نداءات الرحمن لأهل الإيمان 54


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. آمين.

هذا هو [ النداء الثاني والخمسون ] والنداءات تسعون نداء، وهي نداءات الله عز وجل لعباده المؤمنين، فقد ناداهم ليأمرهم بما يكملهم ويسعدهم، وناداهم لينهاهم عما يخسرهم ويشقيهم، وناداهم ليبشرهم ولتطمئن قلوبهم وتنشرح صدورهم، ويتسع نطاق أعمالهم الخيرية الصالحة، وناداهم لينذرهم ويحذرهم مما يكون سبباً لشقائهم وخسرانهم، وناداهم ليعلمهم علوماً ومعارف يكملون بها ويسعدون. وهو لا ينادهم لغير هذا؛ لأنه عليم حكيم.

وهذه النداءات التسعون درسنا منها واحداً وخمسين نداء، وها نحن مع النداء والثاني والخمسين، والله أسأل أن نكملها، وأن نحفظها، وأن نفهم مراد الله منها، وأن نعمل به؛ لنصبح من أهل الملكوت الأعلى. اللهم آمين.

وهذا النداء أولاً مضمونه: [ في حرمة أكل أموال الناس بالباطل ] فقد نادانا ربنا جل وعز في هذا النداء لينهانا عن أكل أموال الناس بالباطل بدون حق [ و] لبيان [ الوعيد الشديد لمن يكنز الذهب والفضة، ولا يخرج زكاتهما ] فهذا النداء يتضمن هذين المعنيين:

الأول: حرمة أكل أموال الناس بالباطل، وإن كانت مثقال درهم.

والثاني: أنه يحمل الوعيد الشديد لمن يكنز الذهب والفضة والعمل، ولا يخرج زكاتهما.

وهيا نتغنى به ساعة، ثم نأخذ في شرحه وبيان ما فيه، وكلمة ساعة لا تعني ستين دقيقة.

[ الآيتان (34 ، 35) من سورة التوبة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35] ].

سبب معاداة الأحبار والرهبان للإسلام وصدهم عنه

[ الشرح ] لهذا النداء الكريم: [ اذكر أيها القارئ الكريم! ] الذي يقرأ هذه النداءات أو يستمع إليها [ أن الله تعالى لا ينادي عباده المؤمنين إلا ليأمرهم بفعل ما يكملهم ويسعدهم، أو لينهاهم عما يشقيهم ويخسرهم، وها هو ذا تعالى في هذا النداء العظيم يخبرهم بحال أعدائهم من اليهود والنصارى الذين يريدون دوماً أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]والمشركون معاً، يخبرهم ] أي: يخبر الله عباده المؤمنين [ بحال رجال الدين فيهم ] الذين قبلهم [ وهم الأحبار والرهبان، وأنهم ماديون صِرفاً، وما شعار الدين الذين يحملونه إلا خدعة لعوامهم وجهالهم؛ إذ قال تعالى: إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ [التوبة:34] وهم علماء اليهود، وَالرُّهْبَانِ [التوبة:34] وهم عباد النصارى، وأما علماؤهم ] أي: علماء النصارى [ فهم القُسس - والواحد منهم يقال له: قس- لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [التوبة:34]، أي: بدون حق يبيح لهم أكل أموال الناس؛ إذ هم يأكلونها تحت ستار الكذب والحيل كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران لغلاة الذنوب والآثام، إلى غير ذلك من أنواع الحيل والكذب.

