عنوان الفتوى : الحكمة في خلق قوم يكفرون بالله وخلق جهنم لهم
شيخنا الفاضل: زادك الله علما. أريد أن أسأل عن شيء، وهو أن الله سبحانه وتعالى عظيم أكثر مما يعلم الإنسان؛ فإن الله سبحانه وتعالى صنع عالما مبهرا، والإنسان عندما ينظر لخلق الكون، يدله ذلك على مدى عظمة الله في خلق كون بقوانين محكمة، وأننا نعيش في نقطة، أو يمكن أقل من الذرة التي لا ترى بالعين في وسط هذا الخلق، ورحمته على قدر عظمته. عندما أفكر في خلق الله كالشمس والكون، أرتجف ارتجافا شديدا تكاد تتقطع له أعضاء بدني من عظمته، حيث إنني كنت سأسقط مغشيا علي من كثرة ما تأملت، وتوقفت عند ذلك؛ لأني لا أقدر على التحمل. سؤالي هو: ما حكمة الله في خلق الإنسان الجاحد، أو في خلقه للإنسان؟ إننا عندما ننظر لعظمة خلق الله، نجد بالفعل أن خلق السماوات أكبر بكثير، وأن الله كلم الإنسان في حدود عقله كالطفل بأبسط المعاني في القرآن، وأن الله ليس بحاجة لنا. فما الحكمة في خلق قوم يكفرون به، وخلق جهنم لهم، بل إن ذكر الله للإنسان في حد ذاته، أعلى من شأن هذا الذي لا يذكر في حجمه من خلقه، فمن هم أقوى وأكبر جاءوا ساجدين لله، بل يطيعون أمره منذ ملايين السنين في الفلك، ولا يتحرك كوكب واحد عن مداره الذي أمره الله به، ويأتي الإنسان الذي لا يذكر في حجمه بأبشع الأفعال، ويكفر بالذي لا يعرف عظمته؛ فإن الكرة الأرضية بما حولها بالمجرة، شيء لا يذكر في خلق الله، بل كأنها حبة رمل واحدة في صحراء؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد أشبعنا الكلام في فتاوى عدة في هذه القضية الكبرى -التي سألت عنها بقولك: (فما الحكمة في خلق قوم يكفرون به، وخلق جهنم لهم)
فراجع الفتاوى أرقام: 271957 ،31767 ، 183095 ،172571.
ونزيد هاهنا بنقل كلمات لابن القيم، فيها مزيد بيان لهذه المسألة الجليلة، وكشف لوجه الحق فيها.
فقد قال رحمه الله : يريد رحمه الله - يعني: أبا إسماعيل الهروي- بشهود العدل في هدايته من هداه، وفي إضلاله من أضله أمرين:
أحدهما: تفرده بالخلق، والهدى، والضلال.
والثاني: وقوع ذلك منه على وجه الحكمة والعدل، لا بالاتفاق، ولا بمحض المشيئة المجردة عن وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها، بل بحكمة اقتضت هدى من علم أنه يزكو على الهدى، ويقبله ويشكره عليه، ويثمر عنده، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته، أصلا وميراثا، قال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 53]. وهم الذين يعرفون قدر نعمته بالهدى، ويشكرونه عليها، ويحبونه، ويحمدونه على أن جعلهم من أهله، فهو سبحانه ما عدل عن موجب العدل والإحسان في هداية من هدى، وإضلال من أضل، ولم يطرد عن بابه، ولم يبعد عن جنابه من يليق به التقريب والهدى والإكرام، بل طرد من لا يليق به إلا الطرد والإبعاد، وحكمته وحمده تأبى تقريبه وإكرامه، وجعله من أهله وخاصته وأوليائه. ولا يبقى إلا أن يقال: فلم خلق من هو بهذه المثابة؟ فهذا سؤال جاهل ظالم، ضال، مفرط في الجهل، والظلم والضلال؛ لأن خلق الأضداد والمتقابلات هو من كمال الربوبية، كالليل والنهار، والحر والبرد، واللذة والألم، والخير والشر، والنعيم والجحيم. اهـ. من مدارج السالكين.
وقد ذكر ابن القيم أيضا جملة من الحِكم في خلق الله جل وعلا للكفر والعصيان، وعدم هداية الخلق جميعا للإيمان، ومن ذلك ما بينه - في كلام طويل عن حكمة خلق إبليس- إذ قال: ..أنه سبحانه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى. وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله، ويرضاه بكل طريق، وكل حيلة. فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى، مسخوط له. لعنه الله ومقته، وغضب عليه. ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى، ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.
منها: أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات - التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر- في مقابلة ذات جبريل، التي هي أشرف الذوات، وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير. فتبارك الله خالق هذا، وهذا. كما ظهرت لهم قدرته التامة في خلق الليل والنهار، والضياء والظلام، والداء والدواء، والحياة والموت، والحر والبرد، والحسن والقبيح، والأرض والسماء، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر. وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته، وسلطانه، وملكه. فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض. وسلط بعضها على بعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره، وحكمته. فخلو الوجود عن بعضها بالكلية، تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه، وتدبير مملكته.
ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، وشديد العقاب، وسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل. فإن هذه الأسماء والأفعال كمال. فلا بد من وجود متعلقها. ولو كان الخلق كلهم على طبيعة المَلَك، لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده. فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم.
ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة، والخبرة. فإنه سبحانه الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها. وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله غير منزله، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته، وخبرته. فلا يضع الحرمان والمنع، موضع العطاء والفضل. ولا الفضل والعطاء، موضع الحرمان والمنع. ولا الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به. فهو أعلم حيث يجعل رسالته. وأعلم بمن يصلح لقبولها. ويشكره على انتهائها إليه ووصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، ولا يستأهله. وأحكم من أن يمنعها أهلها، وأن يضعها عند غير أهلها. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له، لتعطلت هذه الآثار. ولم تظهر لخلقه، ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها. وفواتها شر من حصول تلك الأسباب. فلو عطلت تلك الأسباب - لما فيها من الشر- لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس، والمطر، والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف، أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر. فلو قدر تعطيلها - لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي - لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر، بما لا نسبة بينه وبينه.
فصل:
ومنها: حصول العبودية المتنوعة، التي لولا خلق إبليس لما حصلت، ولكان الحاصل بعضها، لا كلها. فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه. ولو كان الناس كلهم مؤمنين، لتعطلت هذه العبودية وتوابعها: من الموالاة فيه سبحانه، والمعاداة فيه، والحب فيه، والبغض فيه. وبذل النفس له في محاربة عدوه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الرب، على محاب النفس.
ومنها: عبودية التوبة، والرجوع إليه، واستغفاره. فإنه سبحانه يحب التوابين، ويحب توبتهم. فلو عطلت الأسباب التي يتاب منها، لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها.
ومنها: عبودية مخالفة عدوه، ومراغمته في الله، وإغاظته فيه. وهي من أحب أنواع العبودية إليه؛ فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه، ويسوءه. وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس.
ومنها: أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده وأذاه.
ومنها: أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه بمخالفته، وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية. فلا يخلدون إلى غرور الأمل بعد ذلك.
ومنها: أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته، الذي حصوله مشروط بالمعاداة والمخالفة. فأكثر عبادات القلوب، والجوارح مرتبة على مخالفته.
ومنها: أن نفس اتخاذه عدوا، من أكبر أنواع العبودية، وأجلها. قال الله تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر: 6] . فاتخاذه عدوا أنفع شيء للعبد، وهو محبوب للرب.
ومنها: أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث. وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد. فخلق الشيطان مستخرجا لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل. وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة، إلى الفعل. فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها، ليترتب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر، ليترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين، وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلوما له، مطابقا لعلمه السابق. وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] . فظنت الملائكة أن وجود من يسبح بحمده ويطيعه، ويعبده، أولى من وجود من يعصيه، ويخالفه. فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح، والغايات المحمودة في خلق هذا النوع، ما لا تعلمه الملائكة.
ومنها: أن ظهور كثير من آياته، وعجائب صنعه: حصل بسبب وقوع الكفر والشرك من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود، وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردا وسلاما، والآيات التي أجراها الله تعالى على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر كل آية منها في سورة الشعراء: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} [الشعراء: 8] . فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين، لما ظهرت هذه الآيات الباهرة، التي يتحدث بها الناس جيلا بعد جيل إلى الأبد.
ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضا، ويكسر بعضها بعضا: هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والحكمة التامة، والملك الكامل - وإن كان شأن الربوبية كاملا في نفسه، ولو لم تخلق هذه الأسباب- لكن خلقها من لوازم كماله وملكه، وقدرته وحكمته. فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة: تحقيق لذلك الكمال، وموجب من موجباته. فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات، من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه، وأقسامه، وغاياته.
وبالجملة: فالعبودية، والآيات، والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه، وتقديره ومشيئته: أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها، وتعطيلها بتعطيل أسبابها.
فإن قلت: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ قلت: هذا سؤال باطل؛ إذ هو فرض وجود الملزوم، بدون لازمه. كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب. اهـ.
إلى أن قال: اعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات، وأسبابها.
فإيجاد السبب خير. وهو إلى الله. وإعداده خير. وهو إليه أيضا. وإمداده خير. وهو إليه أيضا. فإذا لم يحدث فيه إعداد، ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل. وإنما إليه ضده.
فإن قلت: فهلا أمده إذ أوجده؟ قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده. فإنه -سبحانه- يوجد ويمده، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده: أوجده بحكمته، ولم يمده بحكمته. فإيجاده خير. والشر وقع من عدم إمداده. فإن قلت: فهلا أمد الموجودات كلها؟ قلت: فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة. وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها .اهـ. من مدارج السالكين.
والله أعلم.