوا حتى بالشيطان في مواجهة بعض القوى وبعض الدول التي تحالفت مع العراق، أو اتخذت موقفاً عادياً ليس مؤيداً ولا رافضاً.
ونحن نقول وبكل تأكيد: إن الدول التي وقفت مع العدوان العراقي هي دول ظالمة آثمة مهما كانت وبأي زي تزيت، وأي شعار رفعت، وهذا أمر لا شك فيه، ونحن كنا من قبل ولا زلنا نقوله ويقوله معنا كل المخلصين وكل المطالبين بالعدل، ولكن هذا لا يعني أبداً أن نتجاهل أصول العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومبادئها الراسخة من أجل موقف واحد، بل ينبغي أن يكون العدو عدواً لنا أمس واليوم وغداً، وأن يكون الصديق صديقاً لنا، وليس صحيحاً أن نظل نغير خريطة أعدائنا وأصدقائنا كل يوم بحسب متغيرات الأحوال، فيوم كانت الحرب العراقية الإيرانية مستعرة قائمة، كانت خريطة الأعداء مختلفة تماماً عما هي عليه الآن، ولما كانت حرب الخليج الأخيرة قائمة كانت الخريطة مختلفة، وأخشى ما أخشاه أن يغير هؤلاء خريطة عداوتهم يومياً فتصبح إسرائيل في نظر هؤلاء المفكرين المتقلبين وأمثالهم من الزعماء والساسة والصحفيين أن تصبح في قائمة الأصدقاء، بل ربما على رأس قائمة الأصدقاء، لماذا؟ لأنها تتميز بالقوة، ولأنها دولة ذات أهداف ومرامٍ بعيدة، ولأنه يهمها كثيراً أن تُوجد قدراً كبيراً من الانشطار، والانشقاق، والتفتيت، في الصف الإسلامي والصف العربي.
إن إسرائيل -أيها الإخوة- ومن ورائها العالم الغربي تسعى بكل إمكانياتها وقواها إلى تطبيع علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، من الناحية العقلية، والعقدية، والفكرية، ثم من الناحية السياسية والاقتصادية والحضارية، والسياحية، والعلمية، ولا يعني أن هذا حلم قد يتحقق أبداً.
فقد يقول قائل بعد سنة أو سنوات: ما كنتم تقولونه لم يجر، ونقول: هذا ما يخططونه ويسعون له بكل وسيلة، ولا يعني أنه سيتحقق، فنحن نظن بالله تعالى ظناً حسناً، ونجزم بأن الله تعالى سيحول بينهم وبين ما يشتهون، ولكن يجب أن نعلم أن من أهم وسائل إحباط هذه المخططات الوعي بها، والوعي بها لا يتم إلا بالحديث عنها وإدراكها وكشف أبعادها للخاص والعام من الناس.
أيها الإخوة: إنني أعترف إليكم بالعجز عن تناول هذا الموضوع الطويل لأسباب كثيرة، منها:-
أولاً: أنه موضوع علمي إحصائي دقيق يعتمد على المعلومات والأرقام، ويعتمد على الخرائط والتواريخ التي يثقل على المستمع في مثل هذا المجلس، أو حتى على مستمع الشريط أن يتابعها بصورة جيدة.
ثانياً: ثم إن هذا الموضوع موضوع متشعب من الناحية التاريخية ومن الناحية الواقعية، ثم إنه موضوع يمس أطرافاً عديدة قد يكون تناولها أو تناول بعضها أحياناً في حساسية مفرطة من الصعب الحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي في مقدمة هذا الحديث بالإحالة إلى أهم مراجع هذا الموضوع الخطير.
فأقول: إن أهم كتاب قرأته يتناول هذا الموضوع بصورة جيدة جداً هو كتاب الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية لـمحسن عوض، وهذا الكتاب قد طبع في مركز دراسات الوحدة العربية ضمن سلسلة الثقافة القومية، هذا الكتاب بالتأكيد ليس كتاباً موثقاً من جميع النواحي، فهو يتكلم عن دور القوميين العرب، كما يتكلم عن دور الماركسيين العرب في مواجهة التطبيع، وفي مواجهة إسرائيل، ولعل له نبرة قومية واضحة.