وقوله تعالى: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] الذي هو الإسلام ] فسبيل الله الذي يصدون عنه هو الإسلام [ وعلة صدهم عن الإسلام: أن يبقى أتباعهم من اليهود والنصارى سخرة لهم، يعيشون سعداء على حسابهم؛ إذ لو دخل أتباعهم في الإسلام لحرموا سيادتهم عليهم، وأموالهم منهم، وتبع ذلك السلطة والحياة ] أيضاً [ ولم يبق لهم بين الناس ذكر ] فالعلة التي لأجلها يصد الأحبار والرهبان والقُسس أتباعهم عن الإسلام، ويقولون لهم: إن الإسلام ليس بصحيح مع أنهم يعرفون أنه الحق هي: أنه إذا انصرف الناس عنهم ودخلوا في رحمة الله لم يبق لهم سلطة ولا دولة، ولا مال ولا جاه، ولا غير ذلك في نظرهم. وهذا هو الواقع. مع أنه والله لو لئن يسلم أتباعهم في يوم واحد، ويعيشون هم بعد ذلك فقراء فذلك خير لهم من الدنيا وما فيها، لكن حب العاجلة، وهذا جربناه فينا، ولا نحتاج إلى أن ندلل عليه، وأنتم تعرفون هذا.

وسمي الإسلام سبيل الله لأنه الموصل بالعبد إلى الله، ولأنه هو الذي يعرف العبد بالله، وهو الذي يرضي الله عن العبد، فهو سبيل الله.

قال: [ وهذه حالهم إلى اليوم ] من يوم أن نزلت هذه الآية [ فإنهم يحاربون الإسلام بكل وسيلة ] فعلماء اليهود والنصارى وعباد اليهود والنصارى يحاربون الإسلام بكل وسيلة، وعوامهم لا يعرفون شيئاً، ولكنهم هم يخافون من أن تزول هذه النعمة عنهم بدخول الناس في رحمة الله بالإسلام، فهم يقبحون الإسلام، ويكرهونه ويبغضونه.

ولنذكر لكم تلك الرواية التي ذكرها الشيخ رشيد رضا في تفسيره المنار عن شيخه الشيخ محمد عبده غفر الله لهما ورحمهما: كان الشيخ محمد عبده في سويسرا، أو في باريس نازلاً في فندق، ولم تكن الفنادق كاليوم، فيها المياه بالآلات، وتفجر في الجدران، فأراد أن يتوضأ الشيخ، فقال لصاحبة الفندق: أعطني ماء أتوضأ لأصلي، فجاءته بالسطل فيه ماء، أو إناء فيه ماء، فتوضأ، فجاءت طفلة أو بنية صغيرة تحبو، وأرادت أن تغمس يدها في ذلك الماء، فقالت لها أمها: كخ كخ، يعني: أبعدي أبعدي، هذا فيه ديدان العرب وقمل العرب، وكلمة العرب عندهم تعني المسلمين، فأطلت البنت على الماء وقالت: ماما! ديدان، فتخيلتها من تلك الكلمة وصاحت. فأمها خوفتها بالكذب، وقالت: لا تقربي أوساخ العرب، فهذا فيه ديدان وقمل العرب، أي: المسلمين، فسحرت البنت بتلك الكلمة، فأطلت على السطل، وقالت: ماما! ديدان. وهذه واحدة من مليون؛ كي يبعدوا إخوانهم عن الإسلام.

الوعيد الشديد لمن كنز الأموال ولم يخرج زكاتها

قال: [ وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] إلخ، هذا إعلام آخر ] ثانٍ [ من الله تعالى لعباده المؤمنين ] والإعلام الأول كان عن حال الرهبان والأحبار [ معلماً محذراً؛ حتى لا يقعوا في مثل ما وقع فيه الأحبار والرهبان؛ إذ أخبرهم أن الذين يكنزون الذهب والفضة، وسواء كانوا من الكافرين والمشركين أو من المسلمين، وذلك لحرمة كنز الأموال، وهي قوام الأعمال، وأداة العيش الرغد في الحياة، فتوعد تعالى الذين يكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله بالعذاب الأليم؛ إذ قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] ] أي: موجع [ وقد سلك مسلك الأحبار والرهبان علماء الروافض؛ إذ أن أئمتهم يأخذون منهم ضرائب، هي خمس دخل كل فرد من أي جهة كان هذا الدخل ] وهذا صحيح. فقد [ أخبرني بهذا أحد رجالهم بمدينة الكويت ] فقد قال: نحن نعطي لأئمتنا الخمس 20%، مع أن الزكاة 2.5%، وأما هذه الضريبة للأئمة فهي20%، أي: خمس الدخل، ولذلك فهم لن يسمحوا لهم أن يدخلوا في رحمة الله، ويسألوا عن الإسلام الحق والدين الصحيح؛ لأنهم يعيشون على حسابهم كالأحبار والرهبان، وكآلاف بل مئات الآلاف من العلماء من جماعة التصوف والطرق؛ فإنهم يتركون أتباعهم جهالاً، ولا يسمحون لهم أن يجلسوا إلى العلم والعلماء؛ ليبقوا سخرة لهم أيضاً، يقبلون أرجلهم ورءوسهم، ويعطونهم الأموال. وهذا والله لصحيح. وهذا شأن البشرية إذا زاغت ومالت عن طريق الحق.

