عنوان الفتوى : أيهما يقدم دين المتوفي أم النذر
مات رجل وعليه نذْرُ مالٍ ودَيْن فأيُّهما يُفَضَّل سدادُه أولًا مِن تَرِكَتِهِ؟
الحمد لله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
يجب وفاء الدين من ترك المتوفى أولا قبل تقسيم التركة، ثم بعد ذلك يؤدى عنه النذر والوصية ثم تقسم التركة، فإن تعارض الدين مع النذر قدم الدين لأنه من حقوق العباد وهي مبنية على المشاحاة، والله غفور رحيم قد يسامح في حق.
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر -رحمه الله-في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام :
الحقوق الواجب على الإنسان أن يؤدِّيَها لغَيْرِه نوعان، حقوق لله وحقوق للعباد، وقد تكون الحقوق مُتَدَاخلة، فيها نصيب لله ونصيبٌ للعباد، وقد تكون خالصة لطرف دون طرف ولو على نَحْو من الأنْحاء، غير أن أساس هذا التقسيم هو الغالب فيما يبدو للنَّاس. ومهْما يكن من شيء فإن الحق الخالص لله كالصلاة مثلًا يكون التقصير فيه تقصيرًا ليس للعباد دَخل فيه، ويُعْتَبر دَيْنًا يجب قضاؤه إن كان له مِثْل أو عِوَض، أو يَطلب المغفرة من الله، والله سبحانه واسع الرحمة عظيم المغفرة : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [سورة الزمر:53] (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء: 48].
أمَّا الحقوق الخالصة للعباد أو يكون ظاهرها أنها خالصة وإن كان فيها حق لله؛ لأنه هو الذي شرعها، فإن الله سبحانه لا يتجاوز عن التقصير فيها، بل لا بُدَّ من أدائها للطرف الآخر أو طلب العفو عنها منه، وذلك كَمَالِ المَسْرُوقِ والأمانة التي خانها وكالسَّبِّ والضَّرْب، فلا بدَّ من إبراء الذِّمَّة بدفع الحقوق أو العفو عنها، ومع ذلك لا بد من التوبة إلى الله والاستغفار؛ لأنه خالف أمره بالتقصير، والتوبة إلى الله بدون أداء الحقوق إلى أصحابها أو مسامحتهم غير مقبولة، وقد بيَّن الحديث الذي رواه مسلم أن المُفْلِس يوم القيامة من يأتي بالصلاة وغيرها من العبادات لكنه ضرب هذا وشتم هذا وسفك دمَ هذا، فيُعْطَى كلُّ مظلوم من حسنات الظالم فإذا لم تُوَفِّ طُرِح عليه من سيئاتهم ثم أُلْقِيَ في النَّار، وهذا يدل على أن حقوق العباد في الحُرْمَة مقدَّمة على حقوق الله واسع الفضل والرحمة.
وبناءً على ما تقدَّم لو تعلَّق بذمة الإنسان حقَّانِ مادِّيانِ : أحدهما لله، والثاني للعباد، ولا يَملِك إلا ما يُوفِّي واحدًا منهما قُدِّم حقُّ العباد على حق الله، فمَن كان عليه دَيْن لإنسان، وقبل أن يُؤدِّيه نَذَرَ بناء مسجد أو التصدُّق على الفقراء، والمال الذي عنده لا يَكْفي لقضاء الدَّيْن والوفاء بالنَّذْر، فالواجب أن يؤدِّي الدَّيْن أولًا، وأما النَّذْرُ فيكون الوفاء به عند القُدْرة التي لا توجَد إلا بعْد قضاء الدَّين والالْتزامات الأخْرى، والقُدْرة وقتها متَّسعٌ وعند نيَّة الوفاء يُرْجى عفو الله عند التعذُّر، فهو سبحانه واسع الرحمة والمغفرة.
والله أعلم.