عنوان الفتوى : المفاضلة بين التداوي وتركه، وماهية ترتيب المثوبات على الأسقام والمصائب
من لديه اضطراب نفسي، والاضطراب يؤثر بشكل مباشر على حياته، وإنتاجه، إذا قرر إيقاف أخذ الدواء بعد فترة قصيرة من أخذه (علماً أن هذا الاضطراب يحتاج إلى علاج طويل، بضع سنوات، أو ربما مدى الحياة) لينال فضيلة الصبر (كما في حديث المرأة السوداء). أولاً: هل إذا قام بعمل أشياء أخرى طبيعية غير العقاقير (ممارسة الرياضة، تناول أنواع طعام أو شراب معينة) لتحسين حالته النفسية - وتحسنت حالته - لا ينال فضيلة الصبر باعتبار أن بعض الأمور قد يقوم مقام الدواء (ثبت بالدراسة مثلاً أن الرياضة المنتظمة وحدها تعطي نفس النتائج الإيجابية للدواء عند المصابين بالاكتئاب)؟ ثانياً: هل إذا كان هذا المصاب بالاضطراب بعينه لديه أمور يمكن أن يخدم بها الدين حقاً (بعض الأفكار، والمشاريع وما شابهها) لكن حالته النفسية دون علاج تعرقل مسيرته بشكل كبير جداً، بل تكاد توقفه عن أداء أهم واجباته الدنيوية في بعض الأحيان. فهل الأولى لهذا المريض أخذ الدواء، والسعي لخدمة الدين أم إن الصبر يقوم مقام تلك الأمور الأخرى، ويسد النقص، ويعوض الأجور التي كان سيأخذها فيما لو تعالج وخدم الدين؟ ثالثاً: ما هي أفضل درجات التوكل على الله تعالى، واليقين؟ وما هو الأعظم أجراً في هاتين الحالتين: أخذ الدواء أم عدم أخذه، الدعاء بالشفاء أم عدم الدعاء؟ رابعاً: إذا عانى المصاب لفترة طويلة من هذا الاضطراب، وكان صابرا بفضل الله تعالى، لا يتذمر، ولكنه لم يكن يعلم أن لديه اضطرابا لكي يحتسب الأجر. فهل ينال الأجر عن السابق في هذه الحالة؟ جزاكم الله تعالى خيراً.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن جميع الأسباب التي يفعلها المريض بقصد رفع المرض هي من التداوي، ومن ذلك: ممارسة الرياضة، أو تناول أنواع طعام أو شراب معينة، فمن فعلها لرفع مرضه، فلا يعد تاركا للتداوي.
فقد جاء تعريف التداوي في معجم لغة الفقهاء: استعمال ما يكون به شفاء المرض بإذن الله تعالى من عقار، أو رقية، أو علاج طبيعي .اهـ.
وأما سؤالك: ما هي أفضل درجات التوكل على الله تعالى، واليقين؟ وما هو الأعظم أجراً في هاتين الحالتين: أخذ الدواء أم عدم أخذه، الدعاء بالشفاء أم عدم الدعاء؟
فجوابه ينبني على حكم التداوي، والعلماء مختلفون في ذلك.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: قد ذهب جمهور العلماء -الحنفية، والمالكية - إلى أن التداوي مباح، غير أن عبارة المالكية: لا بأس بالتداوي. وذهب الشافعية، والقاضي، وابن عقيل، وابن الجوزي من الحنابلة إلى استحبابه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بالحرام. وغير ذلك من الأحاديث الواردة، والتي فيها الأمر بالتداوي. قالوا: واحتجام النبي صلى الله عليه وسلم، وتداويه، دليل على مشروعية التداوي. ومحل الاستحباب عند الشافعية عند عدم القطع بإفادته. أما لو قطع بإفادته كعصب محل الفصد، فإنه واجب. ومذهب جمهور الحنابلة: أن تركه أفضل، ونص عليه أحمد، قالوا: لأنه أقرب إلى التوكل. اهـ.
والأدلة محتملة، لكن المختار عندنا: أن من قوي توكله، وحسن ظنه بالله، ووطن نفسه على الرضا بأقدار الله تعالى ـ أيا كانت ـ فالأفضل في حقه الصبر على الألم وعدم التداوي، أو الدعاء برفع المرض، ما لم يبلغ به حد الضرر والهلاك. وأما من ضعفت نفسه، وخشي عليها الجزع أو التسخط، فالأفضل أن يأخذ بالأيسر . كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 131487. والفتوى رقم: 32179.
