كان الأمين قد أرسل عبدالملك بن صالح بن علي إلى الشام ليجمع له الجند، لكنه توفي في الرقة، فتولى أمر الجند الحسين بن علي بن ماهان، فعاد بهم إلى بغداد، ورفض القدوم على الأمين الذي أرسل إليه من يحضره، فاقتتل الطرفان وانهزم الجمع الذين أرسلهم الأمين، فخلع الحسين الأمين يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، وأخذ البيعة للمأمون من الغد يوم الاثنين، فلما أصبح الناس يوم الأربعاء طلبوا من الحسين بن علي أعطياتهم واختلفوا عليه، وصار أهل بغداد فرقتين؛ فرقة مع الأمين، وفرقة عليه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فغلب حزب الخليفة، وأسروا الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان وقيدوه، ودخلوا به على الخليفة ففكوا عنه قيوده، ثم إن الأمين عفا عن الحسين وولاه الجند وسيره إلى حلوان، فلما وصل إلى الجسر هرب في حاشيته وخدمه، فبعث إليه الأمين من يرده، فركبت الخيول وراءه فأدركوه فقاتلهم وقاتلوه، فقتلوه لمنتصف رجب.


هو أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمام عالم العصر ناصر الحديث، فقيه الملة، ثم المطلبي الشافعي، المكي، الغزي القرشي، أحد الأئمة الأربعة المشهورين في الفقه، ولد في غزة عام 150هـ فعادت به أمه إلى مكة، وهو ابن سنتين، فنشأ بها، وأقبل على الأدب والعربية والشعر، فبرع في ذلك.

وحبب إليه الرمي حتى فاق الأقران، وصار يصيب من العشرة تسعة.

ثم كتب العلم.

قال الشافعي: "أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها، وحفظت القرآن، فما علمت أنه مر بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه، ما خلا حرفين، إحداهما: دساها" وكان من أفصح الناس وأحفظهم، رحل إلى المدينة وسمع من الإمام مالك, قال الشافعي: "أتيت مالكا وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، وكان ابن عم لي والي المدينة، فكلم لي مالكا فأتيته.

فقال: اطلب من يقرأ لك، فقلت: أنا أقرأ، فقرأت عليه.

فكان ربما قال لي لشيء: أعده, فأعيده حفظا, وكأنه أعجبه".

ثم رحل لليمن، ثم سير إلى العراق إلى الرشيد وبقي فيها وتفقه، وتكررت رحلته إلى العراق أكثر من مرة، ثم إلى مصر، وله من المؤلفات: الرسالة، والأم، واختلاف الحديث، وله ديوان شعر، انتشر مذهبه بسبب كثرة ترحله وجمعه بين طريقة المحدثين وطريقة الفقهاء، وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته نحوا من أربعين سنة، قال يونس الصدفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يوما في مسألة ثم افترقنا ولقيني، فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟ قلت: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون".

توفي في مصر ودفن بالقرافة الصغرى، وله أربع وخمسون سنة.


هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور المأمون العباسي.

ولد سنة سبعين ومائة, واسم أمه: مراجل ماتت في نفاسها به.

قرأ العلم والأدب والأخبار، والعقليات وعلوم الأوائل، وأمر بتعريب كتبهم، وبالغ في تعريبها، وعمل الرصد فوق جبل دمشق، ودعا إلى القول بخلق القرآن وامتحن العلماء به.

كان ذا حزم وعزم، ورأي وعقل، وهيبة وحلم، ومحاسنه كثيرة في الجملة.

كان أبيض ربعة حسن الوجه، تعلوه صفرة، قد وخطه الشيب، وكان طويل اللحية أعين ضيق الجبين، على خده شامة.

أتته وفاة أبيه وهو بمرو سائرا لغزو ما وراء النهر، فبويع من قبله لأخيه الأمين، ثم جرت بينهما أمور وخطوب، وبلاء وحروب، إلى أن قتل الأمين، وبايع الناس المأمون في أول سنة ثمان وتسعين ومائة.

كان متشيعا فقد كانت كنيته أبا العباس، فلما استخلف اكتنى بأبي جعفر، واستعمل على العراق الحسن بن سهل، ثم بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضا ونوه بذكره، ونبذ السواد شعار العباسيين، وأبدله بالخضرة شعار العلويين.

مرض المأمون مرضه الذي مات فيه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، فلما مرض المأمون أمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من عبد الله المأمون أمير المؤمنين، وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد؛ وأوصى إلى المعتصم بحضرة ابنه العباس، وبحضرة الفقهاء والقضاة والقواد، ثم بقي مريضا إلى أن توفي قرب طرسوس ثم حمله ابنه العباس، وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفناه بدار خاقان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم، وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما.


هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، بويع له بالخلافة بعد موت المأمون، ولما بويع له شغب الجند، ونادوا باسم العباس بن المأمون، فأرسل إليه المعتصم، فأحضره فبايعه، ثم خرج العباس إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد؟ قد بايعت عمي، فسكتوا، وأمر المعتصم بخراب ما كان المأمون أمر ببنائه من طوانة، وحمل ما أطاق من السلاح والآلة التي بها وأحرق الباقي، وأعاد الناس الذين بها إلى البلاد التي لهم، ثم ركب المعتصم بالجنود قاصدا بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فدخلها يوم السبت مستهل شهر رمضان في أبهة عظيمة وتجمل تام.


غضب المعتصم على الفضل بن مروان بعد المكانة العظيمة التي كانت له، وعزله عن الوزارة وحبسه وأخذ أمواله، وجعل مكانه محمد بن عبدالملك بن الزيات، فكان المعتصم يقول: عصى الله وأطاعني، فسلطني الله عليه.


وقع عصيان أهل طليطلة على عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، صاحب الأندلس، وتم إنفاذ الجيوش لمحاصرتها مرة بعد مرة، فلما كانت هذه السنة خرج جماعة من أهلها إلى قلعة رباح، وبها عسكر لعبد الرحمن، فاجتمعوا كلهم على حصر طليطلة، وضيقوا عليها وعلى أهلها وقطعوا عنهم باقي مرافقهم واشتدوا في محاصرتهم، فبقوا كذلك إلى أن سير عبد الرحمن أخاه الوليد بن الحكم إليها أيضا، فرأى أهلها وقد بلغ بهم الجهد كل مبلغ، واشتد عليهم طول الحصار، وضعفوا عن القتال والدفع، فافتتحها قهرا وعنوة، وأمر بتجديد القصر على باب الحصن الذي كان هدم أيام الحكم، وأقام بها إلى آخر شعبان من سنة ثلاث وعشرين ومائتين، حتى استقرت قواعد أهلها وسكنوا.


 هو أبو محمد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أو زيادة الله الأول، أمير إفريقية، وكان أفصح أهل بيته لسانا وأكثرهم أدبا، وكان يقول الشعر، ويرعى الشعراء، كانت ولايته من قبل المأمون سنة 201هـ، فطالت أيامه واستقام الأمر, وبنى زيادة الله في أيامه سور القيروان ودار سوسة وقنطرة باب الربيع، وحصن الرباط بسوسة، وجامع القيروان بعد هدمه، وأنفق عليه ستة وثمانين ألف دينار، وفتح جزيرة صقلية على يد قاضيه أسد بن الفرات.

كان عمره يوم مات إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر، وولي بعده أخوه أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب.


توفي طاهر بن عبدالله بن طاهر بن الحسين الخزاعي، أمير خراسان وابن أميرها, وكان قد ولي إمرة خراسان بعد أبيه ثماني عشرة سنة, فلما ورد على المستعين وفاة طاهر بن عبدالله، عقد لابنه محمد بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبدالله بن طاهر على العراق، وجعل إليه الحرمين، والشرطة


غزا جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصنا ومطأمير، واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المسير إلى بلاد الروم، فأذن له، فسار في خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع عظيم من الروم بمرج الأسقف، فحاربه محاربة شديدة قتل فيها من الفريقين خلق كثير، ثم أحاطت به الروم، وهم خمسون ألفا، وقتل عمر وممن معه ألفان من المسلمين، فلما قتل عمر بن عبيد الله خرج الروم إلى الثغور الجزرية، وكلبوا عليها وعلى أموال المسلمين وحرمهم، فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين في جماعة من أهلها ومن أهل السلسلة، فنفر إليهم، فقتل في نحو من أربعمائة رجل


كان سببها أن الأتراك وثبوا بالوزير عيسى بن فرخان شاه، فضربوه، وأخذوا دابته، واجتمعت المغاربة مع محمد بن راشد، ونصر بن سعد، وغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر, وتقتلون وزيرا وتثبتون آخر، وصار الجوسق وبيت المال في أيدي المغاربة، وأخذوا الدواب التي كان تركها الأتراك، فاجتمع الأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فاجتمعوا وتلاقوا هم والمغاربة، وأعان الغوغاء والشاكرية المغاربة، فضعف الأتراك وانقادوا، فأصلح جعفر بن عبد الواحد بينهم، على ألا يحدثوا شيئا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من الفريقين يكون فيه رجل من الفريق الآخر، فمكثوا مدة مديدة، ثم اجتمع الأتراك وقالوا: نطلب هذين الرأسين- يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد- فإن ظفرنا بهما فلا ينطق أحد.

