التصديق، وأخبرنا عن القدر خيره وشره وحلوه ومره، وأنه فعل الله للابتلاء وترتيب الجزاء، وهذه أخبار تتطلب التصديق وعلم اليقين.
ومن العجيب أن الترتيب النبوي المذكور في الحديث لهذه الأركان اشتمل على السر في حياة الإنسان، وأصحاب البصيرة يرون هذا السر في ترتيب الأركان مشهودا وبين الكلمات موجودا، وترتيب الرسول لها كان ترتيبا مقصودا، فالمعني الموضوع بين أركان الإيمان، أن تؤمن بالله الذي أنزل ملائكته، أنزلهم بماذا؟ أنزلهم بكتبه على من؟ على رسله، أنزل ملائكته بكتبه على رسله لماذا؟ ليحذروا العباد من اليوم الآخر، من تقرير المصير وعواقب التدبير، فإذا انتهي الناس بعد العرض والحساب، واستقروا في الآخرة للثواب والعقاب، عندها يتم المصير مطابقا للتقدير الذي دون في أم الكتاب، قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فأركان الإيمان في باب الأخبار أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه، ولا يكون الإيمان بهذه الأركان إلا باليقين الذي لا شك فيه، وهو التصديق الجازم الذي لا تكذيب فيه.
وكما أن الإيمان له في باب الأخبار ستة أركان، كذلك له في باب الأوامر عدة أركان، تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان، وهي تتعلق بتفيذ الأمر وتحقيق المطلوب والسعي في رضا المحبوب، فإذا تم هذا الإيمان بنوعيه، ظهر كمال الدين وصدق واليقين كما قال عبد الله بن مسعود اليقين الإيمان كله.
ومن أجل ذلك أيضا كلف الله الإنسان بالتصديق الجازم لأركان الإيمان، وكل خبر ورد ذكره في القرآن، فقال تعالى في توضيح هذه المعان: (الم، ذَلكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًي للمُتَّقِينَ، الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِل إِليْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلئِكَ على هُدًي مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمْ المُفْلحُونَ) .
والسؤال الذي يتردد على الأذهان ويطرح نفسه الآن، كيف يكون اليقين المنافي للشك شرطا من شروط لا إله إلا الله؟ اعلم عبد الله أن اليقين المنافي للشك يكون شرطا من شروط لا إله إلا الله، بأن يكون قائلها مستيقنا بمدلولها يقينا جازما، ينفي الوهم والشك والظن، قال تعالى: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ لمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيل اللهِ أُوْلئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ) ، فاشترط القرآن في صدق إيمانهم بربهم ونبيهم ألا يرتابوا أي لا يشكوا، فالمرتابون هم المنافقون، الذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّمَا يَسْتَاذِنُكَ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) .
وعند البخاري من حديث أَسْمَاءَ بنت أبي بكر، أن النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: َأُوحِيَ إِليَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْل فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّال، يُقَالُ للميت مَا عِلمُكَ بِهَذَا الرَّجُل فَأَمَّا المُؤْمِنُ أَوِ المُوقِنُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله جَاءَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَالهُدَي فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاثًا فَيُقَالُ نَمْ صَالحًا قَدْ عَلمْنَا إِنْ كُنْتَ لمُوقِنًا بِهِ وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ فَيَقُولُ لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلتُهُ.
روي الإمام مسلم بسنده من حديث أبي هُرَيْرَةَ قَال: كُنَّا قُعُودًا حَوْل رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ من الصحابة، فَقَامَ رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فَأَبْطَأَ عَليْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا