عنوان الفتوى : شرح حديث: وعظنا رسول الله موعظة بليغة ذرفت منها العيون...
أريد الشرح الوافي للحديث الشريف: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) جزاكم الله عنا كل خير.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث أخرجه أبو داود (4604)، وأخرجه الترمذي (2870)، و(2871)، وأخرجه ابن ماجه (44)، وهذا لفظه عند الترمذي: عَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا -يَا رَسُولَ اللهِ-؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ، فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ. وهذا الحديث حديث صحيح، صححه الترمذي، والبزار فيما نقله عنه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، والحاكم، والضياء المقدسي، والهروي، والذهبي، وابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (2/ 109)، وقال ابن رجب: هو حديث جيد، من صحيح حديث الشامين، ولم يتركه البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما له.
وهو حديث عظيم فيه من جوامع الكلم ومحكمات الحكم الشيء الكثير.
وهو الحديث الثامن والعشرون من الأربعين النووية، وقد بسط شراحها الكلام فيه، وسننقل لك شرحًا مختصرًا مفيدًا للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري في كتابه: "التحفة الربانية شرح الأربعين النووية" (29/ 1) حيث قال بعد أن ساق الحديث:
المفردات: وعظنا: نصحنا، وذكرنا.
موعظة: تنويهًا للتعظيم، أي: موعظة جليلة.
وجلت: خافت.
منها: من أجلها.
ذرفت: سالت بالدموع.
كأنها موعظة مودع: فهموا ذلك من مبالغته صلى الله عليه وسلم في تخويفهم وتحذيرهم، فظنوا أن ذلك لقرب مفارقته لهم، فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول، والفعل.
فأوصنا: وصية جامعة كافية.
بتقوى الله: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
والسمع والطاعة: لولاة الأمور، فيجب الإصغاء إلى كلام ولي الأمر؛ ليفهم، ويعرف، وتجب طاعته.
فسيرى اختلافًا: في الأقوال، والأعمال، والاعتقادات.
فعليكم بسنتي: الزموا التمسك بها، وهي طريقته صلى الله عليه وسلم، مما أصله من الأحكام الاعتقادية، والعملية الواجبة، والمندوبة، وغيرها.
الراشدين: الذين عرفوا الحق واتبعوه، والمراد بالخلفاء الراشدين: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.
عضوا: بفتح العين، وضمُّها غلط.
بالنواجذ: أواخر الأضراس.
بدعة: وهي ما أحدث على خلاف أمر الشارع، ودليله الخاص، أو العام.
يستفاد منه:
1- المبالغة في الموعظة؛ لما في ذلك من ترقيق القلوب، فتكون أسرع إلى الإجابة.
2- الاعتماد على القرائن في بعض الأحوال؛ لأنهم إنما فهموا توديعه إياهم بإبلاغه في الموعظة أكثر من العادة.
3- أنه ينبغي سؤال الواعظ الزيادة في الوعظ، والتخويف، والنصح.
4- علم من أعلام النبوة، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بما يقع بعده في أمته من كثرة الاختلاف، ووقع الأمر كذلك.
5- الأمر بتقوى الله، والسمع، والطاعة، وفي هذه الوصية سعادة الدنيا والآخرة: أما التقوى فهي وصية الله للأولين والآخرين، وأما السمع والطاعة، فبهما تنتظم مصالح العباد في معاشهم، ويستطيعون إظهار دينهم، وطاعاتهم.
6- التمسك بالسنة، والصبر على ما يصيب المتمسك من المضض في ذلك، وقد قيل: إن هذا هو المراد بعض النواجذ عليها.
7- أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولًا، وخالفه فيه غيره، كان المصير إلى قول الخليفة أولى.
8- التحذير من ابتداع الأمور التي ليس لها أصل في الشرع، أما ما كان مبنيًّا على قواعد الأصول، ومردودًا إليها، فليس ببدعة، ولا ضلالة. انتهى.
ومن أدار التوسع فليرجع إلى الشروح المطولة، كشرح ابن رجب: "جامع العلوم والحكم"، وشرح ابن دقيق العيد، وشرح ابن عثيمين، وشرح عبد المحسن العباد، وغيرها كثير.
والله أعلم.