عنوان الفتوى : حكم مقاطعة الوالدة الواقعة في بعض الكبائر
أبي طلق أمي منذ أربع سنوات، وهي زانية وخائنة على حد قوله، وبناءً على أشياء أخرى لاحظتها عليها أريد القطيعة معها، فما رأي الدين في ذلك؟ مع العلم أنني أعيش في مشاكل مع أبي بسببها.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن حق الأم ووجوب برها، وحرمة قطيعتها، قد تضافرت الأدلة الشرعية على تقريره، فقد أمر الله جل وعلا بصحبة الوالدين بالمعروف وإن كانا مشركين ودعوا الابن إلى الشرك، فقال سبحانه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان:15}.
فمن باب أولى إن كانت الوالدة مسلمة وتلطخت بشيء من المعاصي، والنصوص الحاضة على الإحسان إلى الوالدين مطلقة ولم تقيد باستقامتهما أو ببعدهما عن الخطايا، كقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {الإسراء:23}، وقوله سبحانه : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا {الأحقاف:15}.
فلا يحل هجرة الوالدة وقطيعتها لانحرافها ووقوعها في شيء من المنكرات، جاء في كتاب أحكام الهجر والهجرة في الإسلام للبدراني: لا يجوز للمسلم أن يهجر والديه مهما بدر منهم إليه من الإساءة، والله تعالى يقول في شأن الوالدين الكافرين اللذين يدعوان إلى الكفر: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ـ ويقول تعالى في الوالدين عموماً: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ـ وأي إساءة أعظم من الهجر.
يقول الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ في أحد فتاويه مُفرَقاً بين هجر الأقارب عموماً وبين هجر الوالدين: وهكذا الرجل إذا كان إخوانه يضرونه، أو أعمامه، أو أخواله في مجالسهم، فلا حرج أن يترك الذهاب إليهم، بل يشرع له ترك الذهاب إليهم وهجرهم، إلا إذا كانت الزيارة يترتب عليها النصيحة والتوجيه وإنكار المنكر، هذا طيب، إذا زارهم ينكر عليهم ويعظهم ويخوفهم من الله لعل الله أن يهديهم بأسبابه، فهذا مطلوب مشروع، له أن يذهب إليهم للنصيحة والتوجيه، إلا الوالدين فالوالدان لهما شأن، الوالدان لا، لا يهجر والديه، بل يزور الوالدين ويعتني بالوالدين وينصح الوالدين ولا يهجرهما، لأن الله جل وعلا قال سبحانه وتعالى في كتابه العظيم في حق الوالدين: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ـ أُمر أن يصحبهما بالمعروف, وإن جاهداه على الشرك، لعل الله أن يهديهما بأسبابه، لأن حقهما عظيم، وبرهما من أهم الواجبات، فلا يهجرهما، ولكن يتلطف فيهما، وقد اجتهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أبيه مع أنه مشرك معلن بالشرك، ومع هذا اجتهد إبراهيم في دعوة أبيه عليه الصلاة والسلام، فالمقصود أن الوالدين لهما شأنٌ عظيم، فلا يهجرهما الولد، بل يتلطف في نصيحتهما وتوجيههما إلى الخير... انتهى.
وعلى هذا، يتبين لك أخي المسلم أنه يسن هجرة أهل المعاصي في الجملة، ويجب أحياناً ويُكره أحياناً، أما الوالدان، فلهما حق زائد عن بقية الناس، فيهجران في المعاصي التي يفعلانها ويستمر البر بهما في بقية الأوقات، ولا يجوز لك مقاطعة أحدهم بسبب معصيته، إلا أن بعض أهل العلم أجاز هجرهم في حدود ضيقة إذا تعين هجرهم طريقاً لاستصلاحهم فتجوز حينئذٍ، فقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يجوز الهجر للوالدين المسلمين إذا كان في مصلحة شرعية؟ فأجاب: نعم إذا كان في هجر الوالدين مصلحة شرعية لهما، فلا بأس من هجرهما، لكن لا يقتضي ذلك منع صلتهما، صلهما بما يجب عليك أن تصلهما به، كالإنفاق عليهما، في الطعام والشراب والسكن وغير ذلك. اهـ.
واعلم أن عقوق الوالدة وقطيعتها من كبائر الذنوب، قال الحجاوي في نظم الكبائر:
شَهادَةُ زُوْرٍ ثُمَّ عَقٌّ لِوالِدٍ وَغِيْبَةُ مُغْتابٍ نَمِيمَةُ مُفْسِد.
فعليك بصلة والدتك والإحسان إليها، ونصيحتها ودعوتها إلى الهدى بالأسلوب الأمثل، وارفع أكف الضراعة إلى الله أن يفتح على قلب والدتك ويهديها، واعلم أنه لا يجوز اتهام المسلم وقذفه دون بينة، ومن فعل ذلك فقد وقع في محذور عظيم، فلا يجوز لك اتهام والدتك دون بينة، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 22420.
والله أعلم.