فبلغهما خبر اجتماع الأتراك عليهما، فخرجا إلى منزل محمد بن عزون؛ ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز ابن عزون بهما إلى الأتراك، فأخذوهما فقتلوهما فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون، فكلم فيه فنفاه إلى بغداد.


أرسل العلاء بن أحمد- عامل أرمينية- إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث عيسى بن فرخانشاه إليها فأخذها, فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى المؤيد وأبي أحمد، فأخذهما وحبسهما وقيد المؤيد، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة.

وقيل: إنه ضربه أربعين مقرعة، وخلعه بسامراء وأخذ خطه بخلع نفسه.


هو المؤيد إبراهيم بن جعفر المتوكل على الله، أحد ولاة العهد الثلاثة بعد الخليفة المتوكل: وهم المنتصر بالله، والمعتز بالله، والمؤيد، تم خلعه من ولاية العهد مرتين؛ الأولى: في عهد أخيه المنتصر؛ حيث قام بخلعه مع المعتز بضغط من قادة الأتراك, والثانية: على يد أخيه المعتز بالله؛ حيث تم إجباره على خلع نفسه من ولاية العهد، ومن ثم تم قتله في ظروف غامضة, وكانت امرأة من نساء الأتراك قد جاءت إلى محمد بن راشد المغربي فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس، وركب محمد بن راشد إلى المعتز فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا فسأله فأنكر، وقال: يا أمير المؤمنين إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به، وأما المؤيد فلا، فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا المعتز القضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتا لا أثر به ولا جرح، وحمل إلى أمه على حمار، وحمل معه كفن وحنوط، وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد، فيقال غطي على أنفه فمات، وقيل: أقعد في الثلج ووضع على رأسه، وقيل في سبب موته أشياء أخرى.


عقد المعتز لموسى بن بغا الكبير على جيش قريب من أربعة آلاف ليذهبوا إلى قتال عبد العزيز بن أبي دلف بناحية همذان؛ لأنه خرج عن الطاعة، وهو في نحو من عشرين ألفا بناحية همذان، فهزموا عبد العزيز في أواخر هذه السنة هزيمة عظيمة، ثم كانت بينهما وقعة أخرى في رمضان عند الكرج، فهزم عبد العزيز أيضا وقتل من أصحابه بشر كثير، وأسروا ذراري كثيرة حتى أسروا أم عبد العزيز، وبعثوا إلى المعتز سبعين حملا من الرؤوس، وأعلاما كثيرة، وأخذ من عبد العزيز ما كان استحوذ عليه من البلاد.


كان سبب ذلك أن الأتراك ساروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم، وقالوا: أعطنا أرزاقنا حتى نقبل صالح بن وصيف، فلم يكن عنده ما يعطيهم، فنزلوا معه إلى خمسين ألف دينار، فأرسل المعتز إلى أمه يسألها أن تعطيه مالا ليعطيهم، فأرسلت إليه: ما عندي شيء, فلما رأى الأتراك أنهم لا يحصل لهم من المعتز شيء، ولا من أمه، وليس في بيت المال شيء، اتفقت كلمتهم وكلمة المغاربة والفراغنة، على خلع المعتز، فساروا إليه وصاحوا به فدخل إليه صالح بن وصيف، ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر، وبابكيال في السلاح، فجلسوا على بابه، فدخل إليه جماعة منهم، فجروه برجله إلى باب الحجرة، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه، ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات، إلى أن مات.


هو أبو محمد عبد الله محمد بن الواثق بن المعتصم بن هارون، كانت بيعته بعد خلع المعتز نفسه بين يديه وإشهاده عليه، فأول من بايعه المعتز ثم بايعه الخاصة، ثم كانت بيعة العامة على المنبر.


هو خفاجة بن سفيان أمير صقلية، وكان من الشجعان الغزاة المدبرين، تولى إمرة صقلية عام 248هـ وكانت عاصمته بلرم،  اغتاله رجل من عسكره وهو عائد من غزو سرقوسه قاصدا بلرم، فطعنه طعنة فقتله، ثم هرب القاتل إلى سرقوسة، وحمل خفاجة إلى بلرم، فدفن بها وولى الناس عليهم بعده ابنه محمدا، وكتبوا بذلك إلى الأمير محمد بن أحمد، أمير إفريقية، فأقره على الولاية، وسير له العهد والخلع.


