عنوان الفتوى : حكم الصلاة في مسجد قبلته بها انحراف يسير عن الكعبة
فضيلة الشيخ عندي سؤال عن اتجاه القبلة في المدينة التي أسكن فيها يوجد اختلاف في اتجاه القبلة بين مسجد وآخر بزاوية تصل بين 30-40 درجة، والاختلاف خاصة بين المساجد القديمة والحديثة حيث كانت أغلبية المساجد الحديثة اتجاه القبلة مطابق لاتجاه القبلة بالبوصلة، ولكن المساجد القديمة تختلف عنها وتصل في بعضها 30-40 درجة ناحية اليمين من الاتجاه وفقا للبوصلة، علما بأن النظر إلى موقع مدينة مكة المكرمة على خريطة نجد أن الاتجاه مقارب جدا للبوصلة و
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد اتفق العلماء على أن توجه المصلي نحو البيت الحرام شرط من شروط صحة الصلاة إلا في حالتين:
الأولى: حالة العجز عن التوجه كشدة الخوف عند القتال.
الثانية: المتنفل في السفر على الدابة ولا خلاف بينهم أيضاً أن من أبصر البيت فإن الفرض عليه التوجه إلى عينه.
وأما من كان غير مشاهد له، فإنه يلزمه استقبال جهته لا عينه على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء خلافاً للشافعية، ويؤيد مذهبهم قول الله سبحانه وتعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة: 144].
والشطر لغة الناحية أو الجهة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما بين المشرق والمغرب قبلة. رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا لأهل المدينة النبوية ومن كانت قبلته على سمتهم ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك كبين الجنوب والشمال ونحو ذلك، لأن قصد عين الكعبة فيه حرج على الناس والله تعالى يقول في كتابه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج: 78].
واتفق المسلمون على صحة صلاة الصف الطويل وبعض المصلين فيه خارج عن سمت البيت، قال القرافي رحمه الله في الفروق: أجمع الناس على صحة صلاته مع أنه خرج بعضه عن السمت قطعاً.
وقد جعل شيخ الإسلام ضابطاً للانحراف غير المبطل، فقال: بحيث يمكن أن يخرج من وجهه خط مستقيم إلى الكعبة من صدره وبطنه لكن قد لا يكون ذلك الخط من وسط وجهه وصدره فعلم أن الاستقبال بالوجه أعم من أن يختص بوسطه فقط.
وفي ضوء ما تقدم، فإنه لا يلزم من كان بعيداً عن الكعبة ولا يراها إلا التوجه إلى جهتها بحيث يغلب على ظنه أن القبلة في الجهة التي أمامه، وأنه لم ينحرف عنها بمقدار 45 درجة مئوية فأكثر، وأما من صلى بانحراف 45 درجة مئوية فأكثر عن القبلة فهو قد جعل القبلة عن يمينه أو عن شماله فلم تكن القبلة في مواجهته، ولذا فلا تصح صلاته وفي حالة وجود محاريب للمسلمين على هذا النحو فإنه لا يجوز الاجتهاد ومخالفتها إلى جهة أخرى اتفاقاً، إلا خلافاً ضعيفاً ستأتي الإشارة إليه في كلام المرداوي، ولكن يشترط في المحاريب التي لا يجوز الاجتهاد مع وجودها ما أشار إليه التقي السبكي في فتاويه فقال: (قال إمام الحرمين: ولو دخل بلدة مطروقة أو قرية مطروقة غير مكة والمدينة فيها محراب متفق عليه لم يشتهر فيه مطعن فلا اجتهاد له مع وجدان ذلك، فإنه في حكم اليقين... وقول الإمام في صدر كلامه محراب متفق عليه لم يشتهر فيه مطعن ما أحسنه، فإنه يفيد أن محل القول بعدم الاجتهاد فيه إنما هو بهذين الشرطين أن يكون متفقاً عليه، وأن لا يشتهر فيه مطعن فإذا جئنا إلى بلد فيه محراب غير متفق عليه أو اشتهر فيه مطعن وجب علينا الاجتهاد.
ونحوه عن الإمام النووي في المجموع ثم قال: وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين بالشرط السابق، فلا يجوز الاجتهاد في هذه المواضع في الجهة بلا خلاف.
وأما الاجتهاد في نفس الجهة تيامناً وتياسراً فممنوع عند الجمهور خلافاً للشافعية، لأن تلك المحاريب وجهت باجتهاد من المسلمين وفي مخالفتها شقاق وفرقة بين الناس والبوصلة من وسائل الاجتهاد كما سيأتي.
