أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير وقتله بهرام بن هرمز بن سابور وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه السلام أحدث دينا بين المجوسية والنصرانية
وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام
حكى محمد بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق وكان في الأصل مجوسيا عارفا بمذاهب القوم: إن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين: أحدهما نور والآخر ظلمة وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم
وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين دراكين سميعين بصيرين وهما مع ذلك في النفس والصورة والفعل والتدبير متضادان وفى الحيز متحاذيان تحاذي الشخص والظل
وإنما تتبين جواهرهما وأفعالهما في هذا الجدول: ( 1 \ 245 ) الجوهر النفس الفعل الحيز الأجناس الصفات
النور:
جوهره: حسن فاضل كريم صاف تقي طيب الريح حسن المنظر
نفسه: خيرة كريمة حكيمة نافعة عالمة
فعله: الخير والصلاح والنفع والسرور والترتيب والنظام والاتفاق
جهته: جهة فوق وأكثرهم على أنه مرتفع ناحية الشمال
وزعم بعضهم أنه يجنب الظلمة
أجناسه خمسة: أربعة منها أبدان والخامس روحه
فالأبدان هي: النار والنور والريح والماء
وروحها: النسيم وهي تتحرك في هذه الأبدان
الصفات: حية خيرة طاهرة زكية
وقال بعضهم: كون النور لم يزل على مثال هذا العالم له أرض وجو
فأرض النور: لم تزل لطيفة على غير صورة هذه الأرض بل هي على صورة جرم الشمس وشعاعها كشعاع الشمس ورائحتها أطيب رائحة وألوانها ألوان قوس قزح
وقال بعضهم: لا شيء إلا الجسم والأجسام على ثلاثة أنواع:
أرض النور: وهي خمسة
وهناك جسم آخر ألطف منه وهو الجو وهو نفس النور
جسم آخر ألطف منه وهو النسيم وهو روح النور
قال: ولم يزل يولد النور ملائكة وآلهة وأولياء لا على سبيل المناكحة بل كما تتولد الحكمة من الحكيم والمنطق الطيب من الناطق
قال: وملك ذلك العالم هو روحه ويجمع عالمه: الخير والحمد والنور
الظلمة:
جوهرها: قبيح ناقص لئيم كدر خبيث منتن الريح قبيح المنظر
نفسها: شريرة لئيمة سفيهة ضارة جاهلة
فعلها: الشر والفساد والضرر والغم والتشويش والتبتير والاختلاف
جهتها: جهة تحت وأكثرهم على أنها منحطة من ناحية الجنوب
وزعم بعضهم أنها بجنب النور
أجناسها خمسة: أربعة منها أبدان والخامس روحها
فالأبدان هي: الحريق والظلمة والسموم والضباب
وروحها: الدخان وتدعى الهامة وهي تتحرك في هذه الأبدان
الصفات: ميتة شريرة نجسة دنسة
وقال بعضهم: كون الظلمة لم تزل على مثال هذا العالم لها أرض وجو
فأرض ( 1 \ 245 ) الظلمة لم تزل كثيفة على غير صورة هذه الأرض بل هي أكثف وأصلب ورائحتها كريهة أنتن الروائح وألوانها ألوان السواد
وقال بعضهم: لا شيء إلا الجسم والأجسام على ثلاثة أنواع:
أرض الظلمة
وجسم آخر أظلم منه وهو الجو
وجسم آخر أظلم منه وهو السموم
قال: ولم تزل تولد الظلمة شياطين وأراكنة وعفاريت لا على سبيل المناكحة بل كما تتولد الحشرات من العفونات القذرة
قال: وملك ذلك العالم هو روحه ويجمع عالمه: الشر والذميمة والظلمة
ثم اختلفت المانوية في المزاج وسببه والخلاص وسببه:
قال بعضهم: إن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق لا بالقصد والاختيار
وقال أكثرهم: إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل فنظرت الروح فرأت النور فبعثت الأبدان على ممازجة النور فأجابتها لإسراعها إلى الشر فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملكا من ملائكته في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية فخالط الدخان النسيم وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم والهلاك والآفات من الدخان
