وقد تقرر من دين الأمة قاطبة أن الغرض من الإمامة جمع الآراء المتشتتة، وارتباط الأهواء المتفاوتة

وتقدير خلو الدهر عن حملة الشريعة اجتهاداً ونقلاً نادر في التصوير والوقوع جداً ولو فرض والعياذ بالله، كان تقدير عود العلماء أبدع من كل بديع، فليلحق ذلك بالنادر الدائم

مآخذ الشريعة مضبوطة محصورة، وقواعدها معدودة محدودة؛ فإن مرجعها إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآي المشتملة على الأحكام وبيان الحلال والحرام معلومة، والأخبار المتعلقة بالتكاليف في الشريعة متناهية

ونظام الملك، وقوام الأمر بالإذعان والإقرار لذي رأي ثابت لا يستبد ولا ينفرد، بل يستضيء بعقول العقلاء، ويستبين برأي طوائف الحكماء والعلماء، ويستثمر لباب الألباب

وإذا انتشرت من خطة المملكة الأطراف وأسبلت العماية دون معرفتها أسداد الأعراف، ولم تطلع شمس رأي راعي الرعية على صفة الإشراق والإشراف، امتدت أيدي الظلمة إلى الضعفة بالإهلاك والإتلاف

الإمام لا يستوزر إلا شهماً كافياً، ذا نجدة، وكفاية، ودراية، ونفاذ رأي، واتقاد قريحة، وذكاء فطنة، ولا بد وأن يكون متلفعاً من جلابيب الديانة بأسبغها وأضفاها وأصفاها، راقياً من أطواد المعالي إلى ذراها؛ فإنه متصد لأمر عظيم، وخطب جسيم، والاستعداد للمراتب على قدر أخطار المناصب

لا يخفى على أهل الزمان الذي لم تدرس فيه قواعد الشريعة، وإنما التبست تفاصيلها أنّا غير مكلفين بالتوقي مما لا يتأتى التوقي عنه، ولا يخلو مثل هذا الزمان عن العلم بأن ما يتعذر الصون عنه جداً، وإن كان متصوراً على العسر والمشقة معفو عنه

فإن ما تعين على المتعبد المكلف، لو تركه، ولم يقابل أمر الشارع فيه بالارتسام، اختص المأثم به، ولو أقامه، فهو المثاب

والتيقظ والخبرة أس الإيالة، وقاعدة الإمرة، وإذا عمَّى المعتدون أخبارهم، أنشبوا في المستضعفين أظفارهم، واستجرؤوا ثم على الاعتداء، ثم طمسوا عن مالك الأمر آثارهم ويخون حينئذ المؤتمن، ويغش الناصح، وتشيع المخازي والفضائح

ولا مطمع في وجدان نص من كتاب الله تعالى في تفاصيل الإمامة والخبر المتواتر معوز أيضاً؛ فآل مآل الطلب في تصحيح المذهب إلى الإجماع، فكل مقتضى ألفيناه معتضداً بإجماع السابقين، فهو مقطوع به، وكل ما لم نصادف فيه إجماعاً اعتقدناه واقعة من أحكام الشرع

العلم المشهور بأصول الفقه، ومنه يستبان مراتب الأدلة وما يقدم وما يؤخر، ولا يرقى المرء إلى منصب الاستقلال دون الإحاطة بهذا الفن

وليست الإمامة من قواعد العقائد، بل هي ولاية تامة، ومعظم القول في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة في محل التأخي والتحري

والدعاء إلى المعروف والنهي عن المنكر يثبت لكافة المسلمين، إذا قدموا بثبت وبصيرة، وليس إلى الرعية إلا المواعظ والترغيب والترهيب، من غير فظاظة وملق

حملة الشريعة، والمستقلون بها هم المفتون المستجمعون لشرائط الاجتهاد من العلوم، والضامون إليها التقوى والسداد

والإمام في التزام الأحكام، وتطوق الإسلام كواحد من مكلفي الأنام، وإنما هو ذريعة في حمل الناس على الشريعة

الإسلام هو الأصل والعصام، فلو فرض انسلال الإمام عن الدين، لم يخف انخلاعه، وارتفاع منصبه وانقطاعه، فلو جدد إسلاماً لم يعد إماماً إلا أن يُجَدد اختياره

والناس على تاراتهم وتباين طبقاتهم مواظبون على إقامة وظائف الصلوات مثابرون على رعاية الأوقات، باحثون عما يتعلق بها من الشرائط والأركان والهيئات فهي لذلك لا تندرس على ممر الدهور، ولا يمحق ذكر أصولهاعن الصدور

لو لم يكن في خِطة الإسلام متبوع يأوي إليه المختلفون، وينزل على حكمه المتنازعون، ويذعن لأمره المتدافعون إذا أعضلت الحكومات، ونشبت الخصومات، وتبددت الإرادات، لارتبك الناس في أفظع الأمر، ولظهر الفساد في البر والبحر