عنوان الفتوى : الفرق بين مقدار اليوم عند الله عز وجل ومقدار يوم القيامة
يقول الله سبحانه وتعالى : ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) في سورة المعارج ، وفي سورة السجدة ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) ، فهل من توضيح ؟
الحمد لله
أولا :
الآيات الواردة في بيان قدر اليوم عند الله عز وجل نوعان :
النوع الأول : آيات تتحدث عن يوم القيامة وهوله ، وما يكون فيه من أحداث عظام ، وآيات باهرة ، وأنَّ مِن أهواله طول ذلك اليوم بما يعادل خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، وهذه الآية هي الآية الرابعة من سورة المعارج ، حيث يقول الله عز وجل : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ . لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ . تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ . فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا . إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا . وَنَرَاهُ قَرِيبًا . يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ . وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ . وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ) المعارج/1-10.
ويدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ )
رواه مسلم (رقم/987)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :
" هذا يوم القيامة ، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة " انتهى.
رواه الطبري في " جامع البيان " (23/602)
والنوع الثاني : آيات لا تتحدث عن طول يوم القيامة ، وإنما تتحدث عن طول الأيام التي عند الله عز وجل ، وقدرها بالنسبة لأيام الدنيا التي نعدها ، وهي الأيام التي يحدث الله فيها الخلق والتدبير ، فبيَّن سبحانه وتعالى أن اليوم عنده يساوي ألف سنة من أيامنا هذه ، وقد جاء ذلك في سورة الحج ، في الآية السابعة والأربعين ، حيث يقول تعالى : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ )
وجاء أيضا في سورة السجدة ، في الآية الخامسة ، حيث يقول عز وجل : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ . ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) السجدة/4-6.
ويظهر واضحا من سياق الآيتين هنا أن الحديث فيها عن أيام الله التي يكون فيها خلقه وتدبيره ، فوصفها عز وجل بأن مقدارها يبلغ ألف سنة من أيام الدنيا .
وبهذا يتبيَّن أن النوعين السابقين من الآيات إنما تتحدث عن " أيام " مختلفة، وليست " أياما " واحدة ، فاليوم في آية المعارج هو يوم القيامة ، ومقداره خمسون ألف سنة ، وأما اليوم في آيتي الحج والسجدة فهو اليوم عند الله الذي يدبر فيه الأمور ، ومقداره ألف سنة .
ويدل على ذلك التفريق بين اليومين ما رواه عبد الله بن أبي مليكة : أن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله عز و جل : (و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) فقال : من أنت ؟ فذكر له أنه رجل من كذا و كذا ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ فقال الرجل : رحمك الله إنما سألتك لتخبرنا . فقال ابن عباس : يومان ذكرهما الله عز و جل في كتابه ، الله أعلم بهما .
فكره أن يقول في كتاب الله بغير علم .
رواه الحاكم في مستدركه (4/652) وصححه .
فبين ابن عباس رضي الله عنهما للسائل أنهما يومان ذكرهما الله في كتابه ، وهذا موطن الشاهد من قوله ، وإن كان تورع عن تحديد اليومين ، رضي الله عنه .
قال ابن حزم رحمه الله :
" يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ، قال تعالى : ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المعارج/4 وبهذا أيضا جاءت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما الأيام التي قال الله تعالى فيها أن اليوم منها ألف سنة فهي أُخَر .
قال تعالى : ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) السجدة/5، وقال تعالى : ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) الحج/47.
فهي أيام أخر بنص القرآن ، ولا يحل إحالة نص عن ظاهره بغير نص آخر أو إجماع بيقين " انتهى باختصار.
" الفصل في الملل " (3/77) .
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن سبيل الجمع بين الآيات السابقة فأجاب :
" قبل الإجابة على هذا السؤال أود أن أبين أنه ليس في كتاب الله ، ولا في ما صح عن رسول صلى الله عليه وسلم ، تعارض أبداً ، وإنما يكون التعارض فيما يبدو للإنسان ويظهر له ، إما لقصور في فهمه ، أو لنقص في علمه ، وإلا فكتاب الله وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم ليس فيهما تعارض إطلاقاً ، قال الله تعالى : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً )
فإذا بدا لك أيها الأخ شيء من التعارض بين آيتين من كتاب الله ، أو حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بَيْن آية وحديث : فَأَعِد النظر مرة بعد أخرى ، فسيتبين لك الحقُّ ووجهُ الجمع ، فإن عجزت عن ذلك فاعلم أنه إما لقصور فهمك ، أو لنقص علمك ، ولا تتهم كتاب الله عز وجل ، وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، بتعارضٍ وتناقض أبدا .
وبعد هذه المقدمة أقول :
إن الآيتين اللتين أوردهما السائل في سؤاله - وهما قوله تعالى في سورة السجدة : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) وقوله في سورة المعارج : ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) الجمع بينهما : أن آية السجدة في الدنيا ، فإنه سبحانه وتعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم ، كان مقدار هذا اليوم - الذي يعرج إليه الأمر - مقداره ألف سنة مما نعد ، لكنه يكون في يوم واحد ، ولو كان بحسب ما نعد من السنين لكان عن ألف سنة ، وقد قال بعض أهل العلم إن هذا يشير إلى ما جاء به الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام ( أن بين السماء الدنيا والأرض خمسمائة سنة ) فإذا نزل من السماء ثم عرج من الأرض فهذا ألف سنة .
وأما الآية التي في سورة المعارج ، فإن ذلك يوم القيامة كما قال تعالى : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ . تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ )
وقوله : ( في يوم ) ليس متعلقاً بقوله تعالى : ( الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ، لكنه متعلق بما قبل ذلك .
وقوله ( لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ . مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ . تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) هي جملة معترضة .
وبهذا تكون آية المعارج في يوم القيامة ، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة في قصة مانع الزكاة أنه يحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
فتبين بهذا أنه ليس بين الآيتين شيء من التعارض لاختلاف محلهما والله أعلم " انتهى باختصار.
" فتاوى نور على الدرب " (علوم القرآن والتفسير/سورة السجدة) .
وهذا هو اختيار العلامة محمد رشيد رضا في " تفسير المنار " (8/396) .
وفي المسألة أقوال أخرى لم نشأ الإطالة بها كي لا يختلط الأمر على القارئ ، وإنما اخترنا أوجَه الأقوال وأقواها ، ومن أراد المزيد فليرجع إلى : " تفسير القرطبي " (14/89)، " تفسير القرآن العظيم " (8/221-224) " أضواء البيان " (278-280) .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |