خواطر قرآنية« سورة السجدة» ( 27-30 ) - خواطر قرآنية (سورة السجدة) - أيمن الشعبان
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
أَقَامَ تَعَالَى الْحُجَّةَ عَلَى الْكَفَرَةِ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُهْلِكُوا، ثُمَّ أَقَامَهَا عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ قُدْرَتِهِ وَتَنْبِيهِهِمْ عَلَى الْبَعْثِ.
في الآية السابقة حدثنا الله عن الخراب والدمار والانتقام والإهلاك، وفي هذه التي معنا الحديث عن وجه رحمته ونعمته ومنته وآلائه وفضائله العظيمة.
وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة، فقال سبحانه { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ } .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ لَمَّا بَيَّنَ الْإِهْلَاكَ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ بَيْنَ الْإِحْيَاءِ لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِيَدِ اللَّهِ، وَالْجُرُزُ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ} : يُبَيِّنُ تَعَالَى لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ فِي إِرْسَالِهِ الْمَاءَ إِمَّا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ السَّيْحِ، وَهُوَ: مَا تَحْمِلُهُ الْأَنْهَارُ وَيَنْحَدِرُ مِنَ الْجِبَالِ إِلَى الْأَرَاضِي الْمُحْتَاجَةِ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ.
يقول ربنا سبحانه { فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ.
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا.
ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا.
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا.
وَعِنَبًا وَقَضْبًا.
وَزَيْتُونًا وَنَخْلا.
وَحَدَائِقَ غُلْبًا.
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا.
مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ }.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ.
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ.
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: 33-35] .
أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكروا ولم يروا اى لم يعلموا بل قد علموا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ.
{أو لم} أي أيقولون في إنكار البعث: إذا ضللنا في الأرض، ولم {يروا أنا} بما لنا من العظمة {نسوق الماء} من السماء أو الأرض.
{نَسُوقُ الْمَآءَ} بالمطر والثلج أو بالأنهار والعيون.
واختير المضارع في قوله نسوق لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على القدرة الباهرة، الدالّ على التجدّد والاستمرار، ففي كل الأوقات يسوق الله السحب، فينزل منها المطر على الأرض (الجرز).
السَّوْق: حَثٌّ بسرعة ..
ومعلوم أن السَّوْق يكون من الوراء، على خلاف القيادة، فهي من الأمام، فالذي تسوقه تسوقه وهو أمامك.
والسوق يكون تارة للسحاب كما في قوله سبحانه {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} ، إذ تسوق الرياح السحاب فتنقله إلى حيث يأمرها الله، ثم يسوق الماء من السحاب بإنزاله إلى الأرض، ثم يساق إلى الأنهار، ويسلكه ينابيع في الأرض.
والْجُرُزِ الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش والغيظ، ومنه قيل للأكول جروز.
ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز.
وكلمة جرز فيها قوة، تتناسب مع مادة السورة وموضوعها اليقين والخضوع.
والماء: ماء المزن، وسوقه إلى الأرض هو سوق السحاب الحاملة إياه بالرياح التي تنقل السحاب من جو إلى جو فشبهت هيئة الرياح والسحاب بهيئة السائق للدابة.
تَأْكُلُ مِنْهُ من الزرع.
أَنْعامُهُمْ كالتين والورق.
وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والثمر.
أَفَلا يُبْصِرُونَ فيستدلون به على كمال قدرته وفضله.
{زرعاً} أي نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب الذي كان زرعاً قبل هذا.
وَخَصَّ الزَّرْعَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَالْعُشْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فِي الطِّبِّ وَغَيْرِهِ، تَشْرِيفًا لِلزَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَا يُقْصَدُ مِنَ النَّبَاتِ، وَأَوْقَعَ الزَّرْعَ مَوْقِعَ النَّبَاتِ.
قَدَّمَ الْأَنْعَامَ عَلَى الْأَنْفُسِ فِي الْأَكْلِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الزَّرْعَ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ يَصْلُحُ لِلدَّوَابِّ وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِنْسَانِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ غِذَاءُ الدَّوَابِّ وَهُوَ لَا بُدَّ مِنْهُ.
وَأَمَّا غِذَاءُ الْإِنْسَانِ فَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَكَأَنَّ الْحَيَوَانَ يَأْكُلُ الزَّرْعَ، ثُمَّ الْإِنْسَانُ يَأْكُلُ مِنَ الْحَيَوَانِ.
الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ ذَوَاتِ الدَّوَابِّ وَالْإِنْسَانُ يَأْكُلُ بِحَيَوَانِيَّتِهِ أَوْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَمَالُهُ بِالْعِبَادَةِ.
أَوْ بَدَأَ بِالْأَدْنَى ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الْأَشْرَفِ، وَهُمْ بَنُو آدَمَ.
وَجَاءَتِ الْفَاصِلَةُ: أَفَلا يُبْصِرُونَ، لِأَنَّ مَا سَبَقَ مَرْئِيٌّ، وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهُ مَسْمُوعٌ، فَنَاسَبَ: أَفَلا يَسْمَعُونَ.
ولما كانت هذه الآية مبصرة، وكانت في وضوحها في الدلالة على البعث لا يحتاج الجاهل به في الإقرار سوى رؤيتها قل: {أفلا يبصرون} إشارة إلى أن من رآها وتبه على ما فيها من الدلالة وأصر على الإنكار لا بصر له ولا بصيرة.
