عنوان الفتوى : حكم من يسأل الناس الصدقات له أو لغيره
بعد كامل التحية والتقدير، اسمحوا لي أيها السادة الأفاضل أن أتوجه إليكم بأسئلة مهمة ونوازل اعتدنا عليها في السنين الماضية، غريبة على مجتمعنا الإسلامي والعربي. وبما أن موسمها قد اقترب. فأرجو من السادة العلماء إتحافنا بفتاوى وافية شافية، مكللة بالتأصيل والدليل. والأسئلة كالتالي: ظهرت في الآونة الأخيرة ظاهرة، وهي: قدوم بعض الأفراد عند اقتراب شهر رمضان المبارك، ويبدؤون في الطواف على المجالس، والأفراد، والمكاتب يريدون الصدقات، وبعضهم يقول الزكاة. فما حكم هذا الطواف؟ وهل له آثار على الفرد والمجتمع، خصوصا أنه لوحظ ازدياد أهله كل سنة، وهذا الكسب الذي يكسب بهذا الطريقة ما حكمه؟ وما حكم النفقة على العيال منه؟ البعض منهم يتحجج بوجود عيال لديه، رغم أنه شاب جلد، قادر على ممارسة كثير من الأعمال. هل هناك فرق بين الشيخ والشاب؟ بعضهم يتحجج بأنه يريد أن يوصلها لمستحقيها. فهل هذا يبيح له سؤال الناس، مع أنه قد يتهم بالخيانة فيها؟ فهل الواجب عليه البعد عنها ليسلم له عرضه، أم إن حق مستحقيها يقدمه على عرضه؟ بعضهم يتعذر بأن كل الناس تسأل في رمضان. فهل هذا حجة لهم؟ ومن له قريب لا يمارس عملا، ويمتهن هذه المهنة: أي أخذ الصدقات، والمشاريع الخيرية، أو لنفسه، وله منها الأموال الطائلة. فهل تلبى دعوته، وتقبل هديته؟ آجركم الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنقول أولا: إن غشيان مجالس الناس بدون سابق إذن، والتطواف عليهم في مكاتبهم، ومؤسساتهم بهذه الصفة البشعة والمزعجة في كثير من الأحيان، أمر مستهجن شرعا وطبعا، ولا يرضى به ذو مروءة مهما كان الداعي إليه، وإن فحُش فهو ظاهرة سيئة، على الجميع التصدي لها، والحد من فشوها، خاصة إذا كثر المشتبه في عدم نزاهتهم، وأمانتهم. وههنا ثلاث مسائل ينبغي بيانها:
- المسألة الأولى: حكم سؤال الناس، ومن يجوز له ذلك.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: يجوز سؤال الناس شيئاً من المال للمحتاج الذي لا يجد ما يكفيه، ولا يقدر على التكسب، فيسأل الناس مقدار ما يسد حاجته فقط. وأما غير المحتاج، أو المحتاج الذي يقدر على التكسب: فلا يجوز له المسألة، وما يأخذه من الناس في هذه الحالة، حرام عليه؛ لحديث قبيصة بن مخارق الهلالي -رضي الله عنه- قال: تحملتُ حمالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها" ثم قال: "يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال: سدادا من عيش- ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش- أو قال: سداداً من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة، فسحت يأكلها صاحبها سحتاً" رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. وحديث: "من سأل الناس تكثراً، فإنما يسأل جمراً". وحديث: "إن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مِرَّة سوي" رواه الخمسة إلا ابن ماجه والنسائي. والواجب: مناصحته، وعلى العلماء بيان هذا للناس في خطب الجمعة وغيرها، وفي وسائل الإعلام. ونهر السائل المنهي عنه في قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} الضحى/ 10 المراد به: زجره، ورفع الصوت عليه، وهو يشمل السائل للمال، والسائل عن الأحكام الشرعية، لكن هذا لا يمنع إرشاد السائل المخطئ في سؤاله، ومناصحته بالحكمة، والموعظة الحسنة. اهـ.
وجاء في (الموسوعة الفقهية): يحرص الإسلام على حفظ كرامة المسلم، وصون نفسه عن الابتذال، والوقوف بمواقف الذل والهوان، فحذر من التعرض للصدقة بالسؤال، أو بإظهار أمارات الفاقة، بل حرم السؤال على من يملك ما يغنيه عنها من مال، أو قدرة على التكسب، سواء كان ما يسأله زكاة، أو تطوعا أو كفارة، ولا يحل له أخذ ذلك إن أعطي بالسؤال، أو إظهار الفاقة.
