عنوان الفتوى : الدية المستحقة لأهل القتيل لا تسقط بحبس القاتل تعزيرا
أخي متهم بقضية قتل خطأ بمصر, فهل إذا عرضنا دفع الدية في مقابل عدم سجنه، فرفض أهل القتيل الدية في مقابل سجنه, فهل يلزمنا دفع الدية أيضًا مع سجنه؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب في قتل الخطأ هو: الكفارة على القاتل، والدية على عاقلته، وراجع في ذلك وفي بيان أنواع القتل وما يترتب على كل نوع من أحكام، الفتوى رقم: 11470.
وأما السجن بسبب القتل الخطأ هكذا بإطلاق: فلم يذكره الفقهاء فيما اطلعنا عليه، وإنما ذكروه في القتل العمد إذا لم يُقتَص من القاتل بسبب عدم المكافأة في الدم بينه وبين المقتول، أو بسبب عفو أولياء الدم عن القصاص. وكذلك في حال التسبب في القتل العمد دون مباشرته. وكذلك ذكر بعض أهل العلم السجن في القتل شبه العمد من باب التعزير؛ لما فيه من الإثم وارتكاب الحرمة؛ قال ابن مفلح في (المبدع): يقال: يجب التعزير فيه -يعني شبه العمد-؛ لأن الكفارة حق الله تعالى بمنزلة الكفارة في الخطأ ليست لأجل الفعل، بل بدل النفس الفائتة، فأما نفس الفعل المحرم الذي هو الجناية فلا كفارة فيه، ويظهر هذا بما لو جنى عليه، فلم يتلف شيئًا، استحق التعزير ولا كفارة، ولو أتلف بلا جناية محرمة لوجبت الكفارة بلا تعزير، وإنما الكفارة في شبه العمد بمنزلة الكفارة على المجامع في الصيام والإحرام. اهـ.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) تحت عنوان: (اجتماع التعزير مع الحد أو القصاص أو الكفارة): ... وعند مالك في القتل الذي لا قود فيه، كالقتل الذي عفي عن القصاص فيه، تجب على القاتل الدية، وتستحب له الكفارة، ويضرب مائة، ويحبس سنة، وهذا تعزير قد اجتمع مع الكفارة. وقال البعض في القتل شبه العمد: بوجوب التعزير مع الكفارة، لأن هذه حق الله تعالى، بمنزلة الكفارة في الخطأ، وليست لأجل الفعل، بل هي بدل النفس التي فاتت بالجناية. ونفس الفعل المحرم -وهو جناية القتل شبه العمد- لا كفارة فيه. وقد استدلوا على ذلك: بأنه إذا جنى شخص على آخر دون أن يتلف شيئًا فإنه يستحق التعزير، ولا كفارة في هذه الجناية. بخلاف ما لو أتلف بلا جناية محرمة، فإن الكفارة تجب بلا تعزير. وإن الكفارة في شبه العمد بمنزلة الكفارة على المجامع في الصيام والإحرام. اهـ.
ويستفاد من قوله: "ولو أتلف بلا جناية محرمة لوجبت الكفارة بلا تعزير". أن التعزير في القتل لا يصح إلا في حال لحوق الإثم بالقاتل لارتكابه حرمة. وقد ذكر القرافي في (الفروق) ثمانية مواضع لمشروعية الحبس، ليس لواحد منها علاقة بذلك، إلا الموضع الخامس وهو: "الحبس للجاني تعزيرًا وردعًا عن معاصي الله تعالى".ثم قال بعد سردها: وما عدا هذه الثمانية لا يجوز الحبس فيه. اهـ.
وحبس الجاني تعزيرًا وردعًا لا يتأتى في الخطأ المحض، كالذي يرمي صيدًا فيصيب إنسانًا، أو النائم ينقلب على إنسان فيقتله. فمثله لا يعزر لا بالسجن ولا بغيره. ويبقى الخطأ الذي يأثم صاحبه لتعديه أو تفريطه، كمن حفر حفرة في طريق المسلمين فأدت إلى موت إنسان، وكبعض حوادث السير الناشئة عن إهمال السائق.
والحكم بحبس القاتل في القانون الوضعي هو من هذا الباب أو قريب منه، لأنه ينص على أن ذلك إنما يكون في حالات الإهمال ونحوها؛ قال الدكتور/ حسن الشاذلي في كتاب (الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون) في بيان موقف قانون العقوبات من القتل خطأ، قال: نص قانون العقوبات المصري في المادة 238 على أن: "من تسبب خطأ في موت شخص بأن كان ذلك ناشئًا عن إهماله، أو رعونته، أو عدم احتراسه، أو عدم مراعاته القوانين والمقررات واللوائح والأنظمة، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ... وتكون عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن ست سنين ... إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول مهنته أو حرفته، أو كان عند ارتكابه الخطأ الذي نجم عنه الحادث متعاطيًا عقاقير مخدرة أيًّا كان نوعها، أو كان في حالة سكر بيّن، أو لم يقدم المساعدة وقت الحادث لمن وقعت عليه الجريمة، أو لم يطلب هذه المساعدة مع تمكنه من ذلك ... ومن هذا النص يتيقن لنا أن قانون العقوبات جعل عقوبة القتل خطأ عقوبة تعزيرية ... وهذا النوع من العقوبة سبق أن بيّنّا أنه نوع من العقوبات التعزيرية في الفقه الإسلامي الذي يترك أمر تقديرها لاجتهاد الحاكم أو من يقوم مقامه. اهـ.
وبهذا يتبين أن الحكم بالسجن تعزيرًا للقاتل، لا يلغي الدية المستحقة لأهل القتيل، فيبقى حقهم في الدية قائمًا.
والله أعلم.