عنوان الفتوى : كيف نجمع بين قوله تعالى (إذا الشمس كورت) ودنو الشمس من الرؤوس؟
قال الله تعالى في كتابه (اذا الشمس كورت) وهذه إحدى علامات انتهاء الحياة الدنيا بأن الشمس تكور وتلقى في جهنم ثم يأتي حديث أن يوم القيامة تدنو الشمس من الخلائق مقدار ميل.....كيف ذلك هل الله يخلق شمس ثانية...كيف نجمع ذلك؟
الحمد لله.
أولًا:
الزمان في الآخرة يختلف عن الزمان في الدنيا.
اعلم أن يوم القيامة ليس كأيام الدنيا، بل هو يوم طويل، تحدث فيه أمور متعددة، وما يبدو للإنسان من أمور تحدث يوم القيامة، ويكون بينهما في ذهن الناظر تعارض ليس بتعارض في الحقيقة، بل: مرجعه إلى طول اليوم، وتعدد مواقفه، فما يحدث في موقف، وحال، لا يلزم أن يكون هو ما يحدث في غيره.
انظر جواب السؤال: (146979).
ثانيًا:
تفسير قوله تعالى (إذا الشمس كورت)
قولُه تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ؛ أي: إذا جُمع جِرمُ الشمس، وذهب ضوؤها، فأُلقيت في النار، وقد "عبَّر السلف عن التكوير بالعبارات الآتية:
- ذهبت، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، والضحَّاك من طريق عبيد، وقال مجاهد من طريق أبي يحيى: اضمحلَّت وذهبت، وقال سعيد بن جبير من طريق جعفر: غُوِّرت.
- ذهب ضوؤها، وهو قول أبي بن كعب من طريق أبي العالية، وقتادة من طريق شعبة، وقال ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: أظلمت.
- رُمي بها، وهو قول الربيع بن خثيم، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وفي رواية أخرى من طريق إسماعيل: نُكِّسَت.
وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين: ذهابها بذاتها، يلحقه ذهاب ضوئها، ورميها.
وعلى هذه التفاسير يكون التكوير محتملاً لهذين الأمرين، ويربط بينهما أنهما من الأحوال التي تَمُرُّ بها الشمس في ذلك اليوم، فجاءت هذه اللفظةُ الواحدةُ دالةٌ على هذه المعاني.
قال ابن جرير الطبري: «والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: كُوِّرت كما قال الله جل ثناؤه، والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض، وذلك كتكوير العمامة، وهو لَفُّهَا على الرأس، وكتكوير الكَارَةِ، وهي جَمْعُ الثيابِ بعضها إلى بعض ولفِّها، وكذلك قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إنما معناه: جُمِعَ بعضُها إلى بعض، ثم لُفَّت، فرُمي بها، وإذا فُعل ذلك بها ذهب ضوؤها.
فعلى التأويل الذي تأوَّلناه وبينَّاه لكِلا القولين اللذَينِ ذكرتُ عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كوِّرت ورُمي بها ذهب ضوؤها».
وعلى هذا الترجيح من الطبري يزيد معنى اللفِّ والجمع، ولم أجِدْهُ لأحدٍ من السلف قبل الطبري، وهو مستنبَطٌ من المعنى اللغويِّ للتكوير، كما أنَّ من قال: رُمي بها، فإنه مأخوذٌ من معنًى لغويٍّ آخر في مادة التكوير، تقول: كوَّرتُ الرجلَ؛ أي: طرحتَه في الأرض، وقد ورد في الحديث: الشمسُ والقمرُ ثورانِ مكوَّران في النار.
وهذا يشهد لهذا المعنى التفسيري، ويزيد عليه بيانَ مآلِ الشمس. أمَّا من فسَّرها بذهبت واضمحلَّت فإن ذلك لازمُ لفِّها كما ذكر الطبري، وإذا ذهبت ذهبَ ضوؤها، والله أعلم"، انتهى، "تفسير جزء عم"، مساعد الطيار: (63).
وسورة التكوير تتحدث عن علامات تحدث يوم القيامة، ومنها: تكوير الشمس، وهذه الأمور كلها تحدث للشمس يوم القيامة.
ثالثًا:
أحوال الشمس يوم القيامة
للشمس يوم القيامة أحوال متعددة، فقد ورد أنها تدنو من العباد في الحشر، ثم تلقى في جهنم بعد ذلك عذابًا لأهلها، ودليل هذا ما رواه "البخاري" (3340) "مسلم" (194): يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضى الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رواه البخاري (3200)، ورواه البزار (15 / 243) بلفظ: إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1 / 242).
قال "ابن عجيبة": "الشمس تدنو من الناس في الحشر، فإذا فرغ من الحساب كُوِّرت." انتهى من "البحر المديد" (7/ 248).
وعلى ذلك يكون تكويرها، ورميها في النار: إنما يكون في آخر الأمر، بعد أن تكون في أولها على حال من الدنو، من رؤوس العباد؛ وهذا أمر ظاهر لا إشكال فيه، فإن دنو الشمس من العباد إنما ذكر في حديث الشفاعة الكبرى يوم القيامة، حين يبلغ العباد من الشدة والكرب ما الله به عليم، ثم يأذن الله لنبيه الكريم أن يقوم مقام الشفاعة العظمى، فيشفع عند الله أن يقضي بين عباده، ويريحهم من كرب الموقف.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ... ، فذكر الحديث بطوله، إلى أن قال:
فَيَأْتُونِّي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! أَدْخِلْ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاب الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ... رواه البخاري (4712) ومسلم (194).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (21672).