قال الموفق ابن قدامة: وإصابة الجهة لمن بعد عنها فإن أمكنه ذلك بخبر ثقة عن يقين أو استدلال بمحاريب المسلمين: لزمه العمل به.
قال المرداوي: قوله: أو استدلال بمحاريب المسلمين: لزمه العمل به.
الصحيح من المذهب: أنه يلزمه العمل بمحاريب المسلمين: فيستدل بها على القبلة، وسواء كانوا عدولاً أو فساقاً، وعليه الأصحاب، وعنه يجتهد إلا إذا كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه يجتهد ولو بالمدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ذكرها ابن الزاغواني في الإقناع والوجيز. قلت: وهما ضعيفان جداً.
وقال الدردير في الشرح الصغير: ولا يقلد مجتهد - وإن أعمى - غيره من المجتهدين، وأولى غيرهم، فإن خفيت عليه الأدلة سأل عنها، فإذا دل عليها اجتهد إلا محراباً لمصر: من الأمصار فإنه يقلده، فإذا دخل بلداً من البلاد التي يحل بها أهل العلم والمعرفة قلد محرابها من غير اجتهاد.
وقال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار: قوله محاريب الصحابة والتابعين فلا يجوز التحري معها، بل علينا اتباعهم، ولا يعتمد على قول الفلكي العالم البصير الثقة إن فيها انحرافاً خلافاً للشافعية في جميع ذلك كما بسطه في الفتاوى الخيرية قوله: وإلا فمن الأهل أي وإن لم يكن ثمة محاريب قديمة فيسأل من يعلم بالقبلة ممن تقبل شهادته من أهل ذلك المكان ممن يكن بحضرته بأن يكون بحيث لو صاح به سمعه، وأما إذا لم يكن من أهل ذلك المكان فلأنه يخبر عن اجتهاد فلا يترك اجتهاده باجتهاد غيره، والحاصل أن الاستدلال على القبلة في الحضر إنما يكون بالمحاريب القديمة، فإن لم توجد فبالسؤال من أهل ذلك المكان وفي المفازة بالنجوم، فإن لم يكن لوجود غيم أو لعدم معرفته بها فبالسؤال من العالم بها، فإن لم يكن فيتحرى، وكذا يتحى لو سأله عنها فلم يخبره، حتى لو أخبره بعدما صلى لا يعيد كما في المنية. انتهى
وأما الشافعية رحمهم الله فقد ذهبوا إلى أن للشخص ان يجتهد في التيامن والتياسر في الجهة مع وجود المحاريب وأن من اجتهد فإنه لا يصح اقتداؤه بمخالفه، قال الخطيب الشربيني: ولا يجوز له الاجتهاد في محاريب المسلمين ومحاريب معظم طريقهم وقراهم القديمة إن نشأ بها قرون من المسلمين، وإن صغرت وخربت إن سلمت من الطعن، لأنها لم تنصب إلا بحضرة جمع من أهل المعرفة بالأدلة فجرى ذلك مجرى الخبر عن علم إلا تيامناً وتياسراً، فيجوز إذ لا يبعد الخطأ فيهما بخلافه في الجهة ولا يجوز ذلك في محراب النبي صلى الله عليه وسلم ومساجده التي صلى فيها إن علمت، لأنه لا يقر صلى الله عليه وسلم على خطأ.
وصرح ابن حجر الهيتمي: بأن من اجتهد فخالف اجتهاده اجتهاد غيره ولو في التيامن والتياسر أنه لا يصح اقتداؤه بمخالفه فقال رحمه الله كما في التحفة: لا يصح اقتداؤه بمن يعلم بطلان صلاته... كمجتهدين اختلفاً اجتهاداً في القبلة ولو بالتيامن والتياسر، وإن اتحدت الجهة.
وأما قولك: هل البوصلة تعتبر وسيلة دقيقة لتحديد اتجاه القبلة، فالجواب: نعم تعتبر وسيلة دقيقة لتحديد جهة القبلة لا عين الكعبة إذا أحسن استخدامها ويلزم العمل بمقتضاها ما لم يعارضها ما هو أقوى منها كالمحاريب إذ لا يجوز الاستدلال بها كغيرها من الوسائل مع وجود المحاريب عند جمهور أهل العلم كما سبق.
وعليه، فننصحك بعدم ترك المسجد ما دام انحرافه غير مؤثر ولكونك من رواده سابقاً وأحد المؤذنين فيه دفعاً للفتنة وتأليفاً للقلوب.
والله أعلم.