عنوان الفتوى : شبهة حول الإيمان بالقدر والرد عليها
لدي مشكلة، وأخاف أن أموت قبل أن أجد لها حلا، أنا أصلي وأصوم. سؤالي هو: بما أن الله هو الذي يخلق العقول للناس، ويخلق البخل، والحسد، والتكبر. فلماذا بعض الناس يفكر بالفكر، والبعض الآخر يفكر بالإيمان، مع أن الله هو الذي يخلق العقل، ويخلق طريقة تفكيره، والله هو الذي يخلق التكبر. فلماذا يحاسب الإنسان على تكبره في الدين؟ وأفكر كثيرا: لماذا الله سبحانه وتعالى غفر للنبي محمد صلى الله عليه سلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، مع أن الله غسل قلبه، وجعله أفضل إنسان. فلماذا لم يغسل الله قلوب جميع الناس ليصبحوا مؤمنين؟ شكرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك، وأن يشرح للحق صدرك. ونوصيك بالضراعة إلى الله أن يلهمك رشدك، وأن يقيك شر نفسك، وشر الشيطان وشركه.
وأما سؤالك، فشقه الأول خاطئ من أساسه، إذ هو مبني على أن خلق الله لأفعال العباد، ينافي كونهم ذوي مشيئة، وإرادة، واختيار، وهذا باطل مخالف للكتاب، والسنة، والاجماع، فإثبات قضاء الله وقدره، المتضمن لمشيئته، وخلقه لأفعال عباده، لا يعني نفي إرادة العبد، وكسبه لعمله، كما لا يلزم من إثبات علم الله الأزلي، أن العبد مجبر على فعله، وقد تقدم لنا تفصيل ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 95359، 130894، 129808، 271957.
فإذا تقررت هذه الحقيقة -أن العباد لهم مشيئة واختيار-: تبين بطلان السؤال بمثل: (الله هو الذي يخلق التكبر، فلماذا يحاسب الإنسان على تكبره؟) ونحوه من الأسئلة؛ لأن العبد له إرادة، واختيار، وبمقتضى ذلك يحاسبه الله تعالى على أعماله.
وأما بقية السؤال، فحقيقته سؤال عن حكمة الله تعالى في المفاضلة بين خلقه في الهداية، والإنعام! وجواب ذلك في الأساس يقوم على التسليم، والإيمان بقيومية الله تعالى على خلقه، وكمال علمه، وتمام قدرته، وبلوغ حكمته، وقيام حجته، وأن الإحاطة بذلك، وإدراك أسراره وخفاياه، أمر غير ممكن لعقول البشر القاصرة، ومداركهم المحدودة. وباب ذلك أن يقر العبد بعجزه عن إدراك كنه صفات الله تعالى، فضلا عن ذاته، وآثار أفعاله!! قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. الأنعام/124، وقال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الحج/75، وقال سبحانه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. القصص/68
فالله عز وجل يصطفي من يشاء، وينعم على من يريد، ويعطي هذا، ويحرم غيره، وذلك لكمال قدرته، وعلمه، وحكمته، فهو الرب العظيم، الكبير المتعال، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
ولإيضاح ذلك نقول: هل يستطيع أحد أن يحيط بآثار قدرة الله تعالى؟! والجواب الذي لا يصح غيره، هو النفي القطعي. فكذلك الإحاطة بأسرار قضاء الله تعالى، وقدره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة): القدر يتعلق بقدرة الله تعالى، ولهذا قال الإمام أحمد: "القدر قدرة الله تعالى" يشير إلى أن من أنكر القدر، فقد أنكر قدرة الله تعالى، وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء. اهـ.
وقال ابن القيم في (شفاء العليل): المخاصمون في القدر، نوعان:
أحدهما: من يبطل أمر الله، ونهيه، بقضائه، وقدره، كالذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا}.
والثاني: من ينكر قضاءه، وقدره السابق. والطائفتان خصماء الله ... قال الإمام أحمد: "القدر قدرة الله" واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد، وتبحره في معرفة أصول الدين. وهو كما قال أبو الوفاء؛ فإن إنكار القدر، إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابها وتقديرها. اهـ.
ولذلك فقد نص أهل العلم، على أن القدر سر من أسرار الله، لا يجوز التعمق فيه بالنظر، والعقل المجرد.
قال الإمام الطحاوي: أصل القدر، سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان ودرج الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا أو فكرا أو وسوسة، فإنه تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال عز وجل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب، كان من الكافرين. اهـ.
وقال الشيخ مرعي الكرمي في كتابه: (رفع الشبهة والغرر) في معرض كلامه عن الأقوال الفاسدة، في تعليل بعض أفعال الله: وموجب هذا التخليط تعلق أمل هؤلاء بمعرفة حقيقة أسرار أفعال الله تعالى في المكلفين وغيرهم، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته، ويكفي معرفة الحكمة، والتعليل في ثواب وعقاب المكلفين وهو المراد، وإلا فمن المحال معرفة أسرار أفعاله كلها؛ لأن الرب تعالى لا يمثل بالخلق لا في ذاته، ولا صفاته، ولا في أفعاله، بل له المثل الأعلى، فما ثبت لغيره من الكمال، فهو أحق به، وما تنزه عنه من النقص، فهو أحق بتنزيهه عنه سبحانه، وليس كل ما كان ظلما من العبد، يكون ظلما من الرب، ولا ما كان قبيحا من العبد، يكون قبيحا من الرب؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لكن القدرية شبهت في الأفعال، فقاسوا أفعال الله، على أفعال خلقه، وهو أفسد القياس.اهـ.
وعلى أية حال، فإن التفصيل في هذه القضية، ليس هذا موضعه، ولذلك فإنا نحيل السائل للتفصيل في ذلك، على القصيدة التائية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كانت في جواب سؤال بنحو سؤال السائل، وننصح الأخ السائل بالرجوع إلى شرح الشيخ السعدي (الدرة البهية، شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية) فإنه سهل اللفظ، عظيم النفع، وقد ختم الشيخ شرحه، بضرب أمثلة لإيضاح حقيقة مذهب أهل السنة في مسألة القدر. وقال: خاتمة في ذكر أمثلة متنوعة تكشف لك مسألة القضاء والقدر، حيث كان المقام من أهم الأمور، وقد حارت فيه أفهام كثير من الأذكياء، ولم يهتد إلى الصواب المحض كثير من العلماء. وكثير منهم يأخذ مسائله على وجه التقليد، غير مقتنع بوجه يجمع فيه بين الإيمان بشمول القضاء والقدر، مع أن العبد هو الفاعل حقيقة لفعله، وهو الممدوح، أو الملوم على كسبه. مع أن الشيخ ـ يعني ابن تيمية رحمه الله ـ حقق هذا المقام في هذا النظم، غاية التحقيق، وبين فيه الهدى من الضلال، حتى وضح الطريق، لكن الأمثلة تزيد البصير بصيرة، وتزيل عن الشاك الطالب للحق الريب والحيرة. ولهذا، نقول في ضرب الأمثلة المتعلقة بهذه المسألة العظيمة .... اهـ.
ثم ضرب خمسة أمثلة، ينبغي للسائل أن يرجع إليها، بل يقرأ الشرح كله، ليزول عنه ما يجد في هذا الباب، وليقف على جلية مذهب أهل السنة فيه.
والكتاب متوفر على الشبكة العنكبوتية، وقد شرحه الدكتور عبد الرَّزَّاق بنِ عبد المُحسن العبَّاد البَدر، في دروس صوتية، متوفرة أيضا على الشبكة.
والله أعلم.