اعلم أن العرب في الجاهلية كانت على ثلاثة أنواع من العلوم:
أحدهما: علم الأنساب والتواريخ والأديان ويعدونه نوعا شريفا خصوصا معرفة ( 2 \ 238 ) أنساب أجداد النبي عليه الصلاة و السلام والاطلاع على ذلك النور الوارد من صلب إبراهيم إلى إسماعيل عليهم السلام وتواصله في ذريته إلى أن ظهر بعض الظهور في أسارير عبد المطلب: سيد الوادي شيبة الحمد وسجد له الفيل الأعظم وعليه قصة أصحاب الفيل
وببركة ذلك النور دفع الله تعالى شر أبرهة وأرسل عليهم طيرا أبابيل
وببركة ذلك النور رأى تلك الرؤيا في تعريف موضع زمزم ووجدان الغزالة والسيوف التي دفنتها جرهم
وببركة ذلك النور ألهم عبد المطلب النذر الذي نذر في ذبح العاشر من أولاده وبه افتخر النبي عليه الصلاة و السلام حين قال: ( أنا ابن الذبيحين )
أراد بالذبيح الأول: إسماعيل عليه السلام وهو أول من انحدر إليه النور فاختفى
وبالذبيح الثاني: عبد الله بن عبد المطلب وهو آخر من انحدر إليه النور فظهر كل الظهور
وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور
وببركة ذلك النور كان قد سلم إليه النظر في حكومات العرب والحكم بين المتخاصمين فكان يوضع له وسادة عند الملتزم فيستند إلى الكعبة وينظر في حكومات القوم
وببركة ذلك النور قال لأبرهة: إن لهذا البيت ربا يحفظه ويذب عنه وفيه قال وقد صعد إلى جبل أبي قبيس:
لا هم إن المرء يم نع حله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدرا محالك
إن كنت تاركهم وكع بتنا فأمر ما بدا لك
وببركة ذلك النور كان يقول في وصاياه: إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم ( 2 \ 239 ) الله منه وتصيبه عقوبة
إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب ذلك ففكر وقال: والله إن وراء هذا دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب فيها المسيء بإساءته
ومما يدل على إثباته المبدأ والمعاد أنه كان يضرب بالقداح على ابنه عبد الله ويقول:
يا رب أنت المليك المحمود ... وأنت ربي المبدئ والمعيد
من عندك الطارف والتليد
ومما يدل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة أن أهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمدا صلى الله عليه و سلم فأحضره وهو رضيع في قماط فوضعه في يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء وقال: يا رب بحق هذا الغلام ورماه ثانيا وثالثا وكان يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد
وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي منه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
بطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم ورب البيت نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وقال العباس بن عبد المطلب في النبي عليه الصلاة و السلام قصيدة منها:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حين يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صلب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن في ... خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ظهرت أشرقت الأ ... رض وضاء بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي الن ... ور وسبل الرشاد نخترق
وأما النوع الثاني من العلوم: فهو علم الرؤيا وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ممن يعبر الرؤيا في الجاهلية ويصيب فيرجعون إليه ويستخبرون عنه
وأما النوع الثالث: فهو علم الأنواء وذلك مما يتولاه الكهنة والقافة منهم
وعن هذا قال النبي صلى الله عليه و سلم: ( من قال مطرنا بنوء كذا فقد كفر بما أنزل على محمد )