• 116
  • عَنْ أَنَسٍ : " أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى ، وَإِلَى قَيْصَرَ ، وَإِلَى النَّجَاشِيِّ ، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى " ، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

    حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى ، وَإِلَى قَيْصَرَ ، وَإِلَى النَّجَاشِيِّ ، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّزِّيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِمِثْلِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، وحَدَّثَنِيهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ ، أَخْبَرَنِي أَبِي ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ

    لا توجد بيانات
    كَتَبَ إِلَى كِسْرَى ، وَإِلَى قَيْصَرَ ، وَإِلَى النَّجَاشِيِّ ، وَإِلَى
    حديث رقم: 2768 في جامع الترمذي أبواب الاستئذان والآداب باب في مكاتبة المشركين
    حديث رقم: 12136 في مسند أحمد ابن حنبل مُسْنَدُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ
    حديث رقم: 6662 في صحيح ابن حبان كِتَابُ التَّارِيخِ بَابُ كُتُبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
    حديث رقم: 6663 في صحيح ابن حبان كِتَابُ التَّارِيخِ ذِكْرُ الْخَبَرِ الْمُدْحِضِ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَفَرَّدَ بِهِ
    حديث رقم: 8577 في السنن الكبرى للنسائي كِتَابُ السِّيَرِ الْكِتَابُ إِلَى أَهْلِ الْحَرْبِ
    حديث رقم: 1554 في المعجم الأوسط للطبراني بَابُ الْأَلِفِ مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ
    حديث رقم: 16988 في السنن الكبير للبيهقي كِتَابُ السِّيَرِ جِمَاعُ أَبْوَابِ السِّيَرِ
    حديث رقم: 2885 في مسند أبي يعلى الموصلي مسند أبي يعلى الموصلي قَتَادَةُ ، عَنْ أَنَسٍ
    حديث رقم: 2992 في مسند أبي يعلى الموصلي مسند أبي يعلى الموصلي قَتَادَةُ ، عَنْ أَنَسٍ
    حديث رقم: 5398 في مستخرج أبي عوانة مُبْتَدَأُ كِتَابِ الْجِهَادِ بَيَانُ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ ، وَأَنَّهُ
    حديث رقم: 5400 في مستخرج أبي عوانة مُبْتَدَأُ كِتَابِ الْجِهَادِ بَيَانُ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ ، وَأَنَّهُ
    حديث رقم: 5401 في مستخرج أبي عوانة مُبْتَدَأُ كِتَابِ الْجِهَادِ بَيَانُ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ ، وَأَنَّهُ
    حديث رقم: 5402 في مستخرج أبي عوانة مُبْتَدَأُ كِتَابِ الْجِهَادِ بَيَانُ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ ، وَأَنَّهُ
    حديث رقم: 13335 في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء حلية الأولياء وطبقات الأصفياء عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ

    [1774] إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ وَإلَى النَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِ جَبَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَمَّا كِسْرَى فَبِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ)مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَقَيْصَرُ لَقَبُ مَنْ مَلَكَ الروم والنجاشي لكل من ملك الحبشة وخاقان لكل من ملك الترك وفرعون لكل من ملك القبط والعزيز لكل من ملك مصر وتبع لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ حِمْيَرَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ مُكَاتَبَةِ الْكُفَّارِ وَدُعَاؤِهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (بَابُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ حُنَيْنٌ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَرَاءَ عَرَفَاتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا وَهُوَ مَصْرُوفٌ كَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ

    [1774] كسْرَى بِكَسْر الْكَاف وَفتحهَا

    عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
    المعنى العام:
    في أوائل سبع من الهجرة كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبا إلى الملوك والأمراء ورؤساء القبائل والعشائر يدعوهم في هذه الكتب إلى الله تعالى وإلى الإسلام. كتب إلى كسرى ملك الفرس فمزق الكتاب فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك: مزق الله ملكه كما مزق كتابي. وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة فأحسن وفادة حامل الكتاب وظل كافرا مع أن أباه النجاشي كان قد أسلم وكان قد آوى المهاجرين إلى الحبشة وزوج الرسول صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وأصدقها عنه ولما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب إلى هوذة بن علي حاكم اليمامة والمنذر بن ساوى حاكم هجر وجيفر وعباد ابني الجلندي بعمان وابن أبي شمر الغساني وإلى مسيلمة وإلى المقوقس. وعلى رأس هؤلاء وهذه الكتب كتاب هرقل وهو ما يحدثنا عنه في هذا الحديث أبو سفيان بن حرب الذي أسلم يوم فتح مكة وكان في زمن كتاب هرقل هذا زعيم مشركي مكة وقائد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أبو سفيان: في أوائل سريان الهدنة بين قريش وبين محمد صلى الله عليه وسلم المنصوص عليها في صلح الحديبية انطلقت على رأس نفر من قريش إلى الشام تجارا وبينما نحن في سوق الشام نتاجر إذ هجم علينا شرطة هرقل أنتم من مكة؟ قلنا نعم أنتم من قريش؟ قلنا: نعم أنتم تعرفون محمد بن عبد الله الذي يدعي أنه نبي؟ قلنا: نعم قالوا: هيا معنا إلى هرقل وساقونا جميعا نحوا من ثلاثين رجلا قلنا لهم ما الخبر؟ قالوا: إن هرقل جاءه كتاب من محمد الذي يدعي أنه نبي سلمه إليه حاكم بصرى إحدى مدن مملكة هرقل بعد أن سلمه إياه عربي مسلم يدعي دحية الكلبي ليوصله إلى هرقل فلما قرأ هرقل كتاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا كتاب خطير يهتم به كل الاهتمام ثم جمع حاشيته وخواصه وقال لهم: هل هنا في الشام في حمص هذه عاصمة ملكي أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم إن الكثيرين منهم في سوق المدينة فنادى رئيس شرطته وبلهجة الحزم والشدة قال له: قلب المدينة ظهرا لبطن حتى تأتيني برجل أو رجال من قوم هذا الذي يدعي أنه نبي بحثنا عنكم حتى وجدناكم فهيا إلى القصر فلما علم بوصولنا دعانا إلى مجلسه فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج المرصع باللؤلؤ والجواهر وحوله عظماء الروم وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان وبين يديه حراس مدججون بالسلاح منظرهم يثير الرعب والرهبة فأمر بنا أن نجلس أمامه بين يديه فجلسنا على فراش الأرض فدعا بترجمانه وطلب منه أن يسألنا: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم إليه نسبا قال: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي قال: اقترب وأجلسوني وحدي بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي عند ظهري يا لهذا الداهية؟ إنه يخص الأقرب نسبا بالأسئلة لأنه الأكثر إطلاعا على أموره ظاهرا وباطنا ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه يا لهذا الداهية؟ أنه أجلسه وحده بين يديه وأجلس أصحابه خلفه لئلا يستحيوا منه إذ يكذبونه إن كذب لأن المواجهة بالتكذيب وبتكذيب السيد الكبير صعبة محرجة فكونهم خلفه يجعل تكذيبهم له أهون عليه. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يدعي أنه نبي والسؤال في الحقيقة موجه إليكم جميعا فإن كذبني فكذبوه وإن أخطأ فصوبوه وأصدقوني القول ولا تخفوا علي شيئا من الأمر يقول أبو سفيان: وكنت في داخلي أتمنى أن أسيء إلى محمد ولو كذبا ولكني كنت أخاف أن يمسك على قومي كذبا فأظل في نظرهم بعد عودتنا كذابا والكذب عند العرب لا يليق بكرام الرجال فضلا عن رؤسائهم إنني لا أخاف من أصحابي أن يكذبوني أمام هرقل فأنا واثق من عدم تكذيبهم لي لو كذبت لمقامي عندهم ولاشتراكهم معي في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فوالله لو كذبت ما ردوا علي ولكني كنت امرأ سيدا أتكرم عن الكذب وأخشى أن يأخذ على رفقائي كذبا وسألني هرقل: هذا الذي يزعم أنه نبي كيف حسبه فيكم؟ أهو من أشرافكم؟ ومن ذوي الأصل فيكم؟ قال أبو سفيان قلت: هو صاحب حسب كبير فينا. سأل هرقل عن طريق الترجمان: هل كان من آبائه ملك؟ قال أبو سفيان: لا لم يكن من آبائه من ملك. سأل هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ أجاب أبو سفيان: لا. سأل هرقل: ومن الذين يتبعونه؟ أشراف الناس؟ أم ضعفاؤهم؟ أجاب أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. سأل هرقل: أيزيدون؟ أم ينقصون؟ أجاب أبو سفيان: بل يزيدون. سأل هرقل: هل يرتد أحد منهم عن دينه؟ ساخطا عليه بعد أن يدخله؟ أجاب أبو سفيان: لا. سأل هرقل: هل قاتلتموه؟ أجاب أبو سفيان: نعم. سأل هرقل: كيف كان قتالكم إياه؟ يغلبكم؟ أم تغلبونه؟ أجاب أبو سفيان: تارة يغلبنا وتارة نغلبه فالحرب بيننا وبينه نوبا نوبة له ونوبة لنا غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب وغزوته في بيته فبقرنا البطون وجدعنا الآذان. سأل هرقل: فهل يغدر بكم إذا عاهد؟ قال أبو سفيان: لا وأراد أبو سفيان أن ينال من محمد صلى الله عليه وسلم فلم يجد إلا أن يشكك في وفائه بالعهد فقال: وبيننا وبينه عهد لا ندري أيغدر بنا؟ أم يفي؟. سأل هرقل: هل ادعى أحد منكم قبله مثل ما يدعي؟ قال: لا. وهنا بدأ هرقل يعلن لهم هدفه من الأسئلة واستنتاجاته من الإجابات فقال: سألتك عن حسبه؟ فقلت: إنه فينا ذو حسب وكذلك الرسل تبعث في أفضل أنساب قومها. وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا فقلت: لو كان من آبائه ملك جاز أن يكون طالبا ملك آبائه وسألتك عن أتباعه الأشراف أم الضعفاء؟ فقلت: الضعفاء. وهكذا أتباع الرسل لأن الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون فيسرعون للانقياد واتباع الحق وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب؟ فقلت: لا فعرفت أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه الجديد ساخطا عليه بعد أن يدخله؟ فقلت: لا وكذلك الإيمان إذا خالط غشاء القلوب لا يزول عنه وسألتك هل قاتلتموه؟ وكيف كانت نتيجة قتالكم إياه؟ فقلت: إن الحرب بينكم وبينه سجالا وهكذا الرسل يبتلون بالهزيمة ثم تكون لهم العاقبة وسألتك هل يغدر بكم؟ فقلت: لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك: هل قال هذا القول أحد معاصر قبله؟ فقلت: لا قلت: لو قال هذا القول أحد قبله قلت: رجل يأتم بغيره ويقول ما يقولون ثم سألتك بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والصدقة وصلة الأرحام والعفة وكذلك الرسل ولقد كنت أعلم أن نبيا سيرسل في آخر الزمان لكني كنت أتوقعه من بني إسرائيل وليس منكم أما اليوم فقد ظهر أنه من العرب لقد كنت أقرأ أوصافه التي ذكرت ففي التوراة نحو ما سمعت من علامات النبوة إن يكن ما قلته حقا فهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي سيملك أتباعه مكان قدمي وملكي ولو كنت أستطيع أن أصل إليه ماشيا لفعلت ولغسلت بيدي رجليه خضوعا له وتبركا به ولكني أخاف من قومي أن يقتلوني لقد كان لي صديق قسيس أسقف أظهر إسلامه وألقى ثيابه التي كانت عليه ولبس ثيابا بيضا وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه إنني أخافهم ولولا ذلك لتكلفت المشي إليه ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه القارئ وترجمه الترجمان وسمعه بالعربية أبو سفيان فسمع: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعوة الإسلام أسلم تسلم في الدنيا والآخرة أسلم يؤتك الله أجرك مرتين مرة على إيمانك بعيسى ومرة على إيمانك بمحمد عليهما الصلاة والسلام فإن توليت ورفضت ولم تسلم فإنما عليك إثمك وإثم أتباعك الذين يقتدون بك ويتبعونك في دينك ثم ختم الكتاب بالآية الكريمة {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله} [آل عمران: 64]. ثم طوى الكتاب وبمظاهر التكريم حفظه وظهر عليه الميل نحو الإيمان فكثر اللغط في المجلس وارتفعت الأصوات باستنكار الكتاب واستنكار ما فيه فأمر هرقل بإخراج أبي سفيان وأصحابه فخرجوا فقال أبو سفيان لأصحابه لما خلا بهم إن أمر محمد سيعظم إن هرقل يخاف محمدا قال أبو سفيان: ودخلني الخوف من محمد وأيقنت أنه لا محالة ظاهر وغالب حتى أدخل الله في قلبي الإسلام فأسلمت عام الفتح بعد هذه الحادثة بسنتين. هذا ما كان مع أبي سفيان وأما ما كان من شأن هرقل فقد غزا جيش كسرى بلاده ثم انهزم الفرس فمشى هرقل على قدميه من حمص إلى بيت المقدس شكرا لله تعالى وهو مازال في داخله يعالج أمر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويجاهد أن يؤمن ويعلن إسلامه مع الاحتفاظ بعرشه وملكه إنه كان يتمنى أن يسلم قومه الروم بل حاول أن يدعوهم إلى ذلك صريحا فقد روى البخاري أنه دعا زعماء الروم وعظماءهم إلى قصره وأغلق عليهم أبوابه ثم طلع عليهم من شرفة عالية فقال لهم: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد؟ وأن يثبت ملككم؟ بايعوا هذا النبي. فحاصوا حيصة حمر الوحش واتجهوا إلى الأبواب نفورا من هذه الدعوة ورفضا لها فوجدوا الأبواب مغلقة فأعادهم هرقل وهدأ من روعهم وغضبهم وقال لهم: إني قلت لكم ما قلت لأمتحن مدى تمسككم بدينكم فشكرا لكم على شدة تمسككم به فقد رأيت منكم ما سرني فسجدوا له ورضوا عنه. واستمر هرقل مظاهرا الروم وأعد جيوشه ووجهها لحروب المسلمين. المباحث العربية (أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه) هذا من أبي سفيان من قبيل التحمل كافرا والأداء مسلما وهذا جائز ولا شيء فيه لأن العبرة أن يكون الراوي لأداء ما تحمل وهو عاقل. وقوله من فيه إلى فيه قصد به التحقق من السماع والتوثيق بالرواية كقولهم سمعته أذناي ووعاه قلبي وهو أيضا يرفع إيهام الواسطة بين التلميذ والشيخ وكان حقه أن يقول: من فيه إلى أذني أي من فم أبي سفيان إلى أذن ابن عباس لكنه آثر المشاكلة لظهور المراد وهذا نوع بليغ من البديع. (انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم) المعنى انطلقت إلى الشام تاجرا في مدة سريان صلح الحديبية الذي عقد أواخر سنة ست من الهجرة وكانت مدة الصلح عشر سنين وقيل: أربع سنين والأول أشهر لكن قريشا نقضوا العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثمان وفتح مكة والظاهر أن انطلاق أبي سفيان كان في السنة الأولى من صلح الحديبية في المحرم سنة سبع وقوله بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بيننا معشر قريش في مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حينذاك زعيمهم والمتحدث باسمهم والمتعاقد عنهم وعند ابن إسحق في المغازي عن أبي سفيان قال: كنا قوما تجارا وكانت الحرب قد حصبتنا فلما كانت الهدنة خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملتني بضاعة (فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يعني عظيم الروم) بينا بين زيدت عليها الألف ظرف زمان منصوب بمعنى المفاجأة في إذ مضاف إلى الجملة بعده أي فاجأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هرقل وقت وجودي بالشام. وهرقل هو ملك الروم وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف هذا هو المشهور وحكي بكسر الهاء وإسكان الراء وكسر القاف وهو اسم علم لهذا الملك ولقبه قيصر وكذا كل ملك من ملوك الروم يقال له: قيصر كما يلقب ملك الفرس كسرى. (وكان دحية الكلبي جاء به) من رسول الله صلى الله عليه وسلم ودحية بكسر الدال وحكي فتحها لغتان ويقال: إن معناه الرئيس بلغة أهل اليمن وهو ابن خليفة الكلبي صحابي جليل كان أحسن الناس وجها وأسلم قديما ومات في خلافة معاوية. (فدفعه إلى عظيم بصرى) أي أميرها وبصرى بضم الباء وسكون الصاد والقصر مدينة ذات قلاع وأعمال بين المدينة ودمشق قريبة من طرف البرية التي بين الشام والحجاز وهي مدينة حوران. (فقال هرقل) لحاشيته وخواصه: هذا كتاب لم أسمع بمثله. (هل هنا) في الشام. (أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟) وعند ابن إسحق فقال هرقل لصاحب شرطته: قلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه قال أبو سفيان: فوالله إني وأصحابي بغرة إذ هجم علينا فساقنا جميعا. (فدعيت في نفر من قريش) الفاء فصيحة أفصحت عن جمل محذوفة أي فبحثوا فوجدونا فأخبروه فدعانا قيل: كانوا ثلاثين رجلا وقيل كانوا نحوا من عشرين رجلا وسمي منهم المغيرة بن شعبة. (فدخلنا على هرقل) عند البخاري فدعاهم في مجلسه أي دعاهم حالة كونه في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه وعند البخاري في الجهاد فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج وعند ابن السكن فأدخلنا عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان. (فأجلسنا بين يديه) أي أمامه. (فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟) الظاهر أن هذا السؤال وجه إليهم عن طريق ترجمان آخر غير الذي سيدعي وإنما سأل عن الأقرب نسبا لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب وفي رواية البخاري أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل؟ بالباء بدل من على تضمين أقرب معنى أوصل والزعم يستعمل كثيرا في المكذوب والمشكوك فيه وقد يستعمل بمعنى القول ويأتي في المستيقن كما في حديث زعم جبريل. (قال أبو سفيان: فقلت: أنا) وفي رواية البخاري قلت: أنا أقربهم نسبا وفي رواية ابن السكن فقالوا: هذا أقربنا به نسبا هو ابن عمه أخي أبيه وعند البخاري قال: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي قال أبو سفيان: ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري. وعبد مناف الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم وكذا لأبي سفيان فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هو ابن عم أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ففي كونه ابن عمه تجوز وفي رواية ابن السكن هو ابن عم أخي أبيه نظر. (فأجلسوني بين يديه) أي قربوني منه وقدموني على أصحابي. (وأجلسوا أصحابي خلفي) عند البخاري فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره أي لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب فكونهم خلفه يجعل تكذيبهم له أهون عليهم. (ثم دعا بترجمانه) بضم التاء وفتحها والفتح أفصح وهو المعبر عن لغة بلغة أخرى قال النووي: والتاء فيه أصلية وأنكروا على الجوهري كونه جعلها زائدة. (فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي) أي إن السؤال في ظاهره سيتوجه إلى أبي سفيان ولكنه في الحقيقة موجه إليكم جميعا. (فإن كذبني فكذبوه) كذبني بتخفيف الذال أي إن نقل إلى كذبا فقولوا له: كذبت وأصدقوني القول. (وايم الله) اسم وضع للقسم وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين وهو مبتدأ خبره محذوف أي وايم الله قسمي. (لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت) يؤثر بضم الياء وسكون الهمزة وفتح الثاء مبني للمجهول يقال: أثر الحديث بفتح الألف والثاء نقله ورواه عن غيره يأثر بضم الثاء أثرا بسكونها وأثارة والمعنى هنا لولا مخافة أن ينقل عني رفقتي إلى قومي أني كذبت ويتحدثون بذلك عني في بلادي لكذبت عليه لبغضي إياه ومحبتي تنقيصه وفي رواية البخاري فوالله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه أي لكذبت عند الإخبار بحاله فعدم كذبه ناشئ من خوفه أن ينقلوا عنه أنه كذب لا خوف تكذيبهم له في المجلس فقد كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا صرح بذلك في رواية ابن إسحق إذ قال فوالله لو قد كذبت ما ردوا علي ولكني كنت امرأ سيدا أتكرم عن الكذب وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته -أن يحفظوا ذلك عني ثم يتحدثوا به فلم أكذبه ثم يقول أبو سفيان عن هرقل وعن مهارته فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف أي غير المختون. (كيف حسبه فيكم؟) المراد من الحسب -بفتح الحاء والسين- النسب وذلك أنهم كانوا يعدون مناقب الآباء وشرفهم حين التفاخر بهم أي ما حال نسبه فيكم؟ أهو من أشرافكم؟ أم لا؟. (هو فينا ذو حسب) التنوين في حسب للتعظيم وليس للتحقير كما ظن بعض الشارحين. (فهل كان من آبائه ملك)؟ وفي رواية فهل كان من آبائه من ملك بزيادة من حرف جر بكسر الميم قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم فهل كان من آبائه ملك ووقع في صحيح البخاري فهل كان في آبائه من ملك وروي هذا اللفظ بكسر الميم وملك بفتح الميم وكسر اللام وروي بفتح ميم من وملك بفتح الميم واللام فعل ماض والمعنى في الكل واحد. (فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟) أي هل كنتم تتهمونه بالكذب على الناس؟ ولم يقل: هل عهدتم عليه الكذب؟ مبالغة في صدقه لأن إقرارهم بنفي التهمة بالكذب أدل على إقرارهم بصدقه من نفي الكذب فالتهمة بالكذب قد تكون مع وقوع الكذب غالبا ومع عدم وقوعه فإذا انتفت انتفى العلم بكذبه من باب أولى. وقوله قبل أن يقول ما قال من دعوى الرسالة لمحة ذكاء من هرقل لأنه علم أنهم لم يتبعوه فهم لم يصدقوه. (ومن يتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟) يعني بأشرافهم: كبارهم وأهل الأحساب فيهم وقيل: إن المراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم لا كل شريف حتى لا يكون كاذبا في مثل أبي بكر وعمر ممن أسلم قبل هذا السؤال وفي رواية البخاري فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ وفي رواية أيتبعه أشراف الناس؟. (قلت: بل ضعفاؤهم) في رواية ابن إسحق تبعه منا الضعفاء والمساكين فأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد وهو محمول على الأكثر الأغلب. (قلت: لا بل يزيدون) لا رد للنقصان أي لا ينقصون فلما كان المحتمل: لا يزيدون ولا ينقصون أضرب واستدرك بقوله: بل يزيدون. (هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟) سخطة بفتح السين وحكي بضمها والسخط كراهة الشيء وعدم الرضا به وأخرج بهذا القيد من ارتد مكرها أو لرغبة في حظ نفساني أو غيره كما وقع لعبيد الله بن جحش بالحبشة. (تكون الحرب بيننا وبينه سجالا) بكسر السين أي نوبا -بضم النون وفتح الواو جمع نوبة -أي نوبة لنا ونوبة له والسجل الدلو الملآى فكأنه شبه المحاربين بالمستقين يستقي هذا دلوا وهذا دلوا أي يكون لكل واحد منا سجل. (يصيب منا ونصيب منه) في رواية البخاري: ينال منا وننال منه يشير بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد وفي رواية قال أبو سفيان: غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وجدع الآذان وقد صرح بذلك أبو سفيان يوم أحد إذ قال: يوم بيوم بدر والحرب سجال. (فهل يغدر؟) بكسر الدال والغدر عدم الوفاء. (قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها) يعني ونحن معه في مدة الهدنة والصلح الذي جرى بالحديبية ويلمح بذلك إلى أنه يخشى غدره في هذه الهدنة لأن أتباع أبي سفيان وحلفاءه من شيمتهم الغدر الذي يفتح الباب لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يرد هذا الغدر بغدر. وجاء في رواية إلا أن يغدر في هدنته هذه فقال: وما يخاف من هذه؟ فقال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه قال: إن كنتم بدأتم فأنتم أغدر. (قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه) أي لم أتمكن في أثناء حديثي مع هرقل من كلمة أنتقصه فيها وبها إلا هذه الكلمة ووجه الانتقاص بها أن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يحتمل وقوع ذلك منه ولما كان هذا الأمر غيبا أمن أبو سفيان أن ينسب إليه أصحابه الكذب فيها ولهذا أوردها بالتردد ولهذا لم يعرج عليها هرقل ففي رواية ابن إسحق: قال أبو سفيان: فوالله ما التفت إليها مني. (فهل قال هذا القول أحد قبله؟) ممن عاصره وأمكنه الأخذ عنه؟ (وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها) يعني في أفضل أنسابهم وأشرفها قيل: الحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له والظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السابقة. (بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل) لكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون فيسرعون إلى الانقياد واتباع الحق. (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب) أي وكذلك أمر الإيمان وشأنه إذا خالط انشراح الصدور تمكن منها وعند ابن إسحق وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه وأصل البشاشة اللطف بالإنسان عند قدومه وإظهار السرور برؤيته يقال: بش به وتبشش به فهو بش وبشاش أي تهلل وضحك إليه. وكذلك الإيمان يدخل نوره في القلب فيظل في زيادة بسبب التعمق والترقي في تشاريعه حتى يتم قال تعالى {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} [التوبة: 32]. وبشاشة القلوب روي هكذا بنصب بشاشة وجر القلوب على الإضافة وروي في البخاري بلفظ بشاشته بالهاء ورفع بشاشة ونصب القلوب أي إذا خالطت بشاشته ونوره وشرحه القلوب. (وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة) أي يبتليهم الله بذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم وبذلهم وسعهم في طاعة الله وفي النهاية يكون النصر لهم {إنا لننصر رسلنا} [غافر: 51]. (وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا ومن طلب الآخرة لم يرتكب غدرا ولا شيئا من القبائح لكن من طلب الدنيا لم يبال بالغدر وغيره. (رجل ائتم بقول قيل قبله) في رواية البخاري رجل يأتسى بقول قيل قبله وفي رواية رجل تأسى بقول قيل قبله وفي رواية يتأسى. (بم يأمركم؟) في رواية البخاري بماذا يأمركم؟ (يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف) قال النووي: أما الصلة فالمراد منها صلة الأرحام وكل ما أمر الله به أن يوصل وذلك بالبر والإكرام وحسن المراعاة وأما العفاف فهو الكف عن المحارم وخوارم المروءة قال صاحب المحكم: العفة الكف عما لا يحل ولا يجمل من قول أو فعل يقال: عف يعف عفة وعفافا وعفافة وتعفف واستعف ورجل عف وعفيف والأنثى عفيفة وجمع العفيف أعفة وأعفاء. اهـ. وفي رواية البخاري ويأمرنا بالصلاة والصدق وفي رواية له بالصلاة والصدقة بدل الصدق ورجحها بعضهم لرواية الزكاة واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع ويرجحها أيضا أنهم كانوا يستقبحون الكذب فذكر ما لم يألفوه أولى قال الحافظ ابن حجر: وليس الأمر بالصدق ممتنعا فقد جاء في رواية أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة وقد كانا من مألوف عقلائهم وقد ثبت الصدق والصدقة معا في رواية للبخاري في الجهاد ولفظها بالصلاة والصدق والصدقة. وقد جاء في رواية البخاري ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة فذكر بعض الرواة ما لم يذكر الآخر. قال المازني: هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه لأنه قال بعد ذلك: قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم وقيل: هذا الذي قاله هرقل أخذه من الكتب القديمة ففي التوراة هذا أو نحوه من علامات رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه بالعلامات وأما الدليل القاطع على النبوة فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة. (ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه) قال النووي: هكذا هو في مسلم ووقع في البخاري لتجشمت لقاءه وهو أصح في المعنى ومعناه لتكلفت الوصول إليه وارتكبت المشقة في ذلك ولكن أخاف أن أقتطع دونه ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما شح في الملك ورغب في الرياسة فآثرها على الإسلام وقد جاء ذلك مصرحا به في رواية البخاري ولفظها ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي ومازالت عنه الرياسة اهـ. والظاهر أنه كان يتحقق أنه لا يسلم من القتل إن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم اعتبارا بالقس الذي أعلن الإيمان بمحمد فقتلوه. (ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) اختلف في قول هرقل ما قال: هل آمن؟ وهل استمر على إيمانه أم لا؟ أو لم يؤمن أصلا؟ وسيأتي في فقه الحديث. (ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه) في رواية البخاري ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصري فدفعه [عظيم بصرى] إلى هرقل فقرأه أي دعا هرقل من وكل إليه أمر الكتاب قبل هذه الجلسة فقرأه الترجمان. (عظيم الروم) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الأمير قيل: لأنه معزول بحكم الإسلام لكنه أكرمه للتأليف بلفظ عظيم الروم. (سلام على من اتبع الهدى) في البخاري في الاستئذان السلام بالتعريف. (أما بعد) أما في معنى مهما يكن من شيء وهي هنا مستأنفة ليست لتفصيل ما قبلها وقد ترد لتفصيل ما قبلها بما يذكر بعدها وقال الكرماني: هي هنا للتفصيل وتقديره: أما الابتداء فهو اسم الله وأما المكتوب فهو من محمد رسول الله...إلخ كذا قال.اهـ. وبعد ظرف مبني على الضم وكان الأصل أن تفتح لو استمرت على الإضافة فلما قطعت عن الإضافة بنيت على الضم. (فإني أدعوك بدعاية الإسلام) دعاية بكسر الدال من قولك دعا يدعو دعاية نحو شكا يشكو شكاية وفي ملحق الرواية بداعية الإسلام أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والباء في بداعية الإسلام بمعنى إلى. (أسلم تسلم) فيه جناس الاشتقاق وهو نوع من البديع غاية في البلاغة. (وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين) قيل: أسلم الأولى للدخول في الإسلام وأسلم الثانية للدوام عليه وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه. (وإن توليت) أعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام وحقيقة التولي إنما هي بالوجه ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء استعارة تبعية. (فإن عليك إثم الأريسيين) جمع أريسى وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل وقد تقلب همزته ياء كما في ملحق الرواية الأولى قال ابن سيدة: الأريس الأكار أي الفلاح وقيل: الأريس هو الأمير وأنكر ابن فارس أن تكون الكلمة عربية وقد جاء في رواية إثم الأكارين زاد في هذه الرواية يعني الحراثين وفي رواية مرسلة إثم الفلاحين والمراد بالفلاحين الفلاحون في مملكته قال الخطابي: أراد أن عليك إثم الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له لأن الأصاغر أتباع الأكابر قال الحافظ ابن حجر: وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو: فإن عليك مع إثمك إثم الأريسيين لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى وهذا يعد من مفهوم الموافقة وقال أبو عبيد: ليس المراد بالفلاحين الزراعيين خاصة بل المراد بهم جميع أهل مملكته وقيل المراد بالأريسيين اليهود والنصارى أتباع عبد الله بن أريس الذي تنسب إليه الأروسية من النصارى ولهم مقالات في كتب المقالات ويقال لهم الأروسيون وقيل المراد بالأريسيين الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بها. قال النووي: الأريسيين هكذا وقع في الرواية الأولى وهو الأشهر في روايات الحديث وفي كتب أهل اللغة وعلى هذا اختلف في ضبطه على أوجه: أحدها بياءين بعد السين والثاني بياء واحدة بعد السين وعلى هذين الوجهين الهمزة مفتوحة والراء مكسورة مخففة والثالث بكسر الهمزة وتشديد الراء وياء واحدة بعد السين. {يا أهل الكتاب تعالوا} الآية الكريمة بدون الواو قال الحافظ ابن حجر: وهكذا وقع بإثبات الواو في أوله وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة في رواية الأصيلي وأبي ذر وعلى ثبوتها فهي داخلة على مقدر معطوف على قوله أدعوك فالتقرير: أدعوك بدعاية الإسلام وأقول لك ولأتباعك: يا أهل الكتاب ويحتمل أن تكون من كلام أبي سفيان لأنه لم يحفظ جميع ألفاظ الكتاب فاستحضر منها أول الكتاب فذكره وكذا الآية وكأنه قال فيه: كان فيه كذا وكذا وكان فيه: يا أهل الكتاب فالواو من كلامه لا من نفس الكتاب وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت والسبب في هذا أن هذه الآية في قصة وفد نجران وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع وقصة أبي سفيان كانت قبل ذلك سنة ست وجوز بعضهم نزول الآية مرتين وهو بعيد. اهـ. (فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط) اللغط بفتح الغين وإسكانها الأصوات المختلفة المتداخلة وهو الصخب واختلاط الأصوات في المخاصمة وفي رواية البخاري فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وزاد في رواية فلا أدري ما قالوا والضمير في فرغ يعود على هرقل باعتباره الآمر. (وأمر بنا فأخرجنا) أمر بفتح الهمزة والميم وضمير الفاعل لهرقل وفي رواية البخاري فأخرجنا بالبناء للمجهول في الروايتين. (فقلت لأصحابي حين خرجنا) في رواية البخاري حين أخرجنا زاد في رواية حين خلوت بهم. (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) أمر الأولى بفتح الهمزة وكسر الميم المخففة فعل ماض معناه عظم يقال: أمر الشيء يأمر من باب سمع يسمع أمرا وإمارة كثر ونما فهو أمر بفتح الهمزة وكسر الميم المخففة فالمعنى لقد عظم أمر ابن أبي كبشة يعني محمدا صلى الله عليه وسلم قال النووي وغيره: قيل أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض دون النسب المشهور إذا لم يمكنهم الطعن في نسبه المعلوم وقال أبو قتيبة وكثيرون: أبو كبشة جد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه جد وهب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر لأن وهبا جد النبي صلى الله عليه وسلم اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال ولم يقل أحد من أهل النسب: إن الأوقص يكنى أبا كبشة وقيل: هو جد عبد المطلب لأمه وفيه نظر أيضا لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجي ولم يقل أحد من أهل النسب: إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة لكن ذكر ابن حبيب في المجتبى جماعة من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه ومن قبل أمه كان واحد منهم يكنى أبا كبشة وقيل: هو أبوه من الرضاعة واسمه الحارث بن عبد العزى السعدي قيل: إنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها وقيل: أبو كبشة عم والد حليمة مرضعته صلى الله عليه وسلم وقيل أبو كبشة رجل من خزاعة كان يعبد الشعري وهو كوكب في السماء ولم يوافقه أحد من العرب في عبادتها فشبهوا النبي صلى الله عليه وسلم به لمخالفتهم إياه في دينهم قال بعضهم: ولم يريدوا انتقاصه بذلك بل أرادوا مجرد التشبيه. (إنه ليخافه ملك بني الأصفر) ملك بفتح الميم وكسر اللام وبنو الأصفر هم الروم وهم في الأصل بيض لكن يقال: إن جدهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له: الأصفر وقيل: لقبوا بالأصفر لأن جيشا من الحبشة غلب على بلادهم في وقت فوطئ نساءهم فولدن أولادا صفرا من سواد الحبشة وبياض الروم والأول أشبه بالصواب. والجملة مستأنفة استئنافا تعليليا كأنه قيل: لم عظم أمر ابن أبي كبشة؟ فقيل: إنه ليخافه والضمير في إنه بكسر الهمزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة يخافه ملك بني الأصفر خبر إن. (فمازلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام) أي فمنذ ذلك الحين وأنا موقن بأن محمدا نبي وبأنه سيظهر دينه وينتشر حتى أدخل الله على طاعته وإعلان ما في قلبي وأسلمت وليس معنى ذلك أنه كان مؤمنا إيمانا شرعيا باطنا وانقيادا باطنا بل كان هذا اليقين مع الرفض والعناد كشأن اليهود الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لكنهم كفروا وجحدوا وعادوه. وقيل: المراد اليقين بظهوره وغلبته على من حوله وليس اليقين بالنبوة وفي رواية الطبراني فمازلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت والغاية داخلة فهذا اليقين قد استمر ولم يرتفع. (وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله) قيصر لقب هرقل كما سبق وإيلياء هو بيت المقدس بهمزة مكسورة بعدها ياء ثم لام مكسورة بعدها ياء مفتوحة ثم ألف ثم همزة وحكي فيها القصر ويقال لها: الياء بدون الياء الأولى وسكون اللام وبالمد والهمزة قيل معناه بيت الله وحمص مدينة معروفة كانت عاصمة ملك هرقل ومعنى شكرا لما أبلاه الله أي شكرا لما أنعم الله به عليه من هزيمة الفرس وعودة الأمن إلى بلاده والنعمة ابتلاء والنقمة ابتلاء وكان كسرى قد غزا جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيرا من بلاده ثم أراد كسرى أن يغير قائد الحملة وعزم على قتله فعلم القائد فتآمر القائد مع هرقل على كسرى وانهزم بجيشه أمام جنود هرقل فمشى هرقل على قدميه من حمص إلى بيت المقدس زاد ابن إسحق أنه كان يبسط له البسط وتوضع عليها الرياحين فيمشي عليها. (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار) قال النووي: كسرى بفتح الكاف وكسرها وهو لقب لكل ملك من ملوك الفرس وقيصر لقب لكل من ملك الروم والنجاشي لكل من ملك الحبشة وخاقان لكل من ملك الترك وفرعون لكل من ملك القبط والعزيز لكل من ملك مصر وتبع لكل من ملك حمير. اهـ. وأهل السير يختلفون في تاريخ هذه الكتب فقيل: سنة سبع في زمن الهدنة منصرفه من الحديبية وقيل: سنة تسع لما رجع من تبوك وقيل: إن الكتب تكررت. والمراد بكل جبار بعض الحكام ذكر منهم الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم بعث بكتبه سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي باليمامة والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى بهجر وعمرو بن العاص إلى جيفر وعباد بن الجلندي بعمان وشجاع بن وهب إلى ابن أبي شمر الغساني فرجعوا جميعا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم غير عمرو بن العاص وزاد أصحاب السير أنه بعث المهاجر بن أبي أمية وجريرا إلى ذي الكلاع والسائب إلى مسيلمة وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس. (وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم) النجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أسلم وهو الذي آوى المهاجرين إلى الحبشة ورد وفد كفار قريش خائبين وهو الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وقد كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن المقصود هنا النجاشي الذي ولي بعده وكان كافرا. وكاتبه صلى الله عليه وسلم سنة تسع وقيل: قبيل مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم. فقه الحديث يؤخذ من الحديث

    1- جواز تحمل الكافر للحديث على أن يكون مسلما حين الأداء.

    2- من قوله من فيه إلى فيه دقة الصحابة في الرواية والتصريح بما يؤكد التوثيق والاتصال.

    3- جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام.
    4- دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم قال النووي: وهذا الدعاء واجب والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب هذا مذهبنا وفيه خلاف للسلف حكاه المازري والقاضي على ثلاثة مذاهب: أحدها: يجب الإنذار مطلقا قاله مالك وغيره وهو ضعيف. والثاني: لا يجب مطلقا وهذا أضعف منه أو باطل. والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب وهذا هو الصحيح. قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه.
    5- من أسئلة هرقل يتبين ذكاؤه وحكمته ودقته وسعة علمه.
    6- من قول أبي سفيان: لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت قبح الكذب في الجاهلية كما هو قبيح في الإسلام.
    7- من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل استحباب تصدير الكتاب بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) وإن كان المبعوث إليه كافرا قال النووي: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم فالمراد بحمد الله فيه ذكر الله تعالى وقد جاء في رواية له بذكر الله تعالى وقد بدأ صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب ببسم الله دون الحمد لله وهذا الكتاب كان ذا بال بل من المهمات العظام.