وعلى هذا القول: فقد ذهب بعض الأئمة إلى تفضيل الصبر على المرض وإن كان يعيق عن الأعمال الصالحة الواجبة والمستحبة.
جاء في قوت القلوب: وقد كان مذهب سهل أن ترك التداوي - وإن أضعف عن الطاعات، وقصر عن الفرائض - أفضل من التداوي لأجل الطاعات، وكانت به علّة، فلم يكن يتداوى منها، وقد كان يداوي الناس منها، وكان إذا رأى العبد يصلّي من قعود، أو لا يستطيع أعمال البرّ من الأمراض، فيتداوى للقيام في الصلاة، والنهوض إلى الطاعة، يعجب من ذلك ويقول: صلاته من قعود مع رضاه بحاله، أفضل له من التداوي للقوة، ويصلّي من قيام. اهـ.
وذهب آخرون إلى أن فضيلة الصبر على المرض مختصة بمن لم يعقه المرض عن نفع المسلمين.
جاء في مرقاة المفاتيح: (فقال: " إن شئت صبرت ولك الجنة): فيه إيماء إلى جواز ترك الدواء بالصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، بل ظاهره أن إدامة الصبر مع المرض أفضل من العافية، لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد ممن لا يعطله المرض عما هو بصدده عن نفع المسلمين، وأن ترك التداوي أفضل، وإن كان يسن التداوي؛ لخبر أبي داود وغيره «قالوا: أنتداوى؟ فقال: " تداووا ; فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير الهرم» " وأنه لا ينافي التوكل إذ فيه مباشرة الأسباب مع شهود خالقها; ولأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله، وهو سيد المتوكلين، ومع ذلك ترك التداوي توكلا كما فعله أبو بكر - رضي الله عنه - فضيلة. اهـ.
وبهذين النقلين يتبين جواب الجزئية الثانية من سؤالك.
وأما الجزئية الرابعة: فإن الأمراض كفارات بذاتها، ولا تفتقر إلى صبر ولا نية، لكن الذي يفتقر إلى النية هو الثواب والأجر على عبوديتي الصبر والرضا.
قال القرافي: كل مؤلم للمؤمن كفارة له؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - (لا يصيب المؤمن وصب، ولا نصب حتى الشوكة يطؤها إلا كفر الله بها من ذنوبه) والسخط معصية، والصبر قربة، وعمل صالح. فإذا تسخط، حصلت سيئة قدر التي كفر بها المصيبة، أو أقل، وأعظم بحسب كثير السخط وقليله، وعظم المصيبة وصغرها؛ فإن التكفير تابع لذلك، فالتكفير واقع قطعا سخط أو صبر، غير أنه إن صبر اجتمع التكفير والأجر. وإن سخط قد يعود المكفر بما جناه ثانيا بالتسخط أو أقل منه، أو أكثر وعليه يحمل ما في بعض الأحاديث من ترتيب المثوبات على المصائب، أي إذا صبر، وإلا فالمصيبة لا ثواب فيها قطعا من جهة أنها مصيبة؛ لأنها ليست من كسبه، ولا ثواب إلا في مكتسب. والتكفير يكون بغير المكتسب كالعذاب، وسائر العقوبات. اهـ من الذخيرة.
وقال ابن القيم: وذكر عن أبي معمر الأزدي قال: كنا اذا سمعنا من ابن مسعود شيئا نكرهه، سكتنا حتى يفسره لنا، فقال لنا ذات يوم: ألا إن السقم لا يكتب له أجر، فساءنا ذلك، وكبر علينا، فقال: ولكن يكفر به الخطيئة، فسرنا ذلك، وأعجبنا. وهذا من كمال علمه، وفقهه ـ رضي الله عنه ـ فإن الأجر إنما يكون على الأعمال الاختيارية ومما تولد منها، كما ذكر الله سبحانه النوعين في آخر سورة التوبة في قوله في المباشر من الإنفاق وقطع الوادي: إلا كتب لهم ـ وفي المتولد من إصاب الظمأ، والنصب، والمخمصة في سبيله، وغيظ الكفار: إلا كتب لهم به عمل صالح ـ فالثواب مرتبط بهذين النوعين. وأما الأسقام والمصائب: فإن ثوابها تكفير الخطايا؛ ولهذا قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ـ والنبي إنما قال في المصائب: كفر الله بها من خطاياه ـ وحصول الحسنة، إنما هو بصبره الاختياري عليها وهو عمل منه. اهـ.
وعليه؛ فالذي لا يعلم بنوع مرضه تكفر به سيئاته، وإن هو صبر على ما يؤذيه أجر على صبره، وإن كان لا يدري نوع المرض بخصوصه.
والله أعلم.