عنوان الفتوى : شروط جواز دخول وسيط في السَّلَم
هل يجوز التوسط في البيع بالسلم؟ فبعض الناس يتعامل بهذه الطريقة: يطلب المشتري: 1000 فرخ صغير من الدجاج، من الوسيط، على أنه هو بائع الفراخ.
فيطلب الوسيط: 1000 فرخ، من البائع، ويبيع البائع الفراخ بطلبية مسبقة، ولا يبيع الفراخ جاهزةً؛ لأنّه إذا جهّزها قبل أن يجد لها من يشتريها فقد لا يجد لها من يشتريها، ويخسر في إنتاجها، وتخزينها، وتدفئتها، وإطعامها. وبعد أن يطلب منه الوسيط الفراخ يأخذ الفراخ مباشرة للمشتري بطلب من الوسيط، وأحيانا يشتري الوسيط من البائع بالدين، وبعد أن يسلّم السلعة إلى المشتري يأخذ ربحه، ويعطي الباقي للبائع، وفي بعض المرات يقبض أوّلًا المال من المشتري، ثم يشتري السلعة.
فهل بيع البائع للفراخ قبل تجهيزها يصلح على أنّه من بيع السّلم؟ وإذا كان كذلك، فمن شروطه: أن يكون المال حاضرًا، يعني: لا يجوز للبائع أن يبيع إلا إذا قبض المال كاملا، فلا يجوز للوسيط أن يشتري السلعة من البائع بالدّين، كما في الحالة الأولى، فتكون المعاملة محرّمة.
وبالنسبة للحالة الثانية: هل هذا من بيع ما لا يملك، فيكون حراما؟ أم إنّه من بيع السّلم، فلا يحرم من هذه الجهة؟
وإن كان لا يحرم من جهة أنّه بيع ما لا يمكن؟ أليست هذه المسألة تشبه مسألة تلقي الركبان؟ أو مسألة بيع الحاضر للبادي؟ حيث إنّ الذي يتلقى الركبان يرفع على الناس الأسعار في السوق، والحاضر إذا باع للبادي يكون أكثر الوسائط على الناس، وأغلى عليهم السلعة، وفي هذه المسألة الوسيط أغلى السلعة على المشتري دون أن يكون له أي دورٍ فعّال في الإنتاج، أو النّقل، فالسلعة تذهب مباشرة من البائع إلى المشتري، فعليه تكون هذه المعاملة حرامًا أيضًا؟
وإذا كانت حرامًا. فما السّبيل إلى تصحيح مثل هذه المعاملات؟ أن يشتري الوسيط الفراخ بماله الخاصّ بالسّلم، ثمّ يبيعها للمشتري؟ لكن هنا قد لا يشتريها المشتري، فيخسر، فيكون لا وجه لتحليل مثل هذه المعاملة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأصل المسألة يعتمد على حكم بيع السلم في الحيوان، فقد منعه الحنفية، لأن الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً في تقدير ماليته، فلا يمكن ضبطه.
وأما الجمهور: فأجازوه، قياسا على صحة اقتراضه.
قال المروزي في اختلاف الفقهاء: قال سفيان: يكره السلف في الحيوان، وهكذا قال أصحاب الرأي. وقال مالك، وأهل المدينة: لا بأس بالسلف في الحيوان، وكذلك قال الشافعي، وأحمد. اهـ.
والأظهر هو الجواز.
قال ابن قدامة في المغني: ظاهر المذهب، صحة السلم فيه، نص عليه، في رواية الأثرم.
قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن، والشعبي، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وحكاه الجوزجاني عن عطاء، والحكم، لأن أبا رافع قال: استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا. رواه مسلم، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبتع البعير بالبعيرين، وبالأبعرة إلى مجيء الصدقة. اهـ.
وعلى القول بصحة السلم في الحيوان، فالمعاملة التي ذكرها السائل إنما تصح على شروط بيع السلم، ومنها: قبض كامل الثمن في مجلس العقد، ويكون ذلك عن طريق عقدين منفصلين: الأول بين المشتري والوسيط، والثاني بين الوسيط والبائع، ثم يوكل الوسيط البائع في توصيل الأفراخ للمشتري، وهو ما يعرف بالسلم الموازي.
وراجع في ذلك الفتويين: 97413، 292327.
وعلى ذلك، فالذي يمنع صحة هذه المعاملة هو عدم تعجيل كامل الثمن في كل من العقدين المذكورين. إذيجب أن يعجل المشتري الثمن للوسيط في مجلس عقدهما، ويجب أن يعجل الوسيط الثمن للبائع في مجلس عقدهما.
وأما ما ذكره السائل من منع ذلك بسبب شَبَهِهِ بتلقي الركبان، فلا يصح؛ لأن علة النهي عن تلقي الركبان هي التغرير بالبائع، أو الإضرار العام، وكلاهما مفقود في السلم، والسلم الموازي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الحسبة: ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له الخيار إذا هبط إلى السوق. اهـ.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع: هذا -يعني بيع متلقي السلع- إذا كان يضر بأهل البلد بأن كان أهله في جدب وقحط، فإن كان لا يضرهم لا بأس، وقال بعضهم: تفسيره هو أن يتلقاهم فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد، وهم لا يعلمون سعر البلد، وهذا أيضا مكروه، سواء تضرر به أهل البلد أم لا؛ لأنه غرهم، والشراء جائز في الصورتين جميعا؛ لأن البيع مشروع في ذاته، والنهي في غيره، وهو الإضرار بالعامة على التفسير الأول، وتغرير أصحاب السلع على التفسير الثاني. اهـ.
وقال الدهلوي في حجة الله البالغة: أما تلقي الركبان، فهو أن يقدم ركب بتجارة، فيتلقاه رجل قبل أن يدخلوا البلد، ويعرفوا السعر، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد، وهذا مظنة ضرر بالبائع، لأنه إن نزل بالسوق كان أغلى له، ولذلك كان له الخيار إذا عثر على الضرر، وضرر بالعامة، لأنه توجد في تلك التجارة حق أهل البلد جميعا، والمصلحة المدنية تقتضي أن يقدم الأحوج، فالأحوج، فإن استووا، سوى بينهم، أو أقرع، فاستئثار واحد منهم بالتلقي نوع من الظلم، وليس لهم الخيار، لأنه لم يفسد عليهم مالهم، وإنما منع ما كانوا يرجونه. اهـ.
والله أعلم.