عنوان الفتوى : خلق الإنسان وابتلاؤه واقترافه الذنوب.. شبهات متهافتة

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

سألني أحد اليابانيين سؤالا وكان نصرانياً ثم ارتد عن النصرانية بسبب هذا

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالنتيجة التي تُوصل إليها في السؤال نتيجة باطلة، لأنها بنيت على مقدمات فاسدة، وما بُني على باطل فهو باطل، وبيان ذلك في نقاط: الأولى: أن الكفر والمعاصي والأخطاء وما يترتب عليها من عقاب راجعة إلى مخالفة أمر الله ونهيه، وليس ذلك متعلقاً بالخلق والإيجاد، فإن الله خلق الإنسان سميعاً بصيراً قادراً، كما قال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان: 1-3]. فخلقه الله وهداه هداية بيان وإرشاد، فبين له طريق الخير وطريق الشر، ثم مكنّه من الاختيار، فأي إكرام للإنسان فوق هذا الإكرام، وأي احترام للإنسانية فوق هذا الاحترام، ولو أننا سألنا أكثر الخلق هل يحبون أن يكونوا في هذه الحياة مجبورين مقهورين لا يملكون إرادة ولا اختياراً، أو مختارين لهم القدرة والإرادة والاختيار لاختاروا الثاني، فإذا كان الأمر كذلك فكلٌ يتحمل نتيجة سلوكه، ويتحمل مغبة نقصه بعد أن خلقه الله كاملاً في أحسن تقويم، قال تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء:79]. فكل حسنة تصيب العبد من صحة وعافية ورزق في الدنيا والآخرة فهي محض فضل من الله. وكل سيئة تصيب العبد في الدنيا والآخرة فهي من نفسه، لأنه قد أوتي قدرة على العمل، واختياراً في تقدير الباعث عليه من درء المضار وجلب المنافع. النقطة الثانية: أنه قامت الأدلة القاطعة في خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان على حكمة الله وعلمه وتقديره، كما قال تعالى: (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ... إلى أن قال: ...ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت:9-12]. وقال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر:57]. فإذا اعتقد المؤمن وأيقن بحكمة الخالق جل وعلا وعلمه المحيط وقدرته التي لا يعجزها شيء، فيجب القول بموجب هذا الاعتقاد في كل ما يخلقه الله ويصفه، وفي كل ما يأمر به ويوجبه، وفي كل ما ينهى عنه ويحرمه، وإذا غابت عن العقل البشري الحكمة في جزئية من الجزئيات أو في صورة من الصور لم يكن ذلك مسوغاً لمخالفة تلك الأدلة القاطعة. والله تعالى خلق الخلق على هذه الصورة لحِكَم جليلة ظهر لنا بعضها ولم يظهر البعض الآخر، وقد سبقنا إلى هذا السؤال الملائكة، وأجيبوا جواباً قاطعاً لا يسعنا بعده إلا أن نتيقن حكمة الله، ونطمئن إلى تقديره، قال تعالى حاكياً عن الملائكة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30]. فإذا كانت الملائكة لا تعلم فمن باب أولى غيرهم، وليس في منطق العقل أن يحيط المحدود علماً وهو الإنسان المحدود بحدود الزمان والمكان بالمطلق وهو الله تعالى ذو العلم المطلق والقدرة المطلقة، أو يُعقِّب على حكمه. قال تعالى: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد:41]. النقطة الثالثة: أصل هذه الشبهة الفاسدة هو قياس الخالق على المخلوق، وأنه يجب عليه فعل كذا وكذا، وأن الأصح له كذا وكذا، ولا ينبغي له فعل كذا وكذا، وهذا القياس أصل كل بلية، ومنبع كل فساد، فالخالق غير المخلوق، والرب غير المربوب، فكيف يقال له: افعل، أو لا تفعل؟. وهذا ما رده القرآن وأبطله، فقال عن الله عز وجل: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23]. وقال: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفتح:14]. فالمالك القدير له أن يفعل في مملكته ما يشاء، وقد سبق أن أفعاله كلها حكمة، وكلها عدل ورحمة، فالاعتراض على خلقه وتقديره ضرب من الجنون. النقطة الرابعة: وهي تصحيح للفهم الخاطئ للآية الكريمة: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) [مريم:71]. فليس المراد من الورود المكث فيها، أو أنه يصيب المتقين من عذابها وحرها، وسواء قلنا إن الورود الدخول أو المرور، فإن الله يقول وهو أصدق القائلين: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [مريم:72]. فيجعلها عليهم برداً وسلاماً، كما جعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً في الدنيا، فمن ضمن الله له أن يبعد عن النار لا يضره الورود، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا...) [الأنبياء:101-102]. فعلم من هذا فساد ما ورد في السؤال من حتمية العذاب لكل أحد استدلالاً بهذه الآية. وأما حديث: "كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون" رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصحح إسناده. فحق؛ ولكن لا يلزم أن يُعذب كل خطاء، فرحمة الله وسعت كل شيء، والتائب من الخطأ حبيب الله، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة:222]. وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء:110]. والله أعلم.