قال الشبراملسي: لو أظهر الفاقة، وظنه الدافع متصفا بها، لم يملك ما أخذه؛ لأنه قبضه من غير رضا صاحبه، إذ لم يسمح له إلا على ظن الفاقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته خموش، أو خدوش، أو كدوح. قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما، أو قيمتها من الذهب". وعنه صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت، فاسأل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله". وقال عليه الصلاة والسلام: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه". أما إن كان محتاجا إلى الصدقة، وممن يستحقونها لفقر، أو زمانة، أو عجز عن الكسب، فيجوز له السؤال بقدر الحاجة، وبشرط أن لا يذل نفسه، وأن لا يلح في السؤال، أو يؤذي المسؤول، ولم يعلم أن باعث المعطي الحياء من السائل، أو من الحاضرين، فإن كان شيء من ذلك، فلا يجوز له السؤال وأخذ الصدقة، وإن كان محتاجا إليها، ويحرم أخذها، ويجب ردها إلا إذا كان مضطرا بحيث يخشى الهلاك إن لم يأخذ الصدقة، لحديث: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه". فإن خاف هلاكا، لزمه السؤال إن كان عاجزا عن التكسب. فإن ترك السؤال في هذه الحالة حتى مات، أثم؛ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، والسؤال في هذه الحالة في مقام التكسب؛ لأنها الوسيلة المتعينة لإبقاء النفس، ولا ذل فيها للضرورة، والضرورة تبيح المحظورات كأكل الميتة. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة، الفتوى رقم: 128786.
- المسألة الثانية: من لا يمارس عملا، ويمتهن سؤال الناس، وله من ذلك أموال طائلة. فلا يستحق العطاء، ولا يحل له، ولاسيما إن أخذه بإظهار الفقر والحاجة، فأعطاه من أعطاه يظنه محتاجا، وهو ليس كذلك. ومثل هذا لا يبعد الحكم بوجوب الامتناع عن تلبية دعوته، وقبول هديته، إن لم يكن له مال غير هذا المال المأخوذ بغير حق. كما صرحوا بذلك في أشباهه، كالذي يأخذ المال بسيف الحياء.
قال ابن حجر الهيتمي في (الفتاوى الفقهية الكبرى): قد صرح الأئمة في المهدِي حياء، ولولا الحياء لما أهدى، أو خوف المذمة، ولولا خوفها لما أهدى: بأنه يحرم أكل هديته؛ لأنه لم يسمح بها في الحقيقة، وكل ما قامت القرينة الظاهرة على أن مالكه لا يسمح به، لا يحل تناوله. اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 133268.
- المسألة الثالثة: السعي في جمع الصدقات للفقراء، أمر محمود من حيث الأصل، ولكن ينبغي أن يكون ذلك بحيث لا يكون المرء محل شبهة وتهمة؛ لأن صيانة العرض، والبعد عن مواطن الريبة، أمر متأكِّد، وحماية الناس من سوء الظن، والاتهام بغير حق، أبعد للجميع عن معصية الله تعالى. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات، استبرأ لدينه، وعرضه .. الحديث رواه البخاري ومسلم.
قال الخطابي في (معالم السنن): قوله "من اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه" أصل في باب الجرح والتعديل، وفيه دلالة على أن من لم يتوق الشبهات في كسبه ومعاشه، فقد عرض دينه وعِرْضَه للطعن، وأهدفهما للقول. اهـ.
وقال ابن رجب في (جامع العلوم والحكم): معنى استبرأ: طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين، والعرض: هو موضع المدح والذم من الإنسان، وما يحصل له بذكره بالجميل مدح، وبذكره بالقبيح قدح ... فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها، فقد حصن عرضه من القدح والشين الداخل على من لا يجتنبها، وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات، فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن، كما قال بعض السلف: "من عرض نفسه للتهم، فلا يلومن، من أساء به الظن" ... وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض، ممدوح، كطلب البراءة للدين، ولهذا ورد أن: "ما وقى به المرء عرضه، فهو صدقة" .. اهـ.
ولا يشك أن من يأخذ الزكوات والصدقات، تم يصرفها في غير ووجها الشرعي، لا شك أنه خائن أكال للسحت، وقد باء بإثم عظيم، وعلى المعطي والمزكي خاصة، أن يحتاط في معرفة من يعطيهم، وأنهم أهل لذلك.
والله أعلم.