قال: [ ويبين تعالى كيفية تعذيب كانزي الذهب والفضة ] فإنهم يعذبون [ بها يوم القيامة، وهو أنها تحول إلى صفائح ] جمع صفيحة [ ويحمى عليها في نار جهنم حتى تلتهب ناراً، ثم تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فلم يبق موضع من أجسامهم إلا يكوى بتلك الصفائح. ومع هذا العذاب الحسي عذاب معنوي، وهو القول لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35] ] لأن العذاب كما تعرفون حسي ومعنوي، والأشد على الأحرار المعنوي، والعذاب الحسي إن جوعته أو لطمته أو غير ذلك فإنه يتحمل، ولكن إذا مسسته في عرضه وكماله لم يطق؛ ولذلك تقول لهم الملائكة: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35] [ كما يقال لـأبي جهل في جنهم ] أو ومعه من سلك سبيله: [ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]. استهزاءً وسخرية ] لأنه عليه لعائن الله كان يتهكم في الرسول والقرآن، وكان يجمع أولاده ويضع بين أيديهم الزبدة - زبدة الغنم والعجوة- ويقول: تعالوا أولادنا! تزقموا، أي: نأكل العجوة رطب المدينة والزبدة، فهذا الزقوم الذي يهددنا به محمد. ويقول هذا سخرية واستهزاء، فأنزل الله تعالى فيه آيات من سورة الدخان، منها: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:43-49]. وهذه أشد من ماء الحميم الذي يصب على رأسه [ وهذا العذاب المعنوي أعظم ألماً من العذاب الجسدي وأشد. هذا معنى قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35] ] ولم يقل: وبطونهم لأنه لو قال ذلك لما تعذبوا إذا ألقوا في العذاب بكاملهم، فلابد أن يبقى البطن والوجوه والقلب يتألم [ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35] ].

الحكمة من فرض الزكاة وخير ما يكنزه المرء لنفسه

قال: [ ولنعلم أيها القارئ! والمستمع! أن هذه الآية لما نزلت] وهي من سورة التوبة، وهي من آخر ما نزل [ اضطرب لها المسلمون ] أصحاب رسول الله في هذه المدينة [ وكبر عليهم أمرها ] فهي تخبرهم أن هذا مصيرهم إن كنزوا الذهب والفضة [ فقال لهم عمر رضي الله عنه: أنا أفرج عنكم، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( يا نبي الله! إنه كبر على أصحابك هذه الآية ) ] وهذه الآية هي: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:34-35]. ويقال لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35]. ففرجها عمر بإذن الله [ ( فقال ) ] أي: [ ( النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم ) ] فانفرجت؛ فإنه لما تؤخذ الزكاة يكون الباقي طيباً، ويصبح طيباً، ولو لم تؤخذ الزكاة يصبح خبيثاً. فقد فرض الله الزكاة من أجل أن يطيب ما بقي من مالكم، ولا تقولوا: مصالح المسلمين، فكل ذلك داخل فيها، ولكن هذه بالذات هي التي فرض الله الزكاة من أجلها، فقد فرض الزكاة ليطيب الباقي من المال، وإلا فإنه يصبح خبيثاً، يهلك به مالكه [ ( وإنما فرض المواريث في أموالكم لتكون لمن بعدكم ) ] فإذا كان لا يكنز المؤمن شيئاً لم يبق ميراث، ولا يجد الورثة ما يرثون، فإذا كان يجب على كل مؤمن أن لا يبقي ديناراً ولا درهماً أبداً زائداً عن قوته لم يبق للورثة شيء، ولا حاجة للمواريث، وهذا المعنى واضح، فهذا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ( فكبر عمر ) ] لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر، وما وسع عمر إلا أن قال: الله أكبر؛ فرحاً بنعمة الله.

[ ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ ) ] وقد أذن لكم في الكنز إذا أخرجت الزكاة، وهذا كنز خير، ولكن خير كنز تشتاق النفوس إليه كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ( المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ) ] أفرحته، [ ( وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته )، أي: في ماله وعرضه ] وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم والله خير كنز، وإذا كان عندك في البنك الأهلي مليار ريال ومعك صعلوكة تذيقك المرارة كل ليلة لم تستفد شيئاً، أو إذا كنت عزباً كالجمل فكل يوم تتورط في محنة ولا تفيدك الأموال، فقولوا: صدق رسول الله.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( التي إذا نظر إليها سرته )، أي: ليست دميمة ولا عمشاء ولا رمصاء، ومع هذا فعندنا نور آخر، فقد قلنا: إذا كانت المرأة تقية نقية صالحة عابدة ولو كانت رمصاء عمشاء دميمة فيكاد أحدنا أن يدخلها في قلبه، وقد جربنا هذا في أكيل الذئب، فقد كان عندنا في الدرس من عشرات السنين رجل نذرته أمه لله، ولما ولد رمته فأكله الذئب، فقالت: إن حيي ولدي أجعله لله في مكة، يخدم الله في بيته، وينظف البيت ويعيش هناك، وهو من أقصى المغرب، وبالفعل نجا من أكل الذئب وحيي، فبعثته، وصادوه في مكة وباعوه مرتين أو ثلاث مرات أيام الهبوط، وطالت الأيام وعاش أكثر من مائة وثلاثين سنة، وكان عندنا في المسجد، وكان يجلس هنا عن يميني، وعيناه زرقاوان، ووجهه مشلط أسود، ونحن إذا نظرنا إليه نكاد ندخله في قلوبنا؛ لبصيرته ووعيه وإيمانه وصلاحه.

قال: [ وهذا الحديث العمري حقاً نفّس عن النفوس المؤمنة ما تجده من ألم في ادخار بعض المال، وحقاً لو حُرِّم الادخار ومنع كيف تنزل آيات الميراث ] وتقسم التركة على الوارثين؟

كيفية قسمة التركة

الآن مسألة جديدة: فليس في النداءات: يا أيها الذين آمنوا للذكر مثل حظ الأنثيين، فبحثنا عن موضع ندخل فيه المواريث فوجدنا هذا، حتى تكون النداءات كاملة لكل ما تطلبه الحياة. والآن اسمعوا بياناً موجزاً عن الإرث، والذي يحفظ هذا يصبح يقسم التركات.

