وهو أول من تفلسف في ملطية
قال: إن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة هويته وإنما يدرك من جهة آثاره وهو الذي لا يعرف اسمه فضلا عن هويته إلا من نحو أفاعيله وإبداعه وتكوينه الأشياء فلسنا ندرك له اسما من نحو ذاته بل من نحو ذاتنا
ثم قال: إن القول الذي لا مرد له هو أن المبدع كان ولا شيء مبدع فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات لأن قبل الإبداع إنما هو فقط وإذا كان هو فقط فليس يقال حينئذ: جهة وجهة حتى يكون هو وصورة أو حيث وحيث حتى يكون هو وذو صورة والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين
والإبداع: هو تأييس ما ليس بأيس وإذا كان هو مؤيس الأيسيات والتأييس لا من شيء متقادم فمؤيس الأشياء لا يحتاج إلى أن يكون عنده صورة الأيس بالأيسية وإلا فقد لزمه إن كانت الصورة عنده أن يكون منفردا عن الصورة التي عنده فيكون هو وصورة وقد بينا أنه قبل الإبداع إنما هو فقط
وأيضا فلو كانت الصورة عنده: أكانت مطابقة للموجود الخارج أم غير مطابقة ؟
فإن كانت مطابقة فلتتعدد الصور بعدد الموجودات ولتكن كلياتها مطابقة للكليات وجزئياتها مطابقة للجزئيات ولتتغير بتغيرها كما تكترث بتكثرها وكل ذلك محال لأنه ينافي الوحدة الخالصة
وإن لم تطابق الموجود الخارج فليست إذن صورة عنه بل إنما هي شيء آخر
وقال: لكنه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعلومات كلها فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول فمحل الصور ومنبع الموجودات كلها هو ذات العنصر
وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي إلا وفي ذات العنصر صورة له ومثال عنه
قال: ومن كمال ذات الأول الحق أنه أبدع مثل هذا العنصر فما يتصوره العامة في ذاته تعالى أن فيها الصور يعني صور المعلومات فهو في مبدعه ويتعالى الأول الحق بوحدانيته وهويته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه
ومن العجب أنه نقل عنه أن ( 2 \ 62 ) المبدع الأول هو الماء
قال: الماء قابل لكل صورة ومنه أبدع الجواهر كلها من السماء والأرض وما بينهما وهو علة كل مبدع وعلة كل مركب من العنصر الجسماني فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض ومن انحلاله تكون الهواء ومن صفوة الهواء تكونت النار ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل إليه
قال: والماء ذكر والأرض أنثى وهما يكونان سفلا والنار ذكر والهواء أنثى وهما يكونان علوا
وكان يقول: إن هذا العنصر الذي هو أول وهو آخر - أي هو المبدأ وهو الكمال - هو عنصر الجسمانيات والجرميات لا أنه عنصر الروحانيات البسيطة
ثم إن هذا العنصر له صفو وكدر:
فما كان من صفوه فإنه يكون جسما
وما كان من كدره فإنه يكون جرما
فالجرم يدثر والجسم لا يدثر والجرم كثيف ظاهر والجسم لطيف باطن وفي النشأة الثانية يظهر الجسم ويدثر الجرم ويكون الجسم اللطيف ظاهرا والجرم الكثيف داثرا
وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار ولا يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحس والبهاء وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره ولا يبصر نوره والمنطق والنفس والطبيعة تحته ودونه وهو الدهر المحض من نحو آخره لا من نحو أوله وإليه تشتاق العقول والأنفس وهو الذي سميناه الديمومة والسرمد والبقاء في حد النشأة الثانية
فظهر بهذه الإشارات أنه إنما أراد بقوله: الماء هو المبدع الأول أي هو مبدأ التركيبات الجسمانية لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية لكنه لما اعتقد أن العنصر الأول هو قابل ( 2 \ 63 ) كل صورة أي منبع الصور كلها فأثبت في العالم الجسماني له مثالا يوازيه في قبول الصور كلها ولم يجد عنصرا على هذا النهج مثل الماء فجعله المبدع الأول في المركبات وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية
وقال في التوراة في السفر الأول منها: إن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى ثم نظر إليه نظرة الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان فخلق منه السموات وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال
وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية
والذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية إذ فيه جميع أحكام المعلومات وصور جميع الموجودات والخبر عن الكائنات
والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش ( وكان عرشه على الماء )