قال الشيخ "ابن عثيمين" رحمه الله، في الجواب عن هذا السؤال: "ورد في يوم القيامة أشياء متغايرة، ولكننا نسأل كم مقدار يوم القيامة؟ خمسون ألف سنة، تتغير فيها الأمور؛ تدنو الشمس من الخلائق، وتكور بعد ذلك، وكذلك أيضاً تلقى في النار إهانة لعابديها، فيوم القيامة ليس يوماً أو شهراً أو سنة، وانظر إلى قول الله تبارك وتعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، وقوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه:102] واختلاف بين الزرقة والسواد، كذلك أيضاً أخبر عن المشركين أنهم يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، وفي آية أخرى قال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42]، فهم في الأول قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] في الآية الأولى، وفي الثانية قال: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً لأن الحوادث تتغير؛ مرة يوقفون ومرة لا يوقفون، فكل ما أتاك من اختلافات في اليوم الآخر، فإنما ذلك لطول مدته وتغير الأحوال فيه." انتهى من "دروس الحرم المدني" (6/ 15).
رابعا:
متى يكون تكوير الشمس؟
ما تقدم تقريره هو على اعتبار أن تكوير الشمس المذكور في أول سورة "التكوير"، هو نفس التكوير المذكور في حديث: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وقد سبق بيان من قال بذلك من أهل العلم، وتوجيه الإشكال في السؤال على هذا القول.
ونزيد هنا بيانا لهذا الإشكال: أن جمعا من أهل العلم قد حمل التكوير المذكور في أول السورة الكريمة، على أنه من الأهوال العظام التي تكون بين يدي الساعة، والعلامات الكبرى على قيام القيامة، واختلال نظام الكون، ونواميسه التي كان عليها؛ كما في السورة بعدها – سورة الانفطار – من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار النجوم وزوالها عن أماكنها، وغير ذلك من الأحوال والأهوال العظام التي تكون بين يدي الساعة.
وعلى هذا التفسير؛ فالإشكال غير وارد من أصله، فإن تكوير الشمس لا يكون في يوم القيامة، بل يكون بين يدي الساعة، ولا يكون قد حصل لها التكوير والإلقاء في النار، بل يسبق ذلك أن تدنو من رؤوس العباد، إذا قامت القيامة فعلا.
جاء في تفسير "الهداية" (12/8073) لمكي: " قال أبو العالية: حدثني أبي بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، وبينا هم كذلك إذ تناثرت النجوم، وبينا هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت، وفزعت الجن إلى الإنس، والإنس إلى الجن، واختطلت الدواب والطير والوحوش، وماج بعضهم في بعض.. " انتهى.
وقال العلامة الطاهر ابن عاشور، رحمه الله: "وقد ذكر في هذه الآيات اثنا عشر حدثا؛ فستة منها تحصل في آخر الحياة الدنيوية، وستة منها تحصل في الآخرة.".
ثم ذكر أن أول أحداث يوم القيامة هو: "وإذا النفوس زوجت".
انظر: "التحرير والتنوير" (30/141)، وينظر أيضا: البحر المحيط، لأبي حيان (10/414).
وقد سئل الشيخ صالح آل الشيخ: "في سورة التكوير إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1] إلى آخره، هل هذه الآيات بعد البعث وقيام أهل القبور أم قبله؟ وكيف الجمع مع قوله وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ [التكوير:4]؛ الْعِشَارُ معناها الإبل التي قَرُبَ حملها، فهل هي لم تتم أم ماذا؟".
فأجاب: " هذه التغيرات التي تحدث في ملكوت الله - عز وجل - في الأرض وفي السماء، وتفجير البحار وانشقاق السماء، وما يحدث مما في القرآن كثير، أو ذكر كثير من الآيات في هذا الباب= هذا، على الصحيح: أنه يحدث بين النفختين، بين النفخة الأولى التي هي نفخة الصعق، والنفخة الثانية التي هي نفخة البعث؛ فبين النفختين تحدث هذه الأشياء، والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: مَا بَيْنَ النّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ !! قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْماً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْراً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وكل شيء يَبْلَىَ من ابن آدم إلا عَجْبُ الذّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ وذلك لأنَّ السماء تُمْطِرُ يوم القيامة في هذه الأربعين مطرَاً كمني الرّجال، مُشَبَّهْ بذلك، تنبت منه أجساد الناس،، فإذا نبتت الأجساد، وانشقت الأرض وأخرجت أثقالها؛ يعني من المدفونين، في هذه الفترة: الأرض تغيرت، الجبال سُيَّرَتْ والسماء تغيرت، وبُدِّلَتْ الأرض غير الأرض والسماوات، يعني صار الأمر أمراً جديداً ليس هو المألوف، لا الأرض هي الأرض، ولا السماء هي السماء، السماء الآن تستعد لنزول الله - عز وجل - لفصل القضاء، والأرض كذلك، فيستوي من دُفن وراء الجبال ومن دفن في ساحل البحر، كلهم يستوون، الأرض سيرت جبالها وتغيرت، فيسيرون سيراً واحداً." انتهى، من "شرح الطحاوية"
والله أعلم.