عنوان الفتوى : فضل صلاة الجماعة لمن أدركها من أولها أو آخرها
هل يقل الثواب أو يزيد بحسب ما يدرك المرء من صلاة الجماعة؟ فمن أدرك أولها فهل يثاب أكثر مما لو أدرك آخرها مثلًا؟ وإذا أدرك المرء الإمام في التشهد الأخير، فهل تكتب له جماعة، سواء كان عذر التأخير قهريًا، أم يمكن تجنبه - جزاكم الله خيرًا كثيرًا -؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيحسن بنا أن نفرق بين فضل الجماعة من حيث الأصل، وبين الثمرات التي يجنيها المصلي من وراء صلاة الجماعة.
فأما عن إدراك أصل فضيلة الجماعة، فيقول ابن عبد البر: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" يوجب الإدراك التام للوقت، والحكم، والفضل - إن شاء الله - إذا صلى تمام الصلاة، ألا ترى أن من أدرك الإمام راكعًا، فدخل معه، وركع قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركعة، أنه مدرك عند الجمهور حكم الركعة، وأنه كمن ركعها من أول الإحرام مع إمامه؟ فكذلك مدرك ركعة من الصلاة مدرك لها.
وقد أجمع علماء المسلمين أن من أدرك ركعة من صلاة من صلاته لا تجزئه، ولا تغنيه عن إتمامها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" وهذا نص يكفي ويشفي، فدل إجماعهم في ذلك على أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وأن فيه مضمرًا بينه الإجماع، والتوقيف، وهو إتمام الصلاة وإكمالها، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك ركعة من الصلاة مع إمامه، ثم قام بعد سلام إمامه، وأتم صلاته وحده على حكمها، فقد أدركها، كأنه قد صلاها مع الإمام من أولها، هذا تقدير قوله ذلك صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا من الإجماع، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان ذلك كذلك فغير ممتنع أن يكون مدركًا لفضلها، وحكمها، ووقتها. ا.هـ
وقد سبق بيان اختلاف العلماء في إدراك الجماعة، هل يحصل بإدراك ركعة، أم بإحرام المأموم قبل تسليم إمامه، وقد بينا ذلك في الفتوى رقم: 21306، وينبني على ذلك أن من دخل في التشهد الأخير، فقد فاتته فضيلة الجماعة على القول الأول، بينما ينالها بناء على الرأي الثاني، هذا كله من حيث أصل ثواب الجماعة.
أما الثمرات التي يجنيها المصلي في الجماعة: فلا شك أنها تتفاوت، فمن دخل في الصلاة من أولها ينال من الخير ما لا يناله من دخل في آخرها، فالصلاة روضة من رياض العبادات، وكل مصل ينال منها بحسب ما يضرب بسهمه فيها، فليس من أدرك تكبيرة الإحرام مثلًا كمن فاتته، حتى وإن أدرك الجماعة، فقد دلت النصوص الصحيحة على عظم الأجر في إدراك تكبيرة الإحرام، وانظري الفتويين: 35206، 37775.
وليس من حضر قراءة الفاتحة، وأمن عليها، ووافق تأمينه تأمين الملائكة، كمن فاته ذلك، حتى وإن نال أصل فضيلة الجماعة، ففي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن أبا هريرة كان يقول: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة. بينما قال الزرقاني عن بلاغ مالك: وبلاغه ليس من الضعيف؛ لأنه تتبع كله فوجد مسندًا من غير طريقه. وفي تعليله لقول أبي هريرة: ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير، قال: لموضع التأمين، وما يترتب من غفران ما تقدم من ذنبه، قاله ابن وضاح، وغيره.
وفي المرقاة: قال الطيبي: أي: من أدرك الركوع، وفاته قراءة أم الكتاب، وإن أدرك الركعة، فقد فاته ثواب كثير. اهـ. وتبعه ابن حجر، وإنما يصح هذا لو كان التأخير بنوع من التقصير، مع أنه لا خصوصية بفوت قراءة الفاتحة؛ إذ الحكم عام في كل ما يفوت المقتدي. اهـ.
وبذلك يتضح أن هناك تفاوتا في الثواب، بحسب ما يدرك المرء من الصلاة، حتى وإن نال أصل فضيلة الجماعة.
ثم إن هذا كله فيمن كان تأخره بنوع تقصير، كما نقلنا عن المرقاة.
أما من تأخر بعذر معتبر شرعًا، فإن الله جل وعلا يتفضل عليه بالثواب الكامل عما فاته، حتى وإن فاتته الجماعة بالكلية.
يقول ابن عبد البر: وأما الفضل، فلا يدرك بقياس، ولا نظر؛ لأن الفضائل لا تقاس، فرب جماعة أفضل من جماعة، وكم من صلاة غير متقبلة من صاحبها، وإذا كانت الأعمال لا تقع المجازاة عليها إلا على قدر النيات، وهذا ما لا اختلاف فيه، فكيف يعرف قدر الفضل مع مغيب النيات عنا؟ والمطلع عليهما العالم بها يجازي كلًّا بما يشاء لا شريك له، وقد يقصد الإنسان المسجد، فيقوم القوم منصرفين من الصلاة، فيكتب له أجر من شهدها لصحة نيته، والله أعلم. اهـ.
وقد روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن توضّأ فأحسَنَ وضوءَه، ثمَّ راحَ فوجد الناسَ قد صلّوا، أعطاه الله عز وجل مثلَ أجرِ مَن صلاّها، وحَضَرَها، لا يَنقُصُ ذلك من أجرِهم شيئاً. قال المباركفوري: وَذَلِكَ لِكَمَالِ فَضْلِ اللَّهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ التَّأْخِيرُ نَاشِئًا عَنِ التَّقْصِيرِ. انتهى
وانظري الفتوى رقم: 29336.
والله أعلم.