عنوان الفتوى : سبب الابتلاء بالسحر وشروط تأثير الرقية في إبطاله
أريد أن أسأل عن الأعمال والسحر. فكيف لبشر من صنع الله، أن يسخر الجن والشياطيين لأذية البشر، وأنا أعلم أن هذا كله بأمر الله. فلماذا يسمح الله بذلك، فكيف لمخلوق من طين أن يؤذي بشرا بالسحر، والأعمال لمجرد الكراهية؟ ولماذا عند قراءة القرآن وسورة البقرة، والصلاة والمداومة عليهما، ومع ذلك لا يخرج هذا الجن أو الشيطان من جسد الإنسان؟ فهل هناك قوة تفوق قوة القرآن الكريم؟ فلماذا لا يستجيب للقرآن، ويخرج من الجسم؟ أريد الرد على هذه الأسئلة بعد إذنكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن تسلط السحرة والجن على بعض الناس، يدخل في أنواع الابتلاء التي يبتلى بها الناس، كما يبتلون بالمرض.
وقد شرع الله للمسلم التحصن من ذلك، وعلاجه بالرقية، والتعوذ، والدعاء.
وينبغي أن تعلم أن كل ما يجري في هذا الكون، إنما هو بتقدير من الله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يصيب العبد شيء من الأذى، إلا باذن الله تعالى، فقد قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر:49}، وقال سبحانه: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {التوبة:51}. وقال في شأن السحرة: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ {البقرة:102}.
ثم إن تقدير الله تعالى لهذا الفعل لا يستلزم رضاه عنه. فقد قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي -رحمه الله- في سلم الوصول:
والسحر حق وله تأثير لكن بما قدره القدير
أعني بذا التقدير ما قد قدره في الكون لا في الشرعة المطهرة
وأعظم من هذا تقييض الشيطان لمن أعرض عن كتاب الله تعالى، يضله ويصده عن الحق، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 36 - 39].
قال السعدي: يخبر تعالى عن عقوبته البليغة، لمن أعرض عن ذكره، فقال: {وَمَنْ يَعْشُ} أي: يعرض، ويصد {عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} الذي هو القرآن العظيم ... قيَّض له الرحمن شيطانا مريدا، يقارنه ويصاحبه، ويعده ويمنيه، ويؤزه إلى المعاصي أزا ... فهذه حالة هذا المعرض عن ذكر الله في الدنيا مع قرينه، وهو الضلال والغيّ، وانقلاب الحقائق.
وأما حاله، إذا جاء ربه في الآخرة، فهو شر الأحوال، وهو: إظهار الندم والتحسر، والحزن الذي لا يجبر مصابه، والتبرِّي من قرينه، ولهذا قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}، كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا}. اهـ.
وأما عن تأثير الرقية والتلاوة في علاج المس والسحر، فان قوة التأثير تكون بحسب قوة إيمان ويقين العبد، وحضور قلبه؛ ففي حديث الحاكم: ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.
وفي الحديث القدسي الذي رواه الإمام أحمد: أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله.
وقد مثل ابن القيم رحمه الله الدعاء بالسيف، وذكر أن قوة تأثير الدعاء بحسب قوة إيمان الداعي، كما أن تأثير ضربة السيف، بحسب قوة ساعد الضارب.
قال ابن القيم في الجواب الكافي: والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود؛ حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة، لم يحصل الأثر. اهـ.
وقال أيضا في مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: العائن إذا وقع بصره على المعين، حدثت في نفسه كيفية سمية، أثرت في المعين بحسب عدم استعداده، وكونه أعزل من السلاح، وبحسب قوة تلك النفس، وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعين إذا وصف له، فتتكيف نفسه وتقابله على البعد فيتأثر به، ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم إلا بالصورة والشكل، فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق، هذه النفوس الخبيثة السمية، وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها، وما تضمنته من التوحيد والتوكل، والثناء على الله، وذكر أصول أسمائه الحسنى، وذكر اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومحقه، ولا على خير إلا نماه وزاده، دفعت هذه النفس بما تكيفت به من ذلك، أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية، فحصل البرء، فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده، وحفظ الشيء بمثله، فالصحة تحفظ بالمثل، والمرض يدفع بالضد، أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خلقا وأمرا، ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة، وقبول من الطبيعة المنفعلة، فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية، ولم تقو نفس الراقي على التأثير، لم يحصل البرء.
فهنا أمور ثلاثة: موافقة الدواء للداء، وبذل الطبيب له، وقبول طبيعة العليل، فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء، وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولا بد بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن عرف هذا كما ينبغي، تبين له أسرار الرقى، وميز بين النافع منها وغيره، ورقى الداء بما يناسبه من الرقى، وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل، كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع، وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظره، وحسن تأمله، والله أعلم. اهـ.
والله أعلم.