ولكن الحقيقة أن هذا الكتاب يحفل بحشد هائل من المعلومات والحقائق والتحليلات لا أعتقد أن كتاباً آخر يحفل بها على الأقل في حدود ما اطلعت عليه، مع اختصار وجودة في لغة الكتاب، كما أن هناك كتاباً آخر اسمه التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيوني لـغسان حمدان، وهناك كتب أخرى لـجمال عبد الهادي، ورفعت فوزي عبد المطلب، وأحمد لبن، وغيرهم من الكتاب والمؤلفين.
إن هدف إسرائيل في الحرب والسلام هدف واحد، وإنها لا يمكن أن تعيش بمعزل عن جيرانها، أو في ظل مقاطعة عربية صارمة، ولا تريد الاندماج وفق الشروط العربية، ولكنها تريد أن ترغم العرب على القبول باستغلال إسرائيل لثرواتهم، أو بمعنى أصح: مشاركة القوى العالمية التي تنهب ثروات العرب النفطية وغير النفطية، فتريد أن يكون لها نصيب الأسد في نهب هذه الثروات ومشاركة القوى العالمية في نهب الثروات العربية والإسلامية.
إنها تريد القبول بالقيادة اليهودية للأمة الإسلامية سياسياً، وحضارياً، واقتصادياً وبشكل عام، فلو أجرينا مقارنه بين العمل العسكري الذي يمكن أن تقوم به إسرائيل، والعمل السلمي لوجدنا الأمر واضحاً جدا، فالعمل العسكري في متناول إسرائيل أن تقوم به، بإمكانها أن تشن حرباً أو عدواناً شاملاً على كل المحاور وكافة الأطراف، ولكن هذا العمل العسكري الذي قد تتفوق فيه إسرائيل نظراً لتفوقها في المجال الجوي وفي مجال الأسلحة الاستراتيجية وفي المجال النوعي، هذا العمل العسكري لا يمكن أن يضمن لـإسرائيل حدوداً آمنة، ولا يمكن أن يضمن لها اقتصاداً نشطاً قوياً، ولا يمكن أن يضمن لها حدوداً مفتوحة مع جيرانها.
إن إسرائيل صغيرة الحجم، صغيرة الموارد، تعتمد كثيراً على ما يأتيها من الدعم الخارجي، سواء الدعم من القوى الدولية كـأمريكا وغيرها، أو من دعم الأفراد اليهود والأثرياء اليهود الموجودين في العالم، وهي قليلة العدد، صغيرة المساحة، ومع صغر مساحتها فإن نصف هذه المساحة هي عبارة عن صحراء جرداء قاحلة، ويكفي أن تعلم في قلة موارد إسرائيل أن حجم البترول والغاز الذي تستخدمه إسرائيل من أرضها لا يعادل إلا (1%) مما تستخدمه، ومعنى ذلك أنها تستورد (99%) من الطاقة النفطية والغاز من الخارج، فضلاً عن المشكلات المائية التي قد تواجهها إسرائيل عام (2000م) كما تقول كثير من التحليلات والدراسات الغربية والإسرائيلية، ولذلك تدرك إسرائيل أن مشكلتها لا يمكن أن تحل عن طريق الحرب والعمل العسكري بأي حال من الأحول، ولا يمكن أن تحل إلا عن طريق العمل السلمي، ولهذا سعت إسرائيل إلى عملية التطبيع، لضمان أهداف عديدة منها:
الهدف الأول: كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود
الهدف الثاني: إلغاء المقاطعة العربية
الهدف الثالث : تهيئة الظروف لاستقبال ملايين آخرين من اليهود
الهدف الرابع : إزاحة العقبات التي تكذر الحياة اليهودية
الهدف الخامس: فتح مجالات وآفاق جديدة للتعاون بين الأصدقاء الجدد
فقد أفقدت هذه المقاطعة اليهود إلى حد ما مزايا التعامل التجاري مع جيرانها العرب، ويقدر بعض الخبراء خسائر إسرائيل من جراء القطيعة بينها وبين العرب في الحدود بأكثر من عشرة بالمائة من الناتج القومي، وهذا يعتبر عبئاً على الاقتصاد الإسرائيلي.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5118 استماع |
حديث الهجرة | 5007 استماع |
تلك الرسل | 4155 استماع |
الصومال الجريح | 4146 استماع |
مصير المترفين | 4123 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4052 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3976 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3929 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3872 استماع |
التخريج بواسطة المعجم المفهرس | 3833 استماع |