عنوان الفتوى : كيف يكون القرآن صفة لله وهو حال في الخلق؟
أتمنى من فضيلتكم تبيان ما أشكل في مسألة خلق القرآن، فقد قرأت أن عقيدة أهل السنة والجماعة تقول بعدم خلق القرآن، وتحكم على الشخص بالكفر إن قال بخلق القرآن، وذلك راجع إلى أنهم اعتبروا القرآن صفة من صفات الله، فبنوا على ذلك تكفير من زعم أن صفات الله مخلوقة، فكيف يكون القرآن صفة من صفات الله، ومن المعلوم أن الصفة لا تنفك عن الموصوف، وبإجماع الأمة نعلم أن القرآن في المصاحف، والصدور؛ إذ إن من المقرر عند أهل السنة أن الله لا يحل في خلقه، ولا صفة من صفاته، فكيف يكون القرآن صفة وهو حال في الخلق؟ أتمنى من فضيلتكم جوابًا شافيًا، وافيًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالكلام صفة للمتكلم، ومهما سمعه غيره، أو حفظه، أو كتبه، فإن الصفة لا تنتقل، ولا تحل بالغير، ومثال ذلك: إذا كنت تحفظ حديث: إنما الأعمال بالنيات. مثلًا، وتكتبه في كتاب، فإنك تقول: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تكلم به حقيقة، ومع ذلك هو في صدرك، وفي الكتاب، ولا يعني هذا أن صفة الكلام التي اتصف بها صلى الله عليه وسلم قد حلت في صدرك، أو كتابك! ولهذا قال من قال من أهل السنة: الكلام ينسب إلى من قاله مبتدئًا، لا لمن قال مبلغًا، أو مؤديًا، وإنما حصل اللبس في هذه المسألة، أن الكلام، وجوده العيني يتحد مع وجوده اللفظي، فالذي يبلغ بلفظه الكلام الذي تكلم به غيره، يبلغه بنفس المرتبة الوجودية التي حصلت له في الأول.
وبيان هذا أن للشيء أربعة مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في الخط، وهذه المراتب الأربعة تتحقق منفصلة في الأعيان القائمة بنفسها، كالشمس مثلًا، فوجودها الخارجي شيء، ووجودها الذهني شيء، ووجودها اللساني شيء، ووجودها في الكتاب شيء.
أما الكلام فتتحد فيه المرتبتان اللفظية، والخارجية؛ ولهذا حصل اللبس، والاشتباه في هذه المسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وليس معنى قول السلف والأئمة: إنه منه خرج، ومنه بدا، أنه فارق ذاته، وحل بغيره؛ فإن كلام المخلوق إذ تكلم به لا يفارق ذاته، ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى:{ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم، وأيضًا فالصفة لا تفارق الموصوف، وتحل بغيره، لا صفة الخالق، ولا صفة المخلوق، والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بلغوه عنه، كان الكلام الذي بلغوه، كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغوه بحركاتهم، وأصواتهم، فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ؛ قال تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } وقال صلى الله عليه وسلم: { زينوا القرآن بأصواتكم }. اهـ.
وقال أيضًا: وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين، لا كلام غيره، فمن قال: إن الذي في المصحف ليس كلام الله، بل كلام غيره، فهو ملحد، مارق، ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، كما كتب في المصاحف، وأن المراد قديم أزلي، فهو أيضًا مارق، بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق، وهو لم يفارق ذواتهم، فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى. اهـ.
وقد تناول ابن القيم هذه المسألة بتوسع واستفاضة، ومما قال في ذلك ـ كما ذكره ابن الموصلي في مختصر الصواعق المرسلة: إذا قيل: حروف المعجم قديمة أو مخلوقة؟ فجوابه أن الحرف حرفان: فالحرف الواقع في كلام المخلوقين مخلوق، وحروف القرآن غير مخلوقة، فإن قيل: كيف الحرف الواحد مخلوق، وغير مخلوق؟ قيل: ليس بواحد بالعين، وإن كان واحدا بالنوع، كما أن الكلام ينقسم إلى مخلوق، وغير مخلوق، فهو واحد بالنوع لا بالعين، وتحقيق ذلك أن الشيء له أربع مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في الخط، فالمرتبة الأولى: وجوده العيني، والثانية: وجوده الذهني، والثالثة: وجوده اللفظي، والرابعة: وجوده الرسمي.
وهذه المراتب الأربعة تظهر في الأعيان القائمة بنفسها، كالشمس مثلًا، وفي أكثر الأعراض أيضًا، كالألوان، وغيرها، ويعسر تمييزه في بعضها، كالعلم، والكلام، أما العلم فلا يكاد يحصل الفرق بين مرتبته في الخارج، ومرتبته في الذهن، بل وجوده الخارجي مماثل لوجوده الذهني، وأما الكلام فإن وجوده الخارجي ما قام باللسان، ووجوده الذهني ما قام بالقلب، ووجوده الرسمي ما أظهر الرسم، فأما وجوده اللفظي فقد اتحدت فيه المرتبتان الخارجية واللفظية. اهـ.
إلى أن قال: قال إبراهيم الحربي: كنت جالسًا عند أحمد بن حنبل، إذ جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله إن عندنا قومًا يقولون: إن ألفاظهم بالقرآن مخلوقة؟ قال أبو عبد الله: يتوجه العبد لله بالقرآن بخمسة أوجه، وهو فيها غير مخلوق: حفظ بقلب، وتلاوة بلسان، وسمع بأذن، ونظرة ببصر، وخط بيد، فالقلب مخلوق، والمحفوظ غير مخلوق، والتلاوة مخلوقة، والمتلو غير مخلوق، والسمع مخلوق، والمسموع غير مخلوق، والنظر مخلوق، والمنظور إليه غير مخلوق، والكتابة مخلوقة، والمكتوب غير مخلوق ... . ففرق أحمد بين فعل العبد وكسبه، وما قام به، فهو المخلوق، وبين ما تعلق به كسبه وهو غير مخلوق، ومن لم يفرق هذا التفريق لم يستقر له قدم في الحق، فإن قيل: كيف يكون المسموع غير مخلوق، وإنما هو صوت العبد، وأما كلامه سبحانه القائم به فإنا لا نسمعه، وكيف يكون المنظور إليه غير مخلوق، وإنما هو المداد والورق، وكيف يكون المحفوظ غير مخلوق، وإنما هو الصدر، وما حواه، واشتمل عليه، فهل انتقل القديم، وحل في المحدث، أو اتحد به، وظهر فيه؟ فإن أزلتم هذه الشبهة انجلى الحق، وظهر الصواب، إلا فالغبش موجود والظلمة منعقدة؟
قيل: قد زال الغبش - بحمد الله - وزالت الظلمة ببعض ما تقدم، ولكن ما حيلة الكحال في العميان؟ فمن يشك في القلب، وصفاته، واللسان، وحركاته، والحق وأصواته، والبصر ومرئياته، والورق ومداده، والكاتب وآلاته. اهـ.
وأورد الذهبي في العلو للعلي الغفار عن محمد بن أسلم الطوسي قوله: القرآن كلام الله غير مخلوق، أينما تلي، وحيثما كتب، لا يتغير، ولا يتحول، ولا يتبدل. ثم قال: صدق والله، فإنك تنقل من المصحف مائة مصحف، وذاك الأول لا يتحول في نفسه، ولا يتغير، وتلقن القرآن ألف نفس، وما في صدرك باق بهيئته، لا يفصل عنك، ولا يغير؛ وذاك لأن المكتوب واحد، والكتابة تعددت، والذي في صدرك واحد، وما في صدور المقرئين وهو عين ما في صدرك سواء، والمتلو وإن تعدد التالون به واحد، مع كونه سورًا وآيات، وأجزاء متعددة، وهو كلام الله، ووحيه، وتنزيله، وإنشاؤه ليس هو بكلامنا أصلًا، نعم، وتكلمنا به، وتلاوتنا له، ونطقنا به من أفعالنا، وكذلك كتابتنا له، وأصواتنا به من أعمالنا، قال الله عز وجل: {والله خلقكم وما تعملون} فالقرآن المتلو مع قطع النظر عن أعمالنا، كلام الله ليس بمخلوق، وهذا إنما يحصله الذهن، وأما في الخارج فلا يتأتى وجود القرآن إلا من تال، أو في مصحف، فإذا سمعه المؤمنون في الآخرة من رب العالمين، فالتلاوة إذ ذاك والمتلو ليسا بمخلوقين. اهـ.
ومما يقرب جواب الإشكال أيضًا أن القرآن المجيد من علم الله تعالى، فإذا حفظه العبد في صدره، لا يقال: إن صفة العلم الثابتة لله تعالى، حلت في صدر العبد!! ولا يزال الأئمة يستدلون على كفر من قال بخلق القرآن بهذا الإلزام، ومن ذلك ما نقله عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة عن أبيه قال: من قال: القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} وقال عز وجل: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} ... اهـ.
وقال الخلال في كتاب السنة: قال أبو عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ فالقرآن من علم الله، ألا تراه يقول: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} والقرآن فيه أسماء الله ... مَنْ زعم أن أسماء الله عز وجل مخلوقة فقد كفر، لم يزل الله عز وجل قديرًا، عليمًا، عزيزًا، حكيمًا، سميعًا، بصيرًا، لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة، ولسنا نشك أن علم الله تبارك وتعالى ليس بمخلوق، وهو كلام الله عز وجل .. ثم قال أبو عبد الله: وأي كفر أبين من هذا؟! وأي كفر أكفر من هذا؟! فإذا زعموا أن القرآن مخلوق، فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة، وأن علم الله مخلوق، ولكن الناس يتهاونون بهذا، ويقولون: إنما يقولون القرآن مخلوق، فيتهاونون، ويظنون أنه هين، ولا يدرون ما فيه من الكفر. اهـ.
وقال الآجري في: الشريعة: اعلموا- رحمنا الله وإياكم- أن قول المسلمين الذين لم يزغ قلوبهم عن الحق، ووفقوا للرشاد قديمًا وحديثًا: أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق؛ لأن القرآن من علم الله، وعلم الله لا يكون مخلوقًا، تعالى الله عن ذلك. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: ولهذا أخبر الله بأن القرآن لما جاءه، جاءه العلم، فقال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} [آل عمران: 61] وقال: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم} [البقرة: 120] وهذا مما احتج به الأئمة في تكفير من قال بخلق القرآن، وقالوا: قولهم يستلزم أن يكون علم الله مخلوقًا؛ لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم، ولم يعن علم غيره، فلا بد أن يكون عنى أنه من علمه، ومن جعل علم الله مخلوقًا، قائمًا بغيره، فهو كافر، ولا ريب أن كل واحد من أمر الله وخبره، يتضمن علمه سبحانه. اهـ.
والله أعلم.