عنوان الفتوى : البيع بعقود الربا الفاسدة لا ينفي الإثم عند الأحناف
الدولة تبيع شققا سكنية للمواطنين بالتقسيط؛ للتخفيف عنهم، ولكنهم يشترطون على المواطن أن يكون راتبه لا يزيد عن كذا، لكن الشائع بين الناس أن نظام البيع يشتمل على الأمور الآتية:
الأمر الأول: البنوك تدفع للدولة ثمن هذه الشقق نقدا، ثم يحصل البنك الثمن من المواطنين على أقساط، لكن مع زيادة.
الأمر الثاني: البنك ليس طرفا في عملية البيع، ولا يدخل المبيع في ملكه، وإنما دوره أن يدفع الثمن نقدا فقط.
الأمر الثالث: تُفرض غرامة تأخير على المواطن عند التأخر عن السداد.
الأمر الرابع: تحتفظ الدولة بملكية الشقة حتى يُتم المواطن سداد الأقساط كلها.
والذي أعرفه أن هذه الأمور الأربعة لا تجوز. لكن إذا كنت من المواطنين الذين تتيح لهم الدولة شراء هذه الشقق بالنظام المذكور؛ لانطباق الشروط عليهم،
أفلا يجوز لي شراء الشقة، ويكون الإثم على الدولة تخريجا على مسألة الرشوة، للحصول على الحق؟ وأنا مواطن في هذه الدولة، والأراضي التي تقام عليها العقارات السكنية هي عقارات الدولة، ومشروعات البناء هذه هي مشروعات الدولة، والدولة لا تبيع الشقق إلا بهذا النظام.
أو: ألا يجوز لي شراء الشقة بهذا النظام عملا بمذهب الأحناف الذين يقولون في العقود الفاسدة: يصح العقد، ويفسد الشرط؟ ويكون على الدولة أن تبطل هي الشرط المذكور، ولا يُكلف المواطن بذلك. وهل ترون فرقا بين الحكم بالنسبة لمن يحتاج إلى الشقة؛ لكونه لا يملك شقة، ولا يستطيع الاستئجار، وبين من لا يحتاج إليها؛ لكونه يستطيع الاستئجار؟
جزاكم الله خيرا، وبارك الله فيكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز الشراء عن طريق العقود الربوية المحرمة، وهذا لا يختلف فيه من حيث الحكم التكليفي بالحل، والحرمة، وإنما الخلاف في الحكم الوضعي من حيث الصحة، والبطلان، بمعنى ترتب أثر العقد عليه من انتقال الملك، ونفوذ التصرف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في مجموع الفتاوى -: القبض الذي لا يفيد الملك هو الظلم المحض، فأما المقبوض بعقد فاسد، كالربا، والميسر؛ ونحوهما، فهل يفيد الملك؟ على ثلاثة أقوال للفقهاء: ـ أحدها: أنه يفيد الملك. وهو مذهب أبي حنيفة. ـ والثاني: لا يفيده. وهو مذهب الشافعي، وأحمد في المعروف من مذهبه. ـ والثالث: أنه إن فات أفاد الملك، وإن أمكن رده إلى مالكه، ولم يتغير في وصف، ولا سعر لم يفد الملك. وهو المحكي عن مذهب مالك. اهـ.
وقد سبق لنا بيان أن البيع الفاسد إذا لم يَفُتْ؛ فإنه يُردُّ ، وراجع في ذلك الفتوى: 452920 . وبهذا يتبين للسائل أن العمل بالمذهب الحنفي في العقود الفاسدة لا ينفي الإثم، وإنما يعني الحكم بصحة البيع، وترتب الملك عليه، وذلك؛ لأنهم يفرقون بين الباطل الذي لا يصح بأصله، ولا بوصفه، وبين الفاسد الذي يصح بأصله، ولا يصح بوصفه، ويجعلون عقود الربا من الفاسد، لا الباطل.
قال البزدوي في «كشف الأسرار»: اعلم أن الصحة عندنا قد يطلق -أيضا- على مقابلة الفاسد، كما يطلق على مقابلة الباطل، فإذا حكمنا على شيء بالصحة، فمعناه أنه مشروع بأصله، ووصفه جميعا، بخلاف الباطل، فإنه ليس بمشروع أصلا، وبخلاف الفاسد، فإنه مشروع بأصله دون وصفه، فالنهي عن التصرفات الشرعية يدل على الصحة بالمعنى الأول عندنا من حيث إن المنهي عنه يصلح لترتب الأحكام في المعاملات، ولا يدل عليها بالمعنى الثاني؛ لأنه ليس بمشروع بوصفه، وإن كان مشروعا بأصله، ثم القائلون بالفساد لغة تمسكوا بأن السلف فهموا الفساد من النواهي حتى احتج عمر -رضي الله- عنه في بطلان نكاح المشركات بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات}، واستدلت الصحابة -رضي الله عنهم- على فساد عقود الربا بقوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا}. اهـ.
وقال ابن نجيم في «البحر الرائق»: ظاهر ما في جمع العلوم، وغيره أن المشتري يملك الدرهم الزائد إذا قبضه فيما إذا اشترى درهمين بدرهم، فإنهم جعلوه من قبيل الفاسد، وهكذا صرح به الأصوليون في بحث النهي، فقالوا: إن الربا، وسائر البيوع الفاسدة من قبيل ما كان مشروعا بأصله دون وصفه ... ويدل على صحته ما ذكره البزدوي في غناء الفقهاء من جملة صور البيع الفاسد جملة العقود الربوية يملك العوض فيها بالقبض. اهـ.
فلا يجوز للسائل الدخول في عقد ربوي، حتى على مذهب الحنفية، بل ويجب عندهم فسخه على كلا المتعاقدين قبل الفوات.
قال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار: الفاسد يجب فسخه على كل منهما بدون رضا الآخر، وكذا للقاضي فسخه بلا رضاهما. اهـ.
وانظر للفائدة الفتويين: 390010، 104784.
وأما الشق الثاني من السؤال، فجوابه أن المعاملات الربوية كغيرها من المحرمات، يرخص فيها عند الضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلتها، وقد سبق لنا بيان حد الضرورة المبيحة للربا، فراجع في ذلك الفتويين: 6501، 47389.
والله أعلم.