عنوان الفتوى : زواج الشغار.. حكمه.. تصحيحه.. وما يلزم من الطلاق فيه
سؤالي عن زواج الشغار: حصل في منطقتي أن تزوج اثنان، كل منهما بأخت الآخر كزواج شغار، وهما لا يعلمان حرمته، وبعد فترة من الزمن طلق أحدهما لخلاف مع زوجته، فقام الآخر بتطليق زوجته أيضاً على اعتبار أنها أصبحت محرمة عليه بعد طلاق الآخر لأخته، لكون الزواج شغارا، كما هو متعارف عليه اجتماعياً، أن يطلق الآخر إذا طلق أحدهما، فهل ما قام به الزوج الآخر بعد تطليق الأول صحيح على اعتبار ذلك العرف؟ أم كان ينبغي عليه ـ بعد تنبيهه ـ أن يصحح العقد بدفع المهر كما هو الرأي لدى بعض الفقهاء؟ وعليه ما يلزم من طلق؟ وهل ما يقوم به البعض من زيادة مبلغ زهيد مبرر لصحة العقد في زواج كل منهما لأخت الآخر كزواج شغار، لتحوير اعتباره شغاراً؟ هذا وجزاكم الله عنا كل خير.. مع عميق شكري لمجهودكم وفضلكم المبارك في خدمة الأمة الإسلامية..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اشتمل السؤال على ثلاثة شقوق:
الشق الأول: في صحة الطلاق في نكاح الشغار: فإذا زوج الرجل أخته لآخر على أن يزوجه الآخر أخته ولاصداق بينهما فهذا من نكاح الشغار الصريح المتفق على حرمته والمختلف في بطلانه، فقد نقل الحافظ ابن عبد البر الإجماع على تحريم نكاح الشغار، وحكمه البطلان ووجوب الفسخ عند جماهير الفقهاء وهو الراجح، لما رواه مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ.
ولا أثر للجهل بالحكم في ثبوت البطلان، خلافا للحنفية ورواية عن أحمد وطائفة من فقهاء السلف، فأبطلوا الشرط وصححوا العقد وأوجبوا لكلا المرأتين مهر المثل، وللمزيد في تقرير الخلاف تنظر الفتوى رقم: 70839.
وعلى كلا القولين، فالطلاق نافذ صحيح في العقدين، لأن الطلاق كما يقع على العقد الصحيح يقع على العقد الفاسد المختلف في صحته ويكون ماضيا، قال البهوتي: وَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّتِهِ كَالنِّكَاحِ بِوِلَايَةِ فَاسِقٍ، أَوْ النِّكَاحِ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، أَوْ بِنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا الْبَائِنِ، أَوْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، أَوْ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، أَوْ بِلَا شُهُودٍ، أَوْ بِلَا وَلِيٍّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. اهـ. وهو ما أوضحناه في الفتوى رقم: 140491.
علما بأن طلاق أحد الرجلين أخت الآخر في نكاح الشغار لا يحرم الأخرى على زوجها ولا يوجب مفارقته لها، وإنما الموجب للتفريق بين الزوجين ولحرمة استدامة هذا النكاح عند الجمهور بطلان نكاح الشغار في نفسه، ومع بطلان العقدين فلا قيمة للعرف الاجتماعي المذكور.
وأما الشق الثاني فيما يلزم من طلق في نكاح الشغار: فعلى القول الراجح من فساد نكاح الشغار، فالطلاق يقع طلاقا بائنا لفساد النكاح، فلا رجعة فيه، ويلزم المطلق بمهر المثل إذا طلقها بعد الدخول أو الخلوة لعدم تسمية المهر في صريح الشغار، قال الشيخ منصور البهوتي: وَيَكُونُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَائِنًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ عِوَضًا سُئِلَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُحْكَمْ بِصِحَّتِهِ فَيَكُونُ كَالصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ... وَيَثْبُتُ فِيهِ ـ أَيْ النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّتِهِ ـ النَّسَبُ إنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ، وَالْعِدَّةُ إنْ دَخَلَ أَوْ خَلَا بِهَا، وَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى إنْ دَخَلَ بِهَا كَالصَّحِيحِ... اهـ.
علما بأنه إذا ثبتت العدة على المرأة بسبب الدخول أو الخلوة، فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملا، لأنه طلاق بائن، وقد قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُنْظُرِي يَا بِنْتَ قَيْسٍ إنَّمَا النَّفَقَةُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّجْعَةُ فَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَثْرَمُ وَالْحُمَيْدِيُّ.
وقال الرحيباني: وَتَجِبُ النفقة لِحَامِلٍ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، لِلُحُوقِ نَسَبِهِ فِيهِمَا. اهـ.
وأما عن الشق الثالث في تصحيح عقد الشغار بدفع شيء من المال للزوجة كمهر بعد العقد: فهذا لا يصحح العقد الباطل. لكن إذا قضت المحكمة الشرعية بصحته صح العقد وفاقا للمذهب الحنفي، لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، ويترتب على ذلك استحقاق الزوجة مهر المثل لعدم التسمية في العقد.
وأما تصحيح نكاح الشغار بجعل شيء من المال مهرا لكلا الزوجتين في نفس العقد، كأن قال: زوجني أختك وأزوجك أختي ومهر كل منهما مائة ريال، فهذا يسمى بوجه الشغار، وفي صحته خلاف بين الفقهاء، فالجمهور على صحته وقالت المالكية بفساده ووجوب فسخه قبل الدخول لا بعده، وهو ما أوضحناه في الفتوى رقم: 6903.
لكن اشترط الشافعية والحنابلة لصحته عدم التصريح بالتشريك بين المسمى والبضع، ويوضحه ما ذكره شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، حيث قال: وَكَذَا لَا يَصِحُّ لَوْ ذَكَرَ مَعَ الْبُضْعِ مَالًا كَقَوْلِهِ: زَوَّجْتُك بِنْتِي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَك بِأَلْفٍ وَبُضْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَدَاقُ الْأُخْرَى، فَيَقُولُ: الزَّوْجُ تَزَوَّجْت بِنْتَك وَزَوَّجْتُك بِنْتِي عَلَى ذَلِكَ، لِوُجُودِ التَّشْرِيكِ الْمَذْكُورِ.
وزاد الحنابلة شرطا آخر لصحة وجه الشغار وهو ألا يكون دفع المال الزهيد حيلة على الشغار الصريح، وهو متجه، لأن الاحتيال على الحرام حرام، لقول النّبيّ صَلَى اللّه عليه وسَلّم: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل. رواه ابن بطة، وجود إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع.
وقال الرحيباني: قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَا حِيلَةَ، فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ قَلِيلًا حِيلَةً، لَمْ يَصِحَّ، لِمَا تَقَدَّمَ فِي بُطْلَانِ الْحِيَلِ عَلَى مُحَرَّمٍ. انتهى.
وننبه أخيرا إلى أنه لا ينبغي اللجوء إلى مثل هذه الصور المختلف فيها، لما في ذلك من الإضرار بالنساء المنكوحات، وتقديم مصلحة الأزواج وشهواتهم على مصالح مولياتهم، وفي هذا ما فيه من الإخلال بالأمانة، ولكن ليعقد على كل امرأة على حدة، حسبما تقتضيه مصلحتها هي، كما أرشد الشارع إلى ذلك.
والله أعلم.