قال الشيخ غفر الله له وإياكم ورحمه وإياكم: [ وتقسيم التركة على الوارثين: للذكر مثل حظ الأنثيين ] وهذا واضح عندنا [ ولكل من الأب والأم لسدس، إذا هلك الابن وترك ولداً ] أو بنتاً فلأمه السدس ولأبيه السدس [ وللأم الثلث والباقي للأب إذا لم يترك ولدهما ولداً ] فإذا مات الابن ولم يترك ولداً فتقسم التركة للأم الثلث وللأب الباقي؛ لأنه عاصب [ وللزوجة الربع إذا لم يترك الزوج ولداً ] فإذا مات الرجل وترك امرأة ولم يترك ولداً فللمرأة الربع [ ولها الثمن إن ترك ولداً ] أو عشرة، وكلمة ولد يدخل فيه الذكر والأنثى المولود [ وللزوج الربع إن تركت زوجته ولداً، وله النصف إن لم تترك ولداً ] فإذا ماتت زوجتك وتركت ولداً أو بنتاً فلك الربع من مالها، وإن لم تترك ولداً فلك النصف، والباقي لعصبتها [ ومن مات من رجل أو امرأة ولم يترك أباً ولا أماً ولا ولداً وإنما ترك أخاً أو أختاً لأم وعصبة فإن لكل واحد منهما السدس، والباقي للعصبة، وإن ترك أكثر من أخ أو أخت لأم فهم شركاء في الثلث ] يقتسمونه بينهم [ والباقي للعصبة، ومن ترك أختاً ] فقط [ ولم يكن له ولد فلها النصف ] من مال أخيها [ وإن ماتت هي ولم تترك ولداً فهو يرث مالها كله، وإن مات هو وترك أختين فلهما الثلثان، والباقي للعصبة كالأعمام مثلاً، ومن ترك منهما إخوة رجالاً ونساء فإن الإخوة يقتسمون التركة للذكر مثل حظ الأنثيين، كالوالد يموت ويترك بنين وبنات، فإنهم يقتسمون التركة للذكر مثل حظ الأنثيين. ولا تقسم التركة إلا بعد إنفاذ الوصية وسداد الدين. هذه قسمة الله تعالى في مال الهالك، فلو كان كنز المال حراماً فكيف ينزل القرآن بقسمته ] بهذه القسمة [ على النحو الذي فصلت؟ ] فهذا ليس معقولاً أبداً [ لذا الإجماع على أن المال المدخر إذا أخرجت زكاته لا يُعد كنزاً محرماً يُعذب به صاحبه ] وقد شذ في الصحابة واحد، ولكن أدبوه ورجع، ولذا الإجماع على أن المال المدخر للادخار والمبقى للحاجة إذا أخرجت زكاته كل سنة لا يعد كنزاً محرماً يعذب به صاحبه.

عاقبة من لم يخرج زكاة ماله

قال: [ أما الذي لم يخرج زكاته سنوياً فالعذاب لازم، وهذا مسلم يُخرِّج حديث أبي هريرة ] رضي الله عنه وهو [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ). ومثله أيضاً: ( من كان عنده إبل أو غنم أو بقر فلم يؤت زكاتها فإنه يعذب في عرصات القيامة إلى نهاية الحساب، ثم إلى الجنة أو إلى النار ) ] وقد عرفتم الآن الزكاة. وقد ذكر هذا لأن الآية عامة، فقد قال: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة:34]. ففهم من فهم، وبكى الصحابة، ولما رأى عمر حيرتهم قال: أفرج عنكم إن شاء الله، وفوراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( يا رسول الله! إن الآية كبرت على أصحابك ). فذكر له الرسول البيان الذي سمعتم، وعلمهم أن خير ما يكنز يا من يريدون الكنز! المرأة الصالحة، والصالحة هي التي تؤدي حقوق الله كاملة، وحقوق العبادة كاملة؛ لأن الصالح بين الناس هو الذي يؤدي حقوق الله كاملة، ويؤدي حقوق الخلق كاملة، فذلك الذي يقال فيه: عبد صالح. وهؤلاء الصالحون هم آخر مواكب أهل الجنة، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]. ولهذا نسلم عليهم باللاسلكي في كل صلاة، فنقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فلا يبقى صالح في الملكوت إلا ويناله هذا السلام، والحمد لله. فالصالح فينا هو الذي يؤدي حقوق الله، ولا يبخس منها شيئاً، ويؤدي حقوق الناس، ولا يبخس منها شيئاً. فهو في عداد الصالحين.

قال: [ ألا فلنذكر هذا أيها القارئ! والمستمع! ولنُعلِّم الناس ما يجب أن يعلموه من دين الله، ولنحثهم على العمل به طلباً للنجاة؛ إذ الله شديد العقاب وسريع الحساب.

وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].