عنوان الفتوى : استقدام غير المسلمين للعمل في الحجاز وبلاد المسلمين... رؤية شرعية
وفد إلى بلادنا بعض الشبان الوثنيين للعمل، فهل يجوز السماح لهم بالإقامة في بلدنا المسلم؟ وهل يمكننا استضافتهم في بيوتنا؟ ولو توفرت نسخ من ترجمة القرآن الكريم بلغتهم: فهل يمكننا تمكينهم من مباشرتها على غير طهارة؟ وهل يجزئ إعطاؤهم من مال الزكاة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما جزيرة العرب: فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإخراج غير المسلمين منها، ففي صحيحي البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب.
وقد اختلف الفقهاء في حدود جزيرة العرب المقصودة في الحديث، والراجح أنها أرض الحجاز وما والاها -كمكة والمدينة وينبع واليمامة ونحوها-، وقد فصَّل ابن قدامة في المغني القول في ذلك فقال: ولا يجوزُ لأحَدٍ منهم سُكْنَى الحجازِ. وبهِذا قال مالِكٌ، والشافِعِي، إلَّا أنّ مالكًا قال: أرَى أَنْ يُجْلَوْا من أرضِ العربِ كلِّها؛ لأنَّ رسولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا يَجْتَمِعُ دِيْنَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ". ورَوَى أبو داوُدَ، بإسْنادِه عن عمر، أَنَّه سمِعَ رسولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ والنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَلَا أتْرُكُ فِيَها إلَّا مُسْلِمًا". قال الترمِذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وعن ابن عبَّاسٍ، قال: أوْصَى رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بثلاثَةِ أشياءَ، قال: "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ". وسكتَ عن الثالث. روَاه أبو داودَ.
وجزيرَةُ العربِ ما بَيْنَ الوادِي إلى أقْصَى الْيَمَنِ. قالَه سعيدُ بن عبد العزيز. وقال الأصمَعِي وأبو عُبَيْدٍ: هي من ريِفِ العراقِ إلى عَدَن طُولًا، ومن تِهامَةَ وما وَراءَها إلى أطْرافِ الشامِ عَرْضًا. وقال أبو عُبَيْدَةَ: هي من حَفْرِ أبي موسى إلى اليَمَنِ طُولًا، ومن رَمْلِ يَبْرِينَ إلى مُنْقَطَعِ السَّماوَةِ عَرْضًا.
قال الخليلُ: إنَّما قيلَ لها جزيرةٌ؛ لأنَّ بحرَ الحَبَشِ وبحرَ فارِس والفُراتَ قد أحاطَتْ بها، ونُسِبَتْ إلى العربِ؛ لأنَّها أرْضُها ومَسْكنُها ومَعْدِنُها. وقال أحمد: جزيرةُ العرب المدينةُ وما وَالاها، يعني: أَنَّ الممْنوعَ من سُكْنَى الكُفَّارِ به المدينة وما وَالَاها، وهو مكًّةُ واليَمامَةُ وخَيْبَرُ واليَنْبُعُ وفَدَكُ ومَخاليفُها، وما والاها. وهذا قولُ الشافِعِيّ؛ لأنَّهُم لم يُجْلَوْا من تَيْماءَ، ولا من اليَمَنِ.
وقد رُوِي عن أبي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، أنَّه قال: إنَّ آخِرَ ما تَكَلَّمَ به النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أَنْ قال: "اخرِجُوا الْيَهُودَ مِنَ الْحِجَازِ". فأمَّا إخْراجُ أهل نَجْرانَ منه، فلأنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- صالَحَهُم على تَرْكِ الرِّبَا، فنَقَضُوا عَهْدَه.
فكأنَّ جزيرةَ العرَبِ في تلك الأحاديث أُريِدَ بها الحجازُ، وإنَّما سُمِّي حِجازًا؛ لأنَّه حَجَزَ بين تِهامَةَ ونَجْد، ولا يُمْنَعُون أيضًا من أطْرافِ الحجازِ، كتَيْماءَ وفَيْد ونحوِهما؛ لأنَّ عمرَ لم يَمْنَعْهُم مِن ذلك. انتهى.
وقال الشربيني في مغني المحتاج: (ويمنع كل كافر من استيطان الحجاز) سواء أكان ذلك بجزية أم لا لشرفه، ولما روى البيهقي عن أبي عبيدة بن الجراح «آخر ما تكلم به النبي -صلى الله عليه وسلم- أخرجوا اليهود من الحجاز» ولخبر الصحيحين «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» وخبر مسلم «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب.
والمراد منها الحجاز المشتملة هي عليه ولم يرد جميع الجزيرة؛ لأن عمر -رضي الله تعالى عنه- أجلاهم من الحجاز، وأقرهم في اليمن مع أنه من جزيرة العرب...
(وهو) أي الحجاز (مكة والمدينة واليمامة) وهي مدينة بقرب اليمن على أربع مراحل من مكة، ومرحلتين من الطائف: قيل سميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تسكنها (وقراها) أي الثلاثة كالطائف، وَوَجٍّ لمكة، وخيبر للمدينة. اهـ.
وأما ما سوى أرض الحجاز من بلاد المسلمين: فاستقدام غير المسلمين للإقامة بها من أجل العمل ليس بمحرم من حيث الأصل -لا سيما عند الحاجة إليهم لمهارة، أو خبرة يختصون بها-، لكن مع ذلك: فجلب غير المسلمين لبلاد المسلمين له مفاسد دينية، ومخاطر لا تخفى، من تكثير سواد الكفرة، ونشر مظاهر أديانهم الباطلة، وعاداتهم الفاسدة، وما يخشى من تأثيرهم السيء على المسلمين بالمخالطة والمعاشرة.
قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: ولأجل هذا الأصل: وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعًا من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة، من أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون، وصار الحيوان الإنسي، فيه بعض أخلاق الناس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة، فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفرًا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرد الإسلام. انتهى.
وأما الإقامة المؤقتة لغرض صحيح، وخاصة ما فيه نفع للمسلين فيما يحتاجونه، فلا يمنعون منها ما داموا يفون للمسلمين بشروطهم.
قال ابن قدامة في المغني: ويجوزُ لهم دخولُ الحجازِ للتِّجارَةِ؛ لأنَّ النَّصارَى كانُوا يَتَّجِرُون إلى المدينةِ في زَمَنِ عمرَ -رَضِي اللَّهُ عنه-، وأتاه شيخٌ بالمدينةِ، فقال: أنا الشيخُ النَّصْرانِي، وإنَّ عامِلَك عَشَرَنِي مَرَتَيْن. فقال عمرُ: وأنا الشيخُ الحَنِيفُ. وكتَبَ له عمرُ، أَنْ لا يُعْشرُوا في السَّنةِ إلَّا مَرَّةً. ولَا يأْذَنُ لهم في الإِقامَةِ أكثرَ من ثلاثَةِ أيَّامٍ، على ما رُوي عن عمرَ، -رَضِي اللَّهُ عنه- ثمّ ينْتَقِلُ عنه.
وقال القاضي: يُقيمُ أربعَةَ أيامٍ حَدَّ ما يُتِمُّ المسافِرُ الصلاةَ، والحُكْمُ في دُخولِهم إلى الحجازِ في اعْتبارِ الإِذنِ، كالحُكْمِ في دُخولِ أهلِ الحرْبِ دارَ الإِسْلامِ. وإذا مَرضَ بالحجازِ، جازَتْ له الإِقامةُ؛ لأنَّه يَشُقُّ الانْتِقالُ على المريضِ، وتجوزُ الإِقامةُ لمَنْ يُمَرِّضُه؛ لأنَّه لا يَسْتَغْني عنه، وإِنْ كان له دَيْنٌ على أحَدٍ، وكان حالًّا، أُجْبِرَ غَرِيمُه على وَفائِه، فإن تعَذَّرَ وَفاؤُه لمَطْلٍ، أو تَغَيَّبَ عنه، فيَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ من الإِقامَةِ، ليَسْتَوْفِي دينه؛ لأنَّ التَّعَدِّي من غيرِه، وفي إخْراجِه ذَهابُ مالِه، وإِنْ كان الدَّيْنُ مُؤجَّلًا، لم يُمَكَّنْ من الإِقامَةِ، ويُوَكِّلُ مَنْ يَسْتَوْفِيه له؛ لأنَّ التَّفْريطَ منه.
وإِنْ دَعَت الحاجَةُ إلى الإِقامَةِ لِيَبيعَ بِضاعَتَه، احْتَمَلَ أَنْ يجوزَ؛ لأنَّ في تَكْليفِه تَرْكَها أو حَمْلَها معه ضَياعَ مالِه، وذلك ممَّا يَمْنَعُ من الدُّخولِ بالبضائِع إلى الحجازِ، فتَفُوتُ مَصْلحتُهم، وتَلحَقُهم المَضَرَّةُ، بانْقِطاعِ الجَلَبِ عنهم.
ويَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعَ من الإِقامَةِ؛ لأنَّ له من الإِقامةِ بُدًّا، فإنْ أرادَ الانْتِقالَ إلى مكانٍ آخَرَ من الحجازِ، جازَ، ويقيمُ فيه أيضًا ثلاثةَ أيامٍ، أو أربعةً، على الخلافِ فيه، وكذلك إذا انتقَلَ منه إلى مكانٍ آخَرَ جازَ، ولو حصَلَت الإِقامَةُ في الجميعِ شهرًا. وإذا ماتَ بالحجازِ دُفِنَ به؛ لأنَّه يَشُقُّ نَقْلُه، وإذا جازَت الإِقامَةُ للمرِيضِ، فدَفْنُ المَيِّتِ أوْلَى. انتهى.
هذا؛ وقد رأيت كلام أهل العلم وخلافهم القديم في حدود جزيرة العرب، وحكم إقامة غير المسلمين فيها.
وعلى كل حال؛ فالأولى هو استقدام العمال المسلمين ما أمكن لتفادي تلك المفاسد، ولأن المسلمين أحق بأن يعانوا على طلب الرزق وتيسير سبل الكسب الحلال. وانظر الفتويين التاليتين: 124454، 50882.
وأما إسكان العمال غير المسلمين في بيوت المسلمين في غير جزيرة العرب، فلا حرج فيه، لكن يتعين منعهم من الخلوة بالنساء، أو غرس معتقداتهم الباطلة في نفوس الصغار، وانظر الفتوى: 71530.
ولا حرج في إهداء غير المسلم ترجمة لمعاني القرآن العظيم، وتمكينهم من مسها، لأن الترجمة ليس لها حكم المصحف، وانظر في هذا الفتويين التاليتين: 316714، 12328.
وأما الزكاة: فلا يجزئ دفعها إلى غير المسلمين، إلا إن كان ممن يرجى إسلامه بإعطائه الزكاة، فيجوز حينئذ إعطاؤه من سهم المؤلفة قلوبهم عند بعض العلماء، وانظر تفصيل هذا في الفتوى: 113651.
والله أعلم.