عنوان الفتوى : حكم عفو المسلم عن غير المسلم في الحقوق التي له عليه
لقد سرقت من أربعة أشخاص أجانب وليسوا بمسلمين، وكل شخص منهم سرق الكثير من أشخاص كثيرين، وأنا من ضمنهم، والآن معي حكم من المحكمة باسترداد ما سرقوه مني، وليس عندهم دخل كاف ليدفعوا لي، لذلك قررت المحكمة استراد ما سرقوه مني عندما يكون لديهم دخل كاف. والآن معي أربعة أحكام على أربعة أشخاص، وكنت أفكر في أن أتنازل عن الأحكام الأربعة إذا كان في ذلك بعض الثواب، فهل فيهم ثواب إذا تنازلت عن حقي؟ وشكرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الشرع الحنيف قد حث على الندب إلى العفو في حقوق الخلق مطلقًا، قال ابن تيمية: لم يذكر حقوق الآدميين في القرآن إلا ندب فيها إلى العفو. اهـ.
فمن المشروع: عفو المسلم عن الكافر، ومسامحته عن المسروقات ونحوها من الحقوق التي له عليه، وذلك أمر مندوب إليه، ومثاب عليه، وليس ذلك بأبلغ من الصدقة على الكافر، التي يرى عامة العلماء استحبابها ومشروعيتها، كما بيناه في الفتوى رقم: 12798.
وقد قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {المائدة:13}.
جاء في تفسير الشربيني: فاعف عنهم ـ أي: امح ذنبهم ذلك: واصفح ـ أي: أعرض عن ذلك أصلاً ورأساً إن تابوا وآمنوا وعاهدوا والتزموا الجزية، وقيل: مطلق ونسخ بآية السيف، وقوله تعالى: إنّ الله يحب المحسنين ـ تعليل للأمر بالصفح وحث عليه، وتنبيه على أنّ العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلاً عن العفو عن غيره، روى الشيخان وغيرهما عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن الأعصم ـ وفي رواية البخاري أنه رجل من بني زريق حليف لليهود، وكان منافقاً حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهنّ، وذلك أشدّ السحر، ثم إنّ الله تعالى شفاه، وأعلمه أنّ السحر في بئر ذروان، فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها: أفلا أخرجته؟ فقال: لا، أمّا أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرّاً، فأمرت به فدفنته ـ وهو في معجم الطبرانيّ الكبير وهذا لفظه، وعن زيد بن أرقم ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: كان رجل يدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فعقد له عقداً، فجعله في بئر رجل من الأنصار، فأتاه ملكان يعوذانه، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه فقال أحدهما: أتدري ما وجعه؟ قال فلان الذي يدخل عليه عقد له عقداً، فألقاه في بئر فلان الأنصاري، فلو أرسل رجلاً لوجد الماء أصفر، فبعث رجلاً فأخذ العقد فحلها فبرىء، فكان الرجل بعد ذلك يدخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر له شيئاً منه ولم يعاتبه ـ وعن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنّ امرأة يهودية سمّت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك ـ أو قال ـ عليّ قالوا: أفلا نقتلها؟ قال: لا، قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات النبيّ صلى الله عليه وسلم فانظر إلى عفوه صلى الله عليه وسلم واقتد به، وفي ذلك غاية العفو والإحسان امتثالاً لأمر ربه تعالى. اهـ.
وانظر للفائدة الفتوى رقم: 164515.
والله أعلم.