بعث المهتدي بكتاب إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر نائب الخليفة في بغداد يأمره بأخذ البيعة له، وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد، وكان المعتز قد سيره إليها، فأرسل سليمان إليه، فأخذه إلى داره،  فاجتمع العامة إلى باب دار سليمان، فقاتلهم أصحابه، وقيل لهم: ما يرد علينا من سامراء خبر، فانصرفوا ورجعوا الغد، وهو يوم الجمعة على ذلك، وخطب للمعتز ببغداد، فانصرفوا وبكروا يوم السبت، فهجموا على دار سليمان، ونادوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، وسألوا سليمان أن يريهم أبا أحمد، فأظهره لهم، ووعدهم أن يصير إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا بعد أن أكدوا عليه في حفظ أبي أحمد، وذلك قبل أن يعلم أهل بغداد بما وقع بسامرا من بيعة المهتدي، فقتل من أهل بغداد وغرق منهم خلق كثير، ثم لما بلغهم بيعة المهتدي سكنوا, ثم أرسل إليهم من سامراء مال ففرق فيهم، فرضوا وبايعوا للمهتدي لسبع خلون من شعبان، وسكنت الفتنة، فاستقرت الأمور واستقر المهتدي في الخلافة.


بويع المعتمد على الله- وهو أحمد بن المتوكل على الله- بالخلافة في دار الأمير يارجوخ، وذلك قبل خلع المهتدي بأيام، ثم كانت بيعة العامة.

وفي صفر من السنة التالية عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، وأضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأذن له أن يتصرف في ذلك كله.


هو الخليفة الصالح أمير المؤمنين أبو إسحاق، وقيل أبو عبدالله محمد بن هارون الثاني الواثق بالله بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد, وأمه أم ولد اسمها قرب, ولد في خلافة جده الواثق سنة 219ه, وبويع بالخلافة في رجب سنة 255ه، وما قبل بيعة أحد حتى بايعه المعتز بالله، بعد أن أقر بتنازله عن الخلافة له، وأشهد على نفسه بعجزه عن تولي مهامها.

كان المهتدي أسمر رقيقا، مليح الوجه، حسن اللحية, من أحسن الخلفاء مذهبا وأجودهم طريقة وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة, وكان عادلا، قويا في أمر الله، شجاعا، صواما قواما، لم تعرف له زلة, وكان سهل الحجاب كريم الطبع يخاطب أصحاب الحوائج بنفسه ويجلس للمظالم بنفسه, وكان يلبس القميص الصوف الخشن تحت ثيابه على جلده, وكان يقول: لو لم يكن الزهد في الدنيا والإيثار لما عند الله من طبعي لتكلفته وتصنعته؛ فإن منصبي يقتضيه، فإني خليفة الله في أرضه والقائم مقام رسوله، النائب عنه في أمته، وكان له سفط فيه جبة صوف وكساء كان يلبسه بالليل ويصلي فيه, وكان قد اطرح الملاهي، واعتزل الغناء، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين ومحاسبة عماله.

كان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، لما ذكر بما حدث للإمام أحمد بن حنبل على يد أسلافه، قال: رحم الله أحمد بن حنبل، والله لو جاز لي أن أتبرأ من أبي لتبرأت منه.

كان سفيان الثوري يقول: "الخلفاء الراشدون خمسة، ويعد فيهم عمر بن عبد العزيز, ثم أجمع الناس في أيام المهتدي من فقيه ومقرئ وزاهد وصاحب حديث أن السادس هو المهتدي بالله".

وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة.

فلما أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك ليضعف تسلطهم على الخلافة، كتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الأمير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا، فلما وصل الكتاب بايكباك أقرأه موسى بن بغا فاشتد غضبه على المهتدي واتفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرا، وتركا ما كانا فيه، فلما بلغ المهتدي ذلك ركب في جيش كثيف واتجه لملاقاتهما, فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان وأظهر بايكباك السمع والطاعة, فأمر المهتدي عند ذلك بضرب عنق بايكباك، ثم ألقى رأسه إلى الأتراك، فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك ظغوتيا فخرج إليهم الخليفة فيمن معه، فلما التقوا تمالأ الأتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة، فحمل الخليفة عليهم فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف، ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه فانهزم الخليفة فعاجله أحمد بن خاقان فرماه بسهم في خاصرته، ثم حمل على دابة وخلفه سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسلموه إلى رجل، فلم يزل يجأ خصيتيه ويطأهما حتى مات- رحمه الله- وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد، ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل رحمه الله.


لما قتل خفاجة بن سفيان استعمل الناس ابنه محمدا، وأقره محمد بن أحمد بن الأغلب أبو الغرانيق- صاحب القيروان- على ولايته, كان ذلك في عام خمس وخمسين ومائتين، وفي رجب من عام سبع وخمسين ومائتين قتل الأمير محمد، قتله خدمه الخصيان نهارا وكتموا قتله، فلم يعرف إلا من الغد، وكان الخدم الذين قتلوه قد هربوا فطلبوا فأخذوا وقتل بعضهم، ولما قتل استعمل محمد بن أحمد بن الأغلب على صقلية أحمد بن يعقوب بن المضاء بن سلمة، فلم تطل أيامه.