أرشيف المقالات

رعاية الطفولة في الإسلام

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
للمربية الفاضلة الأستاذة أسماء فهمي درج أكثر الناس في قياس مجد الأمم وحضارتها بمقاييس شتى أهمها النبوغ في الفنون والعلوم، أو ارتقاء النظم والقوانين، أو التفوق الحربي ووفرة الغنى واتساع الملك وقلما جعلوا رقي الأمة الوجداني وتغلغل مبادئ الرحمة والإحسان فيها من أول مقاييس الرقي الهامة.
ومادامت هذه الناحية لا تلقى من الدراسة والعناية ما يرجح كفتها، ويرفع قيمتها، لتكون الحجر الأساسي في بناء الحضارة، فسيظل العالم ولاشك بعيداً عن روح السلام والوئام ولقد كان للحضارة الإسلامية أوفر الحظ من مبادئ العطف والإنسانية التي تجلت في نواح عدة من الحياة، فظهرت مثلاً في معاملة المسلمين لسكان البلاد التي خضعت لسلطانهم مما أنساهم عدة أجيال مذلة الفتح، كما ظهرت في معاملة الرقيق والمرأة، وتجلت في الرعاية العظيمة التي كان يعامل بها الأطفال.
على أن تلك الناحية الخطيرة التي يجب أن تعتبر بحق المقياس الأول للرقي، لم تنل كل ما تستحقه من الاهتمام، فلم تأخذ مكانة المقاييس الأخرى بعد.
وعلى ذلك فليس أنسب من أن ننتهز فرصة حلول العام الهجري الجديد لندرس ناحية من نواحي الرقي الوجداني عند المسلمين في العصور الماضية، فنتعرف اهتمامهم بشئون الأطفال، وتربيتهم للنشء، لنسبر غور مبادئ الرحمة فيهم لم يكن الاهتمام بشئون الأطفال مقصوراً على الدين الذي حرم قتل الأبناء خشية الإملاق، وصان حقوق اليتامى وأموالهم، ووضع القوانين للحصانة، وقيد سلطة الأب على أبنائه، ورفع مكانة الأمة إذا أنجبت ولداً لسيدها فأصبحت بسبب وليدها في مأمن من البيع والشراء؛ بل أن موضوع تربية الطفل ووجوب تعهده بالرفق والعناية لاقى أكبر الاهتمام من كتاب المسلمين ومفكريهم.
وإن روح الرفق لتبدو واضحة قوية في كل ما كتبوا.
والواقع أن الشاعر العربي الرقيق العاطفة لم يكن هو وحده الذي عبر بوضوح عن هذه النزعة الإنسانية إذ قال: وإنما أولادنا بيننا ...
أكبادنا تمشي على الأرض بل إن الفيلسوف والمربي عالجا الموضوع بنفس الروح.
فلقد اهتم بهذه الناحية نفر من أشهر مفكري الإسلام مثل ابن سينا والغزالي والعبدري وابن خلدون.
وسنشير إلى بعض آرائهم تسجيلاً لناحية من نواحي الرقي والوجداني الذي تمتاز به الحضارة الإسلامية عما سبقها من الحضارات كالحضارتين الإغريقية والرومانية فابن سينا يجعل أساس التربية مراعاة ميول الأطفال واستعدادهم، حتى لا يرهق الأطفال بأعمال يصعب عليهم أداؤها لأنها لا تجري مع رغباتهم.
وعلى ذلك فابن سينا يحترم الميول مهما كانت متواضعة.
كذلك عالج هذا الفيلسوف مشاكل التأديب بطريقة يتجلى فيها الحزم الممزوج بالرفق، فرأى أن يجنب الصبي معايب الأخلاق بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، الإعراض والإقبال، وبالحمد مرة وبالتوبيخ مرة أخرى، ما كان كافياً؛ فإن احتاج للاستعانة باليد لم يحجم عنها.
وليكن أول الضرب قليلاً موجعاً كما أشار به الحكماء من قبل، بعد الإرهاب وبعد إعداد الشفعاء.
وهكذا لا يجعل ابن سينا القسوة والضرب أول وسيلة للتأديب، بل هو لا يلجأ إلى الضرب إلا إذا فشلت الوسائل الأخرى ولقد حدد علماء المسلمين عدد الضربات التي توقع على الطفل بثلاث، كما عينوا المواضع التي يحدث فيها الضرب حتى لا يتعرض الطفل للأذى والغزالي الذي يعتبر حجة الإسلام، والذي كان لآرائه أكبر الأثر في تفكير المسلمين في العصور التالية، يتكلم عن الطفولة بعطف ورقة لا حد لهما.
فهو يصف الطفل بأنه (أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة.
)
ومن ثم يجب على ولي أمر الطفل أن يقوم بإرشاده بأمانة وإخلاص.
وهو يوجب مراعاة شعور الطفل فيقول: (إن الطفل المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه)، كما يرى: (ألا يؤخذ الطفل بأول هفوة، بل يتغافل عنه ولا يهتك سره، ولاسيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه)؛ كما ينصح للمربي: (أن ينظر في مرض المريض وفي حال سنه ومزاجه وما تحتمله نفسه من الرياضة ويبني على ذلك رياضته) والعبدري الذي عاش بمصر في القرن الثامن للهجرة يحمل حملة شعواء في كتابه (مدخل الشرع الشريف) على مؤدبي عصره، وينعى على أولياء أمور الأطفال أنهم يقسون على الصبيان فيضربونهم بعصا اللوز اليابس وبالجريد.
ويصر على أن يأخذ المعلم الأطفال بالرفق ما أمكن.
ولكن إذا اضطر المربي إلى أن يضرب الصبي على تركه الصلاة متى ما بلغ السن التي تجيز ذلك، فلا بأس أن يضربه ضرباً غير مبرح، ولا يزيد على ثلاثة أصوات شيئاً إلا في حالات نادرة جداً.
وهنا يحدد عدد الأصوات بعشرة، وهو الحد الأقصى.
ولا ينسى العبدري أن يذكر المربي بتفاصيل عدة لا يخرج مرماها عن مراعاة المسلمين لشعور الأطفال.
فهو ينصح المؤدب مثلاً ألا يسمح للتلاميذ أن يحضروا غداءهم إلى المكتب، أو يحملوا نقوداً لشراء ما يرغبون من الطعام، حتى لا يتألم الطفل الفقير الذي لا يمكنه مجاراة الموسرين في مظاهر يسرهم.
وعلى ذلك فهو يفضل أن يرجع الأطفال أجمعون إلى منازلهم للغداء ويرى العبدري أيضاً أن يلعب الأطفال لعباً جميلاً بعد انصرافهم من المكتب حتى تذهب عنهم آثار التعب والملل، وحتى يستأنفوا دروسهم بشوق واهتمام ولقد عقد ابن خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، ولاسيما في أصاغر الولد.
وذكر أن كل من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الخبث والكذب، وفسدت معاني الإنسانية فيه.

وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف كذلك لم تكن رعاية الأطفال مقصورة على المفكرين والمشتغلين بالتربية، بل قام المحسنون بإنشاء المعاهد الخيرية لتعليمهم وحمايتهم.
وكثير من الكتب الإسلامية تفيض بذكر الكتاتيب التي بنيت لتعليم اليتامى والمساكين وإطعامهم وكسوتهم.
ولقد ساهمت المرأة المسلمة بقسط وافر في هذا الميدان، إذ يذكر المقريزي في كتابه الخطط أسماء كثير من النساء اللاتي قمن ببناء الكتاتيب وحبسن عليها الأموال والأملاك لتعليم أبناء الفقراء كتاب الله.
وكثيراً ما كان يبنى الكتاب بجانب المدرسة والبيمارستان مما سهل بطبيعة الحال حصول الأطفال على العلم والعلاج وبلغ من عناية المسلمين بأمر الأطفال أن كلف رئيس الشرطة بتفقد أحوال الكتاتيب لمنع تعليم البنات الصغار أشعار الغرام والمجون مما قد يكون له أثر السيئ في أخلاقهن، ولحماية الأطفال مما قد يصيبهم من قسوة المعلمين.
وهكذا لم تقف الدولة موقفاً سلبياً في أمر تربية الأطفال من كل ما تقدم يتبين لنا مقدار تغلغل مبادئ العطف والإنسانية في ناحية من أهم نواحي الحياة الإسلامية.
على أن تقديرنا لمبادئ هذه الرحمة المتجلية في الاهتمام بالأطفال لا يجعلنا نغض الطرف عن أن المسلمين لم يتخذوا الوسائل الكافية لحماية الطفولة ولسد حاجاتها في النواحي المختلفة، فلم يكن لديهم مثلاً قوانين تحمي الأطفال من مزاولة بعض الأعمال التي قد تعوق نموهم، وتحدد السن التي لا ينبغي تشغيل الأطفال قبل بلوغهم إياها؛ كما لم يحددوا سناً لبدء الزواج، فكانت الفتاة تتزوج في سن مبكرة، وترهق بواجبات الأمومة والزوجية وهي لم تزل بعد طفلة.
كذلك لم تتوفر المنشآت الخيرية التي تكفي لسد حاجات الفقراء وذوي العاهات.
على أن ذلك النقص في وسائل العلاج لا يقلل من قيمة مبادئ العطف والإنسانية التي بني عليها الإسلام، ولا تخفي روح الإحسان التي تفيض بها الحضارة الإسلامية، والتي ظهرت في ميدان الرفق بالأطفال وإذا كان الغرض الأول من دراسة نواحي الحضارات الغابرة هو تفهم نواحي حياتنا الراهنة والوقوف على مقدار تقدمنا أو قصورنا، فأنا لا نتمالك أن نشعر بالخزي من أنفسنا عندما نستعرض أعمال السلف ونقارنها بمجهودنا الضئيل على رغم ما لدينا من وسائل وتجارب ومعرفة.
وعلى الرغم من مرور كل هاتيك السنين لم نتقدم غير خطوات قليلة في ميدان الرفق بالأطفال.
فثلاثة أرباع أطفالنا إما مصابون بداء الجهل والأمية وهو أصل كل شقاء، وإما جياع حفاة عراة تموج بهم الطرقات، وإما مرضى بأدواء شتى بسبب إهمالهم وحرمانهم حتى من ماء الشرب النقي.
وأخشى كثيراً أن نظهر في مؤخرة الأمم في الحضارة والرقي إذا اعتبرنا مقياس التقدم الحقيقي هو مبلغ تغلغل مبادئ العطف والإنسانية التي تقل مظاهرها لدينا لسوء الحظ وفي ضوء هذه المآسي، ولشعورنا بما قدمنا وما أخرنا، يبدو لنا الماضي عظيماً حقاً، فنتجه إليه بإعجاب وخشوع، ونتحدث عن آثاره حيناً من الدهر نشعر بعده بشيء من راحة المعترف بالفضل المقر بالذنب أسماء فهمي الأستاذة بمعهد التربية.
درجة شرف في التاريخ ودرجة الأستاذية في التربية من إنجلترا

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