عنوان الفتوى : التكسب والسؤال للجهاد.. رؤية شرعية
للجهاد.. رؤية شرعية رقم الفتوى: 273142
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا في عدة فتاوى بيان شروط وجوب الجهاد، ومنها: القدرة على مؤنة الجهاد, وهذا شرط في الجهاد العيني, وفي الكفائي من باب أولى، ويدل على اشتراط ذلك في الجهاد العيني: رفع الحرج عن المعسرين لما استنفرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، فقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ... [التوبة: 91-93]
قال ابن قدامة في (المغني): أَمَّا وُجُودُ النَّفَقَة, فَيُشْتَرَطُ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ }, وَلأَنَّ الْجِهَادَ لا يُمْكِنُ إلا بِآلَةٍ, فَيُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ عَلَى مَسَافَةٍ لا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلاةُ, اشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلزَّادِ، وَنَفَقَةِ عَائِلَتِهِ فِي مُدَّةِ غِيبَتِهِ, وَسِلاحٍ يُقَاتِلُ بِهِ ... اهـ.
وأما فقد المال والنفقة المراد في الآية: فالمراد: فقده من ماله الخاص أو من بيت مال المسلمين، ولذلك يلزم الجهاد إن أعطاه ولي الأمر ما يتمون به, ولا يلزم إن أعطاه له غير ولي الأمر, ولا يأثم بتأخره عن الجهاد حتى تتيسر له المؤنة، ومحل هذا إن كان الجهاد يتطلب سفرا, ونفقة.
أما إن هجم العدو على القرية, وكان الجهاد المطلوب أمام بيته أو قريبا منه, بحيث لا يحتاج لسفر, فلا تشترط المؤنة، ولا يلزم سؤال الناس المؤنة, ولا قبولها منهم إن تبرعوا بها, وإنما يلزم القبول إذا أعطته السلطة المؤنة؛ فقد قال الشربيني في شرح المنهاج: ولا جهاد على ( عادم أهبة قتال ) من نفقة وسلاح, وكذا مركوب إن كان سفر قصر, فإن كان دونه, لزمه إن كان قادرا على المشي فاضل ذلك عن مؤنة من تلزمه مؤنته كما في الحج ... ولو كان القتال على باب داره أو حوله سقط اعتبار المؤن كما ذكره القاضي أبو الطيب وغيره. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: يشترط لوجوب الجهاد: القدرة على تحصيل السلاح. وكذلك لا يجب على الفقير الذي لا يجد ما ينفق في طريقه فاضلا عن نفقة عياله, لقوله عز وجل: { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج }. فإن كان القتال على باب البلد أو حواليه, وجب عليه; لأنه لا يحتاج إلى نفقة الطريق, وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة, ولم يقدر على وسيلة تنقله, لم يجب عليه; لقوله تعالى: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون }. وإن بذل له الإمام ما يحتاج إليه من وسيلة نقل, وجب عليه أن يقبل, ويجاهد; لأن ما يعطيه الإمام حق له, وإن بذل له غير الإمام لم يلزمه قبوله. اهـ.
وقد أوجب بعض أهل العلم السؤال على من كانت المسألة عادته؛ قال ابن العربي في الأحكام:
المسألة السادسة: قوله تعالى: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه }: أقوى دليل على قبول عذر المعتذر بالحاجة, والفقر, عن التخلف في الجهاد, إذا ظهر من حاله صدق الرغبة, مع دعوى المعجزة, كإفاضة العين, وتغيير الهيئة; لقوله: { تولوا وأعينهم تفيض } الآية, ويدل على أنه لا يلزم الفقير الخروج في الغزو والجهاد تعويلا على النفقة من المسألة, حاشا ما قاله علماؤنا دون سائر الفقهاء: إن ذلك إذا كانت عادة لزمه ذلك, وخرج على العادة; وهو صحيح; لأن إذا لم يتغير يتوجه الفرض عليه توجهه عليه, ولزمه أداؤه. اهـ.
وظاهر كلام بعض أهل العلم أنه لا يجب التكسب إن كان الجهاد فرض عين, كما لا يجب تحصيل المال للحج, فكلاهما لا يجب إلا بالاستطاعة, وتحصيل شرط الوجوب -وهو الاستطاعة- غير واجب، فقد جاء في المسودة في أصول الفقه لآل تيمية: .. ولا يجب تحصيل شرط الوجوب.. اهـ.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى: وما لا يتم الوجوب إلا به لا يجب على العبد فعله باتفاق المسلمين، سواء كان مقدورا عليه أو لا، كالاستطاعة في الحج, واكتساب نصاب الزكاة، فإن العبد إذا كان مستطيعا للحج, وجب عليه الحج، وإذا كان مالكا لنصاب الزكاة, وجبت عليه الزكاة، فالوجوب لا يتم إلا بذلك، فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج، ولا ملك النصاب. ولهذا من يقول: إن الاستطاعة في الحج ملك المال، كما هو مذهب أبي حنيفة, والشافعي, وأحمد، فلا يوجبون عليه اكتساب المال ... اهـ.
وقال الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع: وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ شَرْطِ الْوُجُوبِ، بَلْ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. اهــ.
وقال العلامة العثيمين -رحمه الله-:مسألة: هل يجب عليه أن يجمع مالا لكي يزكي؟ وهل يجب عليه إذا تم الحول على نصاب من المال، أن يقوم بما يلزم لإخراج الزكاة؟
الجواب: لا يجب عليه جمع المال ليزكيه، ويجب عليه إذا حال الحول على نصاب من المال أن يقوم بما يلزم لإخراج زكاته. والفرق بينهما: أن ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، وأما ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فتحصيل المال ليزكي تحصيل لوجوب الزكاة, وليس بواجب. ومثله الحج؛ هل نقول: يجب على الإنسان أن يجمع المال ليحج؟ أو نقول: إذا كان عنده مال فليحج؟ الجواب: إذا كان عنده مال فليحج، وأما الأول فلا يجب. انتهى.
وقال الشنقيطي -رحمه الله- في المذكرة : القسم الثالث: ما هو تحت قدرة العبد مع أنه مأمور به كالطهارة للصلاة, والسعي للجمعة .. إلخ.. وهذا واجب على التحقيق، وإن شئت قلت: ( ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب) كالطهارة للصلاة, و(ما لا يتم الواجب المعلق ـ على شرط كالزكاة معلقة على ملك النصاب ، والحج على الاستطاعة ـ إلا به فليس بواجب ) كالنصاب للزكاة, والاستطاعة للحج ، وأوضح من هذا كله أن نقول: ( ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, كالطهارة للصلاة) وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب كالنصاب للزكاة. انتهى.
هذا؛ والمرجو لمن كان عازمًا على الجهاد عزمًا صادقًا, وعجز بسبب فقد المؤنة أن ينال أجر الجهاد؛ وأن يكون مثل المعذورين، كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله, وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر.
وروى الإمام مسلم عن سهل بن حنيف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه.
وفي حديث مسلم: من طلب الشهادة صادقًا أعطيها، ولو لم تصبه.
وقال شيخ الإسلام: وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْفِعْلِ عَزْمًا جَازِمًا، وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ.. كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ: فِيمَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ, فَوَجَدَهَا قَدْ فَاتَتْ, أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا في الفتاوى الكبرى: من نوى الخير، وعمل منه مقدوره, وعجز عن إكماله, كان له أجر عامله؛ كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا, ولا قطعتم واديا, إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة, حبسهم العذر. انتهى. إلى أن قال: وفي الصحيحين عنه أنه قال: إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم. وشواهد هذا كثيرة. انتهى.
والله أعلم.