أَفَلا يُبْصِرُونَ الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره الا يلقون انظارهم فلا يبصرون ما ذكرنا فيستدلون به على كمال قدرتنا وفضلنا وعلى انا قادرون على بعثهم بعد الموت .
أَوَلَمْ يَرَوْا ولم يبصروا أولئك المعاندون المنكرون على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا واختيارنا أَنَّا من مقام لطفنا وجودنا كيف نَسُوقُ الْماءَ بالتدابير العجيبة والحكم البديعة في تصعيد الابخرة والادخنة وتراكم السحب منها وتقاطر المطر من فتوقها وخلالها إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي قد انقطع نباتها من غاية يبسها وجمودها فَنُخْرِجُ بِهِ اى بالماء الذي سقنا إليها منها زَرْعاً وأنواعا من الأوراق والحبوب تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ أوراقه وتبنه وَأَنْفُسُهُمْ حبوبه وثمرته أَفَلا يُبْصِرُونَ أولئك المصرون المنكرون هذه القدرة العجيبة فيستدلوا بها على قدرتنا الكاملة وحكمتنا البديعة البليغة البالغة.
أَفَلا يُبْصِرُونَ أي ألا ينظرون فلا يبصرون ذلك فيستدلون به على وحدته وكمال قدرته وفضله تعالى وانه الحقيق بالعبادة وان لا يشرك به بعض خلقه من ملك وانسان فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع وايضا فيعلمون انا نقدر على اعادتهم واحيائهم.
أَفَلا يُبْصِرُونَ، فيستدلون به على قدرته على إحياء الموتى؟
أفلا يبصرون هذه النعم ويشكرون المنعم، ويوحدونه لكونه المنفرد بإيجاد ذلك.
{أفلا يبصرون} تلك المنة، التي أحيا الله بها البلاد والعباد، فيستبصرون فيهتدون بذلك البصر، وتلك البصيرة، إلى الصراط المستقيم، ولكن غلب عليهم العمى، واستولت عليهم الغفلة ، فلم يبصروا في ذلك، بصر الرجال، وإنما نظروا إلى ذلك، نظر الغفلة، ومجرد العادة، فلم يوفقوا للخير.
من هداية الآية:
كمال وعظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وقيوميته على الخلق من قوله " نسوق".
هذه آية نشاهدها جميعاً، لكن المراد هنا مشاهدة تمعُّن وتذكّر وعظة وتعقُّل، نهتدي من خلالها إلى قدرة الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
في الآية السابقة والتي معنا تذكرة بليغة في الموت والحياة، فكما أن الأرض تموت ثم تحيا بالماء، كذلك أنت يا إنسان ستموت وتفارق الدنيا ، ثم يبعثك الله مرة أخرى لتقف بين يدي الله سبحانه في مشهد عظيم للحساب.
يصور لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية مشهد عجيب لكمال قدرته وتمام تدبيره، فكأن الرياح تسوق السحاب كالسائق للدابة، ثم ينزل الماء منها إلى الأرض الجرز!
نعم الله ومننه علينا كثيرة وعظيمة، وهنا يذكرنا منها إحياء الأرض التي مات نباتها أو يبس، للنتفع من ثمرها وحبها.
في الآية إشارة وتشبيه القلوب القاسية التي لا تنتفع بالمواعظ والآيات، بالأرض الجرز التي لا نبات فيها فهي ميتة كالقلب القاسي ميت.
قال ابن عطاء فى الآية نوصل بركات المواعظ الى القلوب القاسية المعرضة عن الحق فتتعظ بتلك المواعظ.
من تمام رحمة الله بنا أن جعل الأرض عبارة عن خزان كبير للماء، حتى نجده عند فقده لا أن نفقده عن وجوده!
ينبغي لطالب الحق ومنشد الاستقامة الاجتهاد في العبادات والطاعات، فكما أن الأرض الميتة تحتاج للماء باستمرار حتى تنبت وتحيا، كذلك القلب يحتاج للعبادة الدائمة حتى ينتعش ويحيا.
فرق بين قلب ميت لا تنفع فيه موعظة ولا تذكرة، كالأرض السبخة التي لا تنبت نباتا البتة، وهنا مصداق قوله تعالى {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} ، وبين قلب ضعيف الإيمان لو ذكرته ذكر، وزجرته انزجر، وكررت عليه الموعظة استجاب وتذكر، كالأرض الجرز.
أهمية تخول الناس بالموعظة وعدم تركهم غافلون لاهون ساهون، فكما أن الأرض الجرز تحتاج للماء، فالعصاة والمبتعدون عن صراط الله يحتاجون للموعظة من العلماء والدعاء والوعاظ.
تشير الآية إلى أهمية شكر النعم، بعد مشاهدتها والنظر إليها والاعتبار الذي ينتج عنه بصيرة، ثم شكر لله على نعمائه، بطاعته وامتثال أوامره.
أهمية النظر لنعم الله المشاهدة وعجيب صنعه ومخلوقاته وإتقانه، فإنها ترقق القلب وتثبت الإيمان بعد التأمل والتفكر والتدبر.
27- رمضان - 1435هـ