    8- وأنه يجوز للمسافر إلى أرض العدو أن يصحب معه الآية والآيتين ونحوهما وأن يبعث بذلك إلى الكفار وإنما نهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو أي بكماله أو بجملة من سوره وذلك أيضا محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار وأغرب ابن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج هذا القول إلى إثبات التاريخ.
    9- وأنه يجوز للمحدث والكافر مس آية أو آيات يسيرة منفصلة عن القرآن وقيل: في هذا دليل على جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين وفي الاستدلال بذلك من هذه القصة نظر فإنها واقعة عين لا عموم فيها فيفيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ والإنذار كما في هذه القصة وأما الجواز مطلقا حيث لا ضرورة فلا يتجه. 10- وأن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن يبدأ الكتاب بنفسه فيقول: من فلان بن فلان إلى فلان وهذه مسألة مختلف فيها قال الإمام أبو جعفر في كتابه (صناعة الكتاب) قال: أكثر العلماء يستحب أن يبدأ بنفسه ثم روي فيه أحاديث كثيرة وآثارا قال: وهذا هو الصحيح عند أكثر العلماء لأنه إجماع الصحابة قال: وسواء في هذا تصدير الكتاب والعنوان قال: ورخص جماعة في أن يبدأ بالمكتوب إليه فيقول في التصدير والعنوان: إلى فلان من فلان ثم روي بإسناده أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية وعن محمد بن الحنفية أنه لا بأس بذلك قال: وأما العنوان فالصواب أن يكتب عليه: إلى فلان ولا يكتب لفلان لأنه إليه لا له إلا على سبيل المجاز قال: هذا هو الصواب الذي عليه أكثر العلماء من الصحابة والتابعين. 1

    1- والتوقي في المكاتبة واستعمال الورع فيها فلا يفرط ولا يفرط ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى هرقل عظيم الروم فلم يقل: ملك الروم لأنه لا ملك له ولا غيره إلا بحكم دين الإسلام ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة ولم يقل: إلى هرقل فقط بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم أي الذي يعظمونه ويقدمونه وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعي إلى الإسلام فقال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] وقال تعالى {فقولا له قولا لينا} [طه: 44]. 1

    2- واستحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة فإن قوله صلى الله عليه وسلم أسلم تسلم في نهاية من الاختصار وغاية من الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني مع ما فيه من بديع التجنيس وشموله لسلامته من خزي الدنيا بالحرب والسبي والقتل وأخذ الديار والأموال ومن عذاب الآخرة. 1

    3- ومن قوله يؤتك الله أجرك مرتين أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا صلى الله عليه وسلم فآمن به فله أجران وفي الحديث ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها وأدبها فأحسن أدبها فأعتقها وتزوجها فله أجران. 1
    4- البيان الواضح أن من كان سببا لضلالة أو سبب منع من هداية كان آثما لقوله صلى الله عليه وسلم وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ومن هذا المعنى قوله تعالى {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} [العنكبوت: 13] ولا يعارض بقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [فاطر: 18] لأن وزر الآثم لا يتحمله غيره ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين جهة فعله وجهة تسببه. 1
    5- واستحباب أما بعد في الخطب والمكاتبات. 1
    6- ومن قوله سلام على من اتبع الهدى جواز مثله مع الكفار ولا يقال: إن الكافر لا يبدأ بالسلام فإنه ليس المراد هنا التحية وإنما المعنى سلم من عذاب الله من أسلم ولهذا جاء بعده {أن العذاب على من كذب وتولى} [طه: 48] حين قال موسى عليه السلام {والسلام على من اتبع الهدى} [طه: 47] وكذلك جاء في هذا الكتاب فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين فمحصل المقام أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يسلم عليه. مع أن المسألة خلافية فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه وأكثر العلماء أنه لا يجوز للمسلم أن يبتدئ كافرا بالسلام وأجازه كثيرون من السلف قال النووي: وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك وجوزه آخرون لاستئلاف أو لحاجة إليه أو نحو ذلك. 1
    7- وفي الحديث العمل بالكتاب. 1
    8- وفيه العمل بخبر الواحد. 1
    9- أخذ بعضهم من قول هرقل ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وقوله في رواية البخاري فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وقوله في رواية الطبراني أعرف أنه كذلك ولكن لا أستطيع أن أفعل إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم أن هرقل أقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن وأنه لم يصرح بالإيمان خوفا على نفسه من القتل وهكذا أطلق صاحب الاستيعاب فقال: إن هرقل آمن قال الحافظ ابن حجر: أمر هرقل في الإيمان عند كثير من الناس مشتبه لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه من القتل ويحتمل أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرا. والجمهور على أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال فقد حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بنحو السنتين وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه من تبوك يدعوه إلى الإسلام وأنه قارب الإجابة ولم يجب مما يدل على أنه استمر على الكفر أما قول بعضهم: يحتمل أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفا من أن يقتله قومه فهذا القول مستبعد. ففي مسند أحمد أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك: إني مسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب بل هو على نصرانيته وفي رواية أبي عبيد في كتاب الأموال كذب عدو الله ليس بمسلم. فالتحقيق: أنه أظهر بهذه القرائن التصديق لكنه لم يستمر عليه ولم يعمل بمقتضاه بل شح بملكه وآثر الفانية على الباقية وقد سبق في المعنى العام:
    نبذة عن آخر شأن هرقل تؤكد ما ذهبنا إليه وهي مستقاة من الروايات. ثم قال الحافظ ابن حجر: واختلف الإخباريون. هل هرقل هذا هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر؟ أو ابنه؟ والأظهر أنه هو. اهـ. والله أعلم.

    لا توجد بيانات