وخالط الحريق النار والنور الظلمة والسموم الريح والضباب الماء فما في العالم من منفعة وخير وبركة فمن أجناس النور وما فيه من مضرة وشر وفساد فمن أجناس الظلمة
فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكا من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة
وإنما سارت الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب لاستصفاء أجزاء النور من أجزاء الظلمة
فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر
والقمر يستصفى النور الذي امتزج بشياطين البرد
والنسيم الذي في الأرض لا يزال يرتفع لأن من شأنها الارتفاع إلى عالمها
وكذلك جميع أجزاء النور أبدا في الصعود والارتفاع وأجزاء الظلمة أبدا في النزول والتسفل حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء ويبطل الامتزاج وتنحل التراكيب ويصل كل إلى كله وعالمه وذلك هو القيامة والمعاد
قال: ومما يعين في التخليص والتمييز ورفع أجزاء النور التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البر فترتفع بذلك الأجزاء النورية في عمود الصبح إلى فلك القمر ولا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى نصفه فيمتلئ فيصير بدرا ثم يؤدي إلى الشمس إلى آخر الشهر
وتدفع الشمس إلى نور فوقها فيسري ذلك العالم إلى أن يصل إلى النور الأعلى الخالص ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء ( 1 \ 247 ) في هذا العالم إلا قدر يسير منعقد لا تقدر الشمس والقمر على استصفائه فعند ذلك يرتفع الملك الذي يحمل الأرض ويدع الملك الذي يجذب السماوات فيسقط الأعلى على الأسفل ثم توقد نار حتى يضطرم الأعلى والأسفل ولا تزال تضطرم حتى يتحلل ما فيها من النور وتكون مدة الاضطرام ألفا وأربعمائة وثمانيا وستين سنة
وذكر الحكيم ماني في باب الألف من الجبلة الأولى وفي أول الشابرقان: إن ملك عالم النور في كل أرضه لا يخلو منه شيء وأنه ظاهر باطن وأنه لا نهاية له إلا من حيث تناهي أرضه إلى أرض عدوه
وقال أيضا: إن ملك عالم النور في سرة أرضه
وذكر أن المزاج القديم هو امتزاج الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والمزاج المحدث هو الخير والشر
وقد فرض ماني على أصحابه العشر في الأموال كلها والصلوات الأربع في اليوم والليلة والدعاء إلى الحق وترك الكذب والقتل والسرقة والزنا والبخل والسحر وعبادة الأوثان وأن يأتي على ذي روح ما يكره أن يؤتى إليه بمثله
واعتقاده في الشرائع والأنبياء أن أول من بعث الله تعالى بالعلم والحكمة آدم أبو البشر ثم بعث شيثا بعده ثم نوحا بعده ثم إبراهيم بعده عليهم الصلاة والسلام ثم بعث بالبددة إلى أرض الهند وزردشت إلى أرض فارس والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب وبولس بعد المسيح إليهم ثم يأتي خاتم النبيين إلى أرض العرب
وزعم أبو سعيد المانوي رئيس من رؤسائهم أن الذي مضى من المزاج إلى الوقت الذي هو فيه - وهو سنة إحدى وسبعين ومائتين من الهجرة - أحد عشر ألفا وسبعمائة سنة وأن الذي بقي إلى وقت الخلاص ثلاثمائة سنة
وعلى مذهبه: مدة المزاج اثنا عشر ألف سنة فيكون قد بقي من المدة خمسون سنة في زماننا هذا وهو إحدى وعشرون وخمسمائة هجرية
فنحن في آخر المزاج وبدء الخلاص فإلى الخلاص الكلي وانحلال التراكيب خمسون سنة