عنوان الفتوى : الإكثار من الذكر والاجتماع عليه
يقول سبحانه وتعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) هذه الآية تفيد التعميم لذكر الله سبحانه وتعالى والإكثار منه، وبالتالي يمكن اعتمادها تأصيلا لاعتكاف مجموعة من الناس في بيت من البيوت شرط أن تكون التقربات والنوافل والاذكار والقراءة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سيارة يلتمسون مجالس الذكر...."، والحديث الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط فذلكم الرباط" ما رأي شيخنا في هذا، وما علاقته بالبدعة الإضافية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران:190-191}، حمل الذكر المذكور فيه على الصلاة المشتملة على قيام وقعود, وحمله بعضهم على المريض الذي تختلف أحواله بحسب استطاعته قاله ابن مسعود, وحمله بعضهم على الذكر المطلق كذا قال ابن العربي, واحتج لهذه الأقوال بأحاديث منها ما روى البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عمران بن حصين: أنه كان به باسور فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صل قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب.
وما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه، ومنها ما روى أحمد عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة، ثم قال ابن العربي: الصحيح أن الآية عامة في كل ذكر. انتهى.
ولا نرى أن الآية حجة في الذكر الجماعي وإنما هي حجة في الذكر المطلق بأن يذكر العبد الله على كل حال، قائماً وقاعداً وعلى جنب، ولا شك أن ذكر الله من أفضل القربات وأجلها، وذلك لكثرة الأدلة على ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنها قول الحق سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {الأحزاب:42}، وقوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً {الأحزاب:35}، وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت. وفي الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند وصححه الأرناؤوط أن النبي صلى الله عليه سلم قال للأعرابي عندما سأله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فباب نتمسك به جامع قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل.
فالذكر على وجه العموم مطلوب ومشروع في كل وقت وحين والإكثار منه مطلوب في الأحوال كلها وذلك يشمل ذكر العبد منفرداً وذكره مع جماعة ويدل لمشروعية الاجتماع على الذكر -إن لم يشتمل على ما فيه محذور شرعي- ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي: قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال: فيقولون: هل رأوني، قال: فيقولون: لا والله يا رب ما رأوك، قال: فيقول: فكيف لو رأوني، قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً، قال: فيقول: فما يسألوني، قال: فيقولون: يسألونك الجنة، قال: فيقول: وله رأوها، قال: يقولون: لا، والله يا رب ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو رأوها، قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون، قال: يقولون: يتعوذون من النار، قال: فيقول: وهل رأوها، قال: يقولون: لا، والله ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو رأوها، قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم. رواه البخاري، وفي لفظ مسلم: إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلاء يبتغون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: فما يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا يا رب، قال: وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيروني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا يا رب، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، قال: يقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
وعن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبرائيل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة. رواه مسلم. وفي الحديث: ما جلس قوم مجلساً يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وتغشتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده. رواه ابن ماجه وقال الشيخ الألباني صحيح.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات. رواه أحمد - ورواته محتج بهم في الصحيح إلا ميمون المرائي- وأبو يعلى والبزار والطبراني كذا قال المنذري، وقال الألباني صحيح لغيره، ورواه الطبراني عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله عز وجل فيه فيقومون حتى يقال لهم قوموا قد غفر الله لكم، وبدلت سيئاتكم حسنات. قال الألباني في تحقيق الترغيب: صحيح لغيره. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليبعثن الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ، يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء، ولا شهداء قال: فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله، حلهم لنا نعرفهم، قال: هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله يذكرونه. رواه الطبراني بإسناد حسن كما قال المنذري وصححه الألباني.
وقال النووي: يستحب الجلوس في حلق الذكر، وأورد الحديث الذي رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أنه قال: إنه صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا..... إلى أن قال: أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة.
وقال ابن تيمية: الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن إذا لم يتخذ سنة راتبة، ولا اقترن به منكر من بدعة.
واعلم أن الاجتماع على الذكر حمله بعضهم على مجالس العلم، قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، أي مجالس العلم. وقد ذكر أهل العلم أن عطاء ذكر أخص أنواع الذكر، وهي من جملة مجالس الذكر، وليس الذكر محصوراً بها إلا أن أفضل مجالس الذكر هي مجالس مدارسة العلم الشرعي.
وأما الاجتماع الذي يدخل في البدعة الإضافية فهو ما أحدثت فيه طريقة، أو تحديد لعدد أو قت أو هيئة، أو ترديد بصوت واحد مما لم تثبت مشروعيته، فالذكر الجماعي الذي نهى عنه العلماء هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكاراً وأدعية وأورادا وراء شخص معين، أو دون قائد لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد، كذا عرفه الدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس في كتابه (الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع) وهذا هو الذي عده الشاطبي مثالاً على الابتداع في هيئات العبادات وكيفياتها، قال رحمه الله: ومنها -أي البدعة الإضافية- التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد... ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة.
هذا وإن من شروط الاعتكاف الشرعي أن يكون في مسجد، لقول الله تعالى: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ {البقرة:187}، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا في المسجد، وأما الانتظار المذكور في حديث مسلم: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط. فالمراد به الانتظار في المسجد حيث تقام الصلاة جماعة.
والله أعلم.