عنوان الفتوى : الحكمة من افتتاح الصلاة بالتكبير وختمها بالتسليم
ما الحكمة من ابتداء الصلاة بالتكبير وانتهاؤها بالتسليم؟ وبارك الله فيكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالحكمة من افتتاح الصلاة بالتكبير وختمها بالتسليم قد فصلها تفصيلاً شاملاً الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد حيث قال: وأما السؤال الثامن والعشرون: فقد تضمن سؤالين، أحدهما: ما السر في كون السلام في آخر الصلاة؟ والثاني: لم كان معرفاً؟ والجواب: أما اختتام الصلاة به فإنه قد جعل الله لكل عبادة تحليلاً منها، فالتحليل من الحج بالرمي وما بعده، وكذلك التحلل من الصوم بالفطر بعد الغروب، فجعل السلام تحليلاً من الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم. تحريمها هنا هو بابها الذي يدخل منه إليها، وتحليلها بابها الذي يخرج به منها. فجعل التكبير باب الدخول، والتسليم باب الخروج لحكمة بديعة بالغة يفهمها من عقل عن الله، وألزم نفسه بتأمل محاسن هذا الدين العظيم، وسافر فكره في استخراج حكمه وأسراره وبدائعه، وتغرب عن عالم العادة والألف، فلم يقنع بمجرد الأشباح حتى يعلم ما يقوم بها من الأرواح، فإن الله لم يشرع شيئاً سدى، ولا خلوا من حكمة بالغة، بل في طوايا ما شرعه وأمر به من الحكم والأسرار التي تبهر العقول ما يستدل به الناظر فيه على ما رواه، فيسجد القلب خضوعاً وإذعاناً، فنقول وبالله التوفيق: لما كان المصلي قد تخلى عن الشواغل، وقطع جميل العلائق وتطهر، وأخذ زينته وتهيأ للدخول على الله ومناجاته.. شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول: الله أكبر. فإن في اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور بمن ما لا يوجد في غيره، ولهذا كان الصواب أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه، ولا يؤدي معناه، ولا تنعقد الصلاة إلا به كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث. فجعل هذا اللفظ واستشعار معناه، والمقصود به باب الصلاة الذي يدخل العبد على ربه منه، فإنه إذا استشعر بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره. فلا يكون موفيا لمعنى الله أكبر، ولا مؤديا لحق هذا اللفظ، ولا أتى البيت من بابه، بل الباب عنه مسدود، وهذا بإجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه، وما أحسن ما قال أبو الفرج بن الجوزي في بعض وعظه: حضور القلب أول منزل من منازل الصلاة، فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى، فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة فكان أول قرى الضيف اليقظة، وكشف الحجاب لعين القلب، فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية، وقد تبعث قلبك في كل واد، فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك، فتبعث الرسول وراءه فلا يصادفه، فتدخل في الصلاة بغير قلب.
والمقصود أنه قبيح بالعبد أن يقول بلسانه: الله أكبر، وقد امتلأ قلبه بغير الله فهو قبلة قلبه في الصلاة، ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها، فلو قضى حق الله أكبر وأتى البيت من بابه لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات. فهذا الباب الذي يدخل منه المصلي وهو التحريم. وأما الباب الذي يخرج منه فهو باب السلام المتضمن أحد الاسماء الحسنى، فيكون مفتتحا لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتما لها باسمه فيكون ذاكراً لاسم ربه أول الصلاة وآخرها.
فأولها باسمه، وآخرها باسمه، فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه، مع ما في اسم السلام من الخاصية، والحكمة المناسبة لانصراف المصلي من بين يدي الله، فإن المصلي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره. بل هو في حمى من جميع الآفات والشرور، فإذا انصرف من بين يديه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كل جانب، وجاءه الشيطان بمصائده وجنده، فهو متعرض لأنواع البلايا والمحن، فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوباً بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى، وكان من تمام النعمة عليه أن يكون انصرافه من بيد يدي ربه السلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه، فتدبر هذا السر الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره، لكان كافياً، فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناء الزمان، والحمد في ذلك لله وحده. انتهى